غلاف القلب الشفاف ..
14 رجب 1427
د. خالد رُوشه

[email protected]
هو غلاف للقلب الشفاف يقيه جراح الأشواك، وهو سياج للنفس الرقراقة يمنع عنها ألوان القبح ومعاني الابتذال ، إنه الحياء ، ذاك الوصف الذي هو قرين بالنبلاء والعلماء والفوارس والصالحين وأهل المروءات فلا يكاد يتصف به أحد إلا وزينه ولا يكاد يقترن به أحد إلا رفعه .
و الوجه المصون بالحياء ، كالجوهر المكنون في الوعاء ، ولن يتزين إنسان بزينة هي أبهى ولا أجمل من الحياء ، عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كان الفحش في شئ قط إلا شانه ، ولا كان الحياء في شئ قط إلا زانه " . [ أخرجه الترمذي ] .
والقلوب الحية أهم أوصافها أنها حيية , و بحسب حياة القلب يكون فيه قوة الحياء ، وقلة الحياء من جمود القلب وربما كانت من علامات موته
قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " الحياء لا يأتي إلا بخير " ، قال بشير بن كعب : " مكتوب في الحكمة أن منه وقارا ومنه سكينه " [أخرجه البخاري في الأدب عن عمران بن الحصين ] .
وكان مالك بن دينار يقول : " ما عاقب الله _تعالى_ قلبا بأشد من أن يسلب منه الحياء " ..
وقد رفع الإسلام شأن الحياء ، وحض عليه ، وامتدح أهله في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة،
قال _تعالى_ : " فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ". قال عمر _رضي الله عنه_ : " ليست بسلفع من النساء خراجه ولاجه ، ولكن جاءت مستترة ، قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء " , وفي رواية : " جاءت تمشي على استحياء ، قائلة بثوبها على وجهها ، ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة " . [تفسير ابن كثير ]

سر الحياء :
وسر الحياء شهود النعمة والإحسان ، فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه ، وإنما يفعله اللئيم ، فيمنعه مشهد إحسانه إليه ، ونعمته عليه من عصيانه حياء منه , قال الجنيد : ( الحياء رؤية الآلاء ، ورؤية التقصير ، فيتولد بينهما حالة تسمي الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق ) , فإذا كان الإنسان يخجل من أن يسيء إلى من أحسن إليه من البشر ، فكيف لا يستحيي الإنسان من ربه واهب النعم التي لا تحصى .
قال الفضيل بن عياض : " لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة ، وبين أن لا أبعث لاخترت أن لا أبعث " ، قيل لمحمد بن حاتم : هذا من الحياء ؟ قال : نعم هذا من طريق الحياء من الله عز وجل .
و قال محمد بن على الترمذي : " اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك ، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه " .
وروي أن الأسود بن يزيد لما احتضر بكى ، فقيل له : " ما هذا الجزع ؟ " ، قال : " مالي لا أجزع ؟ ومن أحق بذلك مني ؟ والله لو أتيت بالمغفرة من الله _عز وجل_ لأهمني الحياء منه مما قد صنعت ، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه ، ولا يزال مستحييا منه " .
وقال الحسن : " لو لم تبك إلا للحياء من ذلك المقام ؛ لكان ينبغي لنا أن نبكي فنطيل البكاء " .
عن عبد الله بن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : "الحياء والإيمان قرنا جميعا ؛ فإذا رفع أحدهما ، رفع الآخر " . ( رواه الحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم )
وعن عبد الله بن عمر أيضا أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء ، ـ وفي رواية : وهو يعاتب أخاه على الحياء يقول : " إنك لتستحيي " ، حتى كأنه يقول : " قد أضر بك " .فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " دعه، فإن الحياء من الإيمان " رواه مسلم
وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأعلاها : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " رواه البخاري ومسلم
والرب _سبحانه_ يحب من عباده أن يتصفوا بالحياء , ففي حديث يعلى بن أمية " أن الله يحب الحياء والستر " أبو داود والنسائي .
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : قال لي أشج بني عصر : قال لي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : " إن فيك لخلتين يحبهما الله عز وجل " ، قال : قلت : " وما هما ؟ " قال : " الحلم والحياء " ، قال : قلت : " قديما كانتا فيّ أم حديثا ؟ " ، قال : " قديما " ، قال : " الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله _عز وجل_ " رواه أحمد
وعن أبي مسعود البدري _رضي الله عنه_ أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : " إذا لم تستح ، فاصنع ما شئت " ) رواه البخاري

خلق الصالحين :
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : ( إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ، لا يرى من جلده شئ ، استحياء منه ) . [ رواه البخاري ] .
وعن سعيد الخدري _رضي الله عنه_ قال : ( كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أشد حياء من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئا يكرهه ، عرفناه في وجهه ) . [ رواه البخاري ] وجاءت فاطمة رضي الله عنها رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ تسأله خادما ، فقال : " ما جاء بك يا بنية ؟ " ، فقالت : " جئت أسلم عليك " ، واستحيت ، حتى إذا كانت القابلة ، أتته ، فقالت مثل ذلك .. ) وفي بعض روايات هذه القصة : ( أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جاءها وعليا وقد أخذا مضاجعهما ) الحديث وفيه : ( فجلس عند رأسها ، فأدخلت رأسها في اللفاع ، حياء من أبيها ) . [ رواه البخاري] .
وعن أنس _رضي الله عنه_ : ( أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال : وعلى فاطمة _رضي الله عنها_ ثوب ، إذا قنعت به رأسها ، لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها ، لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي _صلى الله عليه وسلم_ ما تلقى قال : " إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك " . [ أخرجه أو داود ] .
وعن أم المؤمنين عائشة _رضي الله عنها_ قالت : كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأبي _رضي الله عنه_ واضعة ثوبي ، وأقول : " إنما هو زوجي وأبي " فلما دفن عمر _رضي الله عنه_ ، والله ما دخلته إلا مشدودة علىّ ثيابي حياء من عمر _رضي الله عنه_ " .
وجاءت فاطمة بنت عتبه _رضي الله عنه_ تبايع رسول الله _صلى عليه وسلم_ ، فأخذ عليها : ( ألا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن ولا يزنين ) الآية ، فوضعت يدها على رأسها حياء ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة _رضي الله عنها_ : " أقرى أيتها المرأة ، فوالله ما بايعنا إلا على هذا " ، قالت : " فنعم . إذن " ، فبايعها بالآية . [ رواه الإمام أحمد في " المسند " ] .
وهذا الصديق _رضي الله عنه_ يقول وهو يخطب في المسلمين : " أيها الناس استحيوا من الله ، فوالله ما خرجت لحاجة منذ بايعت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أريد الغائط إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله " .
وهذا الفاروق عمر _رضي الله عنه_ يقول : " من قل حياؤه ، قل ورعه ، ومن قل ورعه ، مات قلبه " ، ويقول : " من استحيا استخفى ، ومن استخفى اتقى ، ومن اتقى وقي " .
وعن الحسن رحمه الله ـ وذكر عثمان _رضي الله عنه_ وشدة حيائه ـ ، قال : " إن كان ليكون في البيت ، والباب عليه مغلق ، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء ، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه " .
وعن أبى موسى _رضي الله عنه_ قال : " إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى آخذ ثوبي حياء من ربي _عز وجل_ " .