علم في الميدان ..

لا شك أن العلم من أفضل القربات لله _تعالى_ فقد تكاثرت الآيات والأخبار والآثار وتواترت وتطابقت الدلائل الصريحة وتوافقت على فضيلة العلم والحث على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه.
قال الله _تعالى_: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " وقال _عز وجل_" وقل ربِ زدني علماً " وقال _تعالى_: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وقال الله: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ", فكفى بذلك شرفا لأهل العلم وفضلا وإجلالا ونبلا حيث بدأ _سبحانه_ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأولي العلم خاصة من دون سائر عباده المؤمنين.
وقال _سبحانه_ " وقل ربِ زدني علماً ", قال القرطبي: " فلو كان شيء أفضل من العلم لأمر الله _تعالى_ نبيه _صلى الله عليه وسلم_ أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم ", وقال الله: " يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أتوا العلم درجات ", قال ابن عباس: " يرفع الله العلماء يوم القيامة على سائر المؤمنين بسبعمائة درجة مابين الدرجتين خمسمائة عام.
وفي الصحيحين عن معاوية _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ".
وعن أبي الدر داء _رضي الله عنه_ قال: سمعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقول: " من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء " الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.

ولكن ليس كل من طلب العلم يصدق عليه الآيات والأحاديث السابقة بل لا ينال هذا الثواب إلا العالم العامل بعلمه المخلص الصادق الذي تعلم لله وعلم الناس لله وعمل بعلمه لله. ودعا الخلق إلى الله بطريق العلم وزهد في الفانيات ورغب في الباقيات الصالحات وتورع عن الحرام والشبهات وعرف الله بما يجب له من الأسماء والصفات.
لذلك بوب الأمام البخاري في صحيحة باب " العلم قبل القول والعمل لقول الله _تعالى_: " فاعلم أنه لا إله إلا الله ", قال الحافظ في الفتح (1/193): قال بن المنيَر: أراد به العلم شرط في صحة القول والعمل. فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل ".
إذا تبين لك هذا فاعلم أن هذا العلم لابد أن يتبعه عمل. فإن العمل هو ثمرة العلم وهو أساس العلم ومقصودة. فيجب على طلبة العلم العمل بما علموا وإلا كان هذا العلم عليهم حسرة ووبال..
قال الله _تعالى_ - في ذم اليهود -: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات والله لا يهدي القوم الظالمين ".
فإن الله _عز وجل_قد ذم اليهود في عدم انتفاعهم بما معهم من العلم ولم يعملوا به فمن علم ولم يعمل كان كما قال الله في اليهود والنصارى.
قال الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان (5/346): وهذه الآية مما ينبغي الحذر منها وخاصة لطلاب العلم وحملته. كما قال الله _تعالى_ " بئس مثل القوم " أي تشبيههم في هذا المثل بهذا الحيوان المعروف, فإن العالم لا يسمى عالم إلا بعد العمل بعلمه.

رؤية السنة للعلم بلا عمل..
ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد _رضي الله عنه_ قال: إن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: " يؤتي الرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندل أتنابه (أمعائه) فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول: بلى كنت أمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ", انظر إلى هذا الرجل وتعوذ بالله أن تكون مثل هذا الرجل. فإنه كان يدل الناس على الخير ولا يفعل الخير وينهى عن المنكر ويفعله. تعوذ بالله من النفاق وأهله,وهذا الحديث يدل دلالة على وجوب العمل بالعلم ومواقفه القول للفعل ظاهرا وباطنا. وأن من علم ولم يعمل فقد شابه المنافقين في أفعالهم حيث أنهم يقولون مالا يفعلون.
وقد عاتب الله _عز وجل_عباده المؤمنين في قوله _تعالى_: " يا أيها الذين أمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ".
وفي سنن الترمذي عن أبي برزة الأسمى قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ :" لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل به وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه ".
وروي الخطيب البغدادي في كتابه اقتضاء العلم العمل وصححه الألباني عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضئ للناس ويحرق نفسه " ورواه الطبراني في الكبير وأيضا عن أبي برزة قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: " مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة: تضئ للناس وتحرق نفسها ".
قال المناوي في الفيض الكبير (5/508): فالعلماء ثلاثة إما منقذ لنفسه وغيره. وهو الراغب إلى الله عن الدنيا ظاهرا وباطنا، وإما مهلك نفسه وغيره وهو الداعي إلى الدنيا، وإما مهلك نفسه منقذ لغيره وهو من دعا إلى الآخرة ورفض الدنيا ظاهرا ولم يعمل بعلمه باطنا. وهذا وعيد لم كان له ذكر أو ألقى السمع وهو شهيد.

وقد كان علماء الصحب في غاية من الوجل والخوف. ولذلك قالت عائشة _رضي الله عنها_ لفتى أختلف إليها ليسألها وتحدثه فجاءها ذات يوم فقالت أي شئ عملت بعد ما سمعت قال: هه، قالت فما تستكثر من حجج الله علينا وعليك.
وقال عيسى _عليه السلام_ للحواريين: تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بلا عمل ولا تعملون للآخرة وأنتم لا ترزقون فيها إلا بعمل.
وقال: يا علماء بلا علم، جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم قولكم شقاء وعملكم داء كشجرة الدفلي تعجب من رآها وتقتل من أكلها..
وروي الخطيب البغدادي أيضا في اقتضاء العلم العمل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " أتيت ليلة أسرى بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت. فقلت يا جبريل من هؤلاء قال خطباء من أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعلمون " حسنه الألباني "


توصيف علماء السلف لمقام العمل من العلم: 1ـ فعن علي بن أبي طالب _رضي الله عنه_ قال: " هتف العلم بالعمل فإن أجابة وإلا ارتحل " (أخرجه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل), نعم فإن السلف _رضي الله عنهم_ كانوا يستعينون بحفظ العلم عن طريق العمل به, فقد ذكر الخطيب البغدادي بسنده قال كان إسماعيل بن إبراهيم بن جارية يقول " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ", وقال الحسن بن صالح " كنا نستعين على طلبه بالصوم " [الجامع في الحث على حفظ العلم ]
2ـ وروي الدارمي في مقدمة سنة (1/93) عن يزيد بن جابر قال: قال معاذ بن جبل _رضي الله عنه_: " أعملوا ما شئتم بعد أن تعلموا فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا " صححه موقوفا على معاذ بن جبل الحافظ العراقي وضعيف مرفوع, قال المناوي في فيض القدير (3/253) قال العلائي " مقصود الحديث أن العمل بالعلم هو المطلوب من العباد النافع يوم القيامة. ومتى تخلف العمل عن العلم كان حجة على صاحبه وخزيا وندامه يوم القيامة.
3ـ روي البيهقي في سننه عن لقمان يعني بن عامر قال كان أو الدرداء رضي الله عنه يقول " إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائق فيقول لي يا عويمر فأقول: لبيك رب فيقول ما عملت فيما علمت " صحيح لغيره الألباني, قال المناوي في الفيض القدير (5/58): هذا الأدلة الشرعية على قبح الجهل وعلى وبال عدم العمل بالعلم وهو استعظام لما يقع يومئذ من الدهشة. والتميز في الجواب والارتباك فيما لا حيلة في دفعه ولا سبيل إلى التخلص منه وأن ما يحدث المرء به نفسه ويسهله عليها تعلل بباطل وطمع فيما لا يجدي فأفاد أن الغفلة عن الله على ضربين، الجهل بأمر الدين فلا يعرف ما يأتي ولا يعلم ما يذر. والسهو عما يعلم ذهابا عن إتيان ما أمر الله به وركوبا لما نهى عنه بشهوة النفس وغرور الدنيا وزخارفها وهذا أقبح النوعين.
4ـ قال عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_: " إن الناس أحسنوا القول كلهم؟ فمن وافق قوله فعله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فإنما يوبخ نفسه " (أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن عبد البر في الجامع بإسناد حسن (جزء 1/696))
نعم من خالف قوله فعله فعد الذي يستحق التوبيخ لأنه ضيع المقصود الأصلي من العلم وهو تحقيق العبودية لله _عز وجل_فإن العلم ليس مقصودا لذاته ولكن المقصود الأصلي للعلم وهو العمل به. لأن العلم كالشجرة والعمل بالعمل بالعلم هو الثمرة. فإذا كانت الشجرة لا تثمر فلا فائدة لها فاستحقت أن تستأصل.
5ـ وعن الحسن قال " اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولا حسنا فزيدوا بصاحبه فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين " أخرجه ابن المبارك في الزهد (77) وذكره ابن عبد البر في الجامع, وقال الحسن البصري في تعريف الفقيه: " إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة المتبصر بذنبه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف " (مختصر منهاج القاصدين).
6ـ قال بن أبو الدرداء " لا تكون تقيا حتى تكون عالما، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا " (أخرجه الدارمي في مقدمه سننه (1/88) وابن عبد البر في الجامع)
قال الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: " إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه. فإن العلم شجرة والعمل ثمرة وليس يعد عالما ن لم يكن بعلمه عاملا " وقيل العلم والد والعمل مولود والعلم على العمل والرواية مع الدراية. فلا تأنس بالعمل ما نمت مستوحشا من العلم. ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل. ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما. وما بشيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إليه والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة وتمم على عبده النعمة. فأما المدافعة والإهمال وحب الهوينى والاسترسال وإيثار الخفض والدعة والميل مع الراحة والسعة فإن خواتم هذه الخصال ذميمة وعقباها كريهة وثخيمه, والعلم يرد للعمل كما العمل يراد للنجاة. فإذا كان العمل قاصرا على العلم كلا على العالم وتعوذ بالله من علم لا عادا وأورث ذلا وصار في رقبة صاحبه غلا " أ هـ
قال الغزالي _رحمه الله_ في الحث على العلم والعمل به.
" …. لابد للعبد من أربعة أشياء: العلم والعمل والإخلاص والخوف. فيعلم الطريق أولا وإلا فهو أعمى ثم يعمل بعلمه ثانيا إلا فهو محجوب ثم يخلص العمل ثالثا وإلا فهو مغبون ثم لا يزال يخاف ويحذر من الآفات وإلا فهو مغرور، فإن الأعمال بخواتيمها وما يدري ما يختم له " [الفوائد المكية]
وترك العمل على قسمين: الأول: ترك الائتمار بالواجبات الشرعية، وترك الانتهاء عن المحرمات الشرعية فهذا كبيرة من الكبائر، وعليه تحمل الآيات والأحاديث المتوعدة متى ترك العمل بالعلم.
الثاني: ترك المستحبات وترك اجتناب المكروهات فهذا قد يزم ولكن لا يدخل في أحاديث الوعيد، إلا أن العالم وطالب العلم ينبغي لهما المحافظة على السنن،واجتناب
المكروهات أ هـ. [عوائق الطلب]
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر:" والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاته لذات الدنيا وخيرات الآخرة قد مفلسا مع قوة الحجة عليه " ا هـ.
فيا طالب العلم يجب عليك العمل بالعلم والإخلاص لربك فليس مقصودنا أن يكون العمل ظاهرا فقط بل لابد من أن تعمل بهذا العلم ظاهرا وباطنا بأن تخلص لربك في كل أعمالك وترجو اليوم الآخر ولا ترجو اليوم الأخر وأن تؤمن بكل ما علمت ثم تعمل به إذ لا يمكن العمل إلا بالإيمان، فإن لم يوفق الإنسان لذلك فعلمه غير نافع بل هو ضار, وبعد ذلك إن أردت أن تعلم هل هذا العلم نافع أم لا؟ فانظر لتلك العلامات التي ذكرها الشيخ بكر أبو زيد للعلم النافع وهي:
1.. العمل به. 2.. كراهية التزكية والمدح، والتكبر على الخلق به
3.. تكاثر تواضعك كلما ازددت علما. 4.. الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.
5.. هجر دعوى العلم.
6.. إساءة الظن بالنفس وإحسانه بالناس.
قال الخطيب البغدادي: قال بعض السلف " أخي إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك فإنه محل إكلال وموئل التلف وبه تقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال. فإنك إن فعلت أولته من عزمك هواك عليه فعلا واسترجاعا من بدنك من السآمة ما قد ولى عنك فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة. وبادر يا أخي فإنه مبادر بك. وأسرع فإنك مروع بك وجد فإن الأمر جد. وتيقظ من قدرتك وانتبه من غفلتك وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصى عليك ".