نموذج التميز بين التربية الإسلامية و الغربية
21 رجب 1427

إذا كان هناك اتفاق كامل بين غالبية علماء المسلمين والمنصفين من علماء الغرب على أن علوما طبيعية كثيرة ، قامت وتأسست على إسهامات العلماء المسلمين المتميزين، فالأكثر تأكيداً بين العلماء المنصفين أيضاً أن علم التربية هو علم إسلامي خالص بذل فيه العلماء المسلمون الأفذاذ أمثال كثير من التابعين الأوائل , ومن جاء بعدهم من تابعيهم , ثم الذين دونوا في هذا العلم أمثال : الغزالي والماوردي وابن القيم وغيرهم جهوداً جبارة في تأسيسه وتطويره.
فمنهج التربية الإسلامية يتميز عن غيره من المناهج التربوية القديمة والحديثة بشموله لمختلف أبعاد حياة الإنسان الدينية والدنيوية، وعنايته الكاملة بجميع جوانب النفس البشرية، في تكامل وتوازن غير مسبوقين.

فالتربية اليونانية مثلاً قد اهتمت اهتماماً بالغاً بالجانب العقلي للإنسان في الوقت الذي أهملت فيه بقية الجوانب الأخرى، في حين أن التربية الرومانية ركزت اهتمامها على الجانب الجسمي مقابل إهمال غيره من الجوانب. أما التربية المسيحية فقد عنيت كثيراً بالجانب الروحي للإنسان على حساب غيره من الجوانب الأخرى … وهكذا.

أما التربية الإسلامية فقد كانت مختلفة عن هذه المناهج كلها، حيث تميز منهجها التربوي بشموله لحياة الإنسان كلها، وعنايته بجميع جوانب النفس البشرية المتمثلة في الأبعاد الرئيسة الثلاثة (الروح، والعقل، والجسم) دونما إهمال أو مبالغة في حق أحد منها على حساب الآخر. والتربية الإسلامية مع شمولها تسعى إلى تحقيق التوازن المطلوب بينها دونما إفراط أو تفريط، ودون أن يتعدى جانب على آخر.

والنظريات الغربية كلها تتفق في كونها صادرة عن مصدر وحيد في المعرفة هو العقل البشري، كما أنها صادرة عن تصور واحد للكون والإنسان والحياة، كما أن هذه النظريات ضيقة الأفق وأحادية النظرة بشكل أو آخر.

فالمذهب التربوي المثالي هو صدى للفلسفة الأفلاطونية حيث يقول أفلاطون بعالمين: العالم المحسوس الذي يتألف من الأجسام أو الماديات، والعالم المعقول الذي يتكون من الموجودات المجردة.
فتلك النظرية تنطلق أساساً من الاهتمام الكامل بالروح والسعي لنجاتها على حساب المادة، وينتج عنها بالطبع إهمال مشكلات الإنسان على الأرض وفي عالم الواقع.
والمذهب المثالي في التربية الغربية مؤداه أن ثمة عالمين اثنين: عالماً حسياً يتألف وبالتالي فهناك اختلاف وتناقض بين عالم "الأجسام"، وعالم "المثل". وبناء على ذلك فإن الإنسان يعيش في عالمين: عالم مادي متغير، وعالم روحاني خالد، وهذا الأخير هو عالم المثل العليا التي تشكل الهدف الأسمى للتربية والحياة. وهكذا رأى الغربيون في الإنسان جانبيْن: جانباً روحياً سامياً، وجانباً جسدياً تحكمه النوازع الدنيا والشهوات، وهذان الجانبان كالخطين المتوازيين يتجاوران ولا يلتقيان، ويتناقضان ولا يتكاملان، وهو ما أدى إلى قيام سلطتين في بلاد الغرب: سلطة روحية تشرف عليها الكنيسة، وسلطة زمنية قوامها حكم الواقع مفصولاً عن الدين.

أما المذهب الطبيعي، فإنه على العكس من المذهب المثالي، يركز على الجسد وما به من عواطف وغرائز وميول، فيعطيها الأهمية القصوى على حساب العقل.
المذهب الطبيعي في الفلسفة الغربية للتربية ينطلق من أن التربية القويمة لا تتحقق إلا بإطلاق الحرية التامة للأطفال، وأن من مقتضيات الحرية أن يكون التعليم مختلطاً، وأن يسمح بالرقص والسباحة والتعري ومناقشة مسائل الجنس بلا تحفظ، أما المشكلات الجنسية فترجع أسبابها ـ طبقاً لهذا المذهب ـ إلى رغبة الآباء الذين يريدون حمل أبنائهم على مبادئ الدين وقواعد الأخلاق! ويرون أن تكون تربية الطفل بين سن الخامسة والثالثة عشرة سلبية، لا يُعلَّم فيها الطفل شيئاً ولا يربى خلالها أي تربية، بل يترك للطبيعة، محاطاً بأجهزة وأدوات مـن شأنها أن توسع مداركه.

أما المذهب البرجماتي، فيصرف النظر بعيداً عن الأشياء الأولية والمبادئ والقوانين والحتميات المسلّم بها، ويهتم بالأشياء الأخيرة، أي الثمرات، والنتائج، والآثار، ومركـز الثقـل فـي اهتمامـه لا ينصبّ على الحقائق الثابتة، وإنما على ما يحصله الإنسان من منافع يستثمرها في حياته العلمية حتى إنه ينظر إلى الحقيقة على أنها هي المنفعة. وهكذا فإن المذهب النفعي الذرائعي المعروف باسم البراجماتية هو ذو صبغة عملية تجريبية لا يبدو فيها أي أثر للقيم أو الأخلاق. وهو الذي أسس لما يعرفه الناس الآن أن (الذي تغلب به العب به). وهي أسس لا تقيم مبادئ ولا تعلم أخلاقاً وقيماً، وإنما تنتج مجموعة من الأنانيين الذين لا يهمهم إلا تحقيق أكبر قدر من المصالح ولو على حساب الآخرين.

وهكذا تركز هذه المذاهب على بعد واحد من أبعاد الكيان الإنساني على حساب الأبعاد الأخرى، أما التصور الإسلامي في التربية فقد تجاوز ذلك التخبط الذي ظل يلاحق النظريات الغربية، لأنه ينطلق من أسس وأصول محكمة وفهم شامل حول الكون والإنسان والمجتمع بني على وحي ممن خلق الإنسان ويعلم حقيقته وجوهره، وهو يتعامل مع الإنسان على بصيرة، بمكوناته كلها، دون إغفال إحداها لصالح الأخرى،لأن مطبقيه يعلمون أن ذلك الإغفال هو مدخل الخلل في الكيان البشري وانعدام التوازن فيه، وبالتالي إفلات الزمام تماماً من قبضة المربين الذين يتولون تنشئة الإنسان، وتعرّض هذا الأخير للدمار والانتكاس.

تعدد الوسائل والتأثير

ووسائل التربية الإسلامية كثيرة ومتعددة، فهناك التربية بالموعظة، حيث تتأثر النفس الإنسانية بالكلام الموجه إليها، إلا أن هذا التأثر يتفاوت بين القبول والرفض، حسب طريقة الكلام أو الوعظ الموجه إليها، ولذلك فالواعظ يجب أن يتمتع بصفات تساعده على التأثير: من لباقة في اللسان، ووجه ضاحك هادئ يوحي بالصفاء والارتياح.

وهناك التربية بالقدوة، فالناشئ الصغير ينبهر بنجوم المجتمع حوله ويحاول أن يقلدهم ويتخذهم مثلاً عليا. ولكن هناك من المجتمعات من تكون قدوته عالية الهمة، وذات فائدة وقيمة في مجتمعها مثل العلماء والقادة العسكريين، وكثير من المجتمعات تتدنى فيها القدوة لتصبح الراقصات والمغنيات ولاعبي الكرة.
وقد أجمع المربون المسلمون على أن شخصية الرسول _صلى الله عليه وسلّم_ هي القدوة التي تمثلها المسلمون على اختلاف العصور.

وهناك التربية بالعقوبة، ولكن لا يلجأ المربون إلى هذه الوسيلة إلا بعد استنفاذ الوسائل الأخرى مثل الموعظة الحسنة والصبر الطويل.
ولكن يجب أن يتدرج العقاب حسب وضع الطفل واستجابته، فقد يلجأ المربي إلى حرمان الطفل من شيء يحبه أو قد يعاقبه بوضعه في غرفة خالية دون أن يكلم أحداً، أو يحرمه من نزهة... الخ.

ويوجد أيضاً التربية بالقصة، حيث إن تأثير القصص عظيم في الصغار والكبار، فالصغير عند سماعه لقصة جميلة ينتبه إليها ويفهم كل ما فيها وما ترمي إليه. والإسلام يدرك هذا الميل الفطري للقصة ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب فيستغلها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم. ولذلك استخدم القرآن أسلوب القصص في تعليم المسلمين وتقريب المعاني والأهداف والغايات لأذهانهم.

ويوجد أيضاً التربية بملء الفراغ، فالإسلام حريص على الوقت ويوجه المسلمين إلى استغلال وقت فراغهم فيما يفيدهم ويفيد مجتمعهم وأمتهم، وأول الأولويات للمسلم هي الفرائض والواجبات الواجبة عليه أولاً كالعبادات والتحصيل العلمي أو السعي لاكتساب المعاش وإذا شعر بفراغ عليه بالقراءة أو الرياضة أو الصحبة البريئة أو شغل الوقت بما ينفعه وينفع الناس.

وهناك التربية بالعبرة، أي ما يستخلصه الإنسان بنفسه من دروس يتعلمها من أحداث الحياة، وغالباً ما تكون هذه الأحداث قاسية عليه، وعلى المربي أن يستغل هذه الدروس والأحداث لتربية النفوس وتهذيبها، لأن الإنسان في مثل هذه الظروف الصعبة يقبل التوجيه، ولا يستنكف من التعلم مهما كان متقدماً في العمر.

المعلم والتلميذ في الفكر الإسلامي
لقد عني علماء الإسلام بالكتابة عن العالم والمتعلم أو المعلم والتلميذ وما لهما من حقوق وما عليهما من واجبات، وكتبوا كثيراً عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل منهما. وقد حظي المعلم بالتقديس والتبجيل, وجعله في منزلة تلي منزلة الأنبياء.
ووضع علماء الإسلام للمعلم آداباً وشروطاً منها: الشفقة على المتعلمين، وأن يكون تعليمهم دون مقابل، وأن لا يدخر المعلم في نصح المتعلم شيئاً، وضرورة أن يزجر المعلم المتعلم عن سوء الخلق بطريقة التعريض ما أمكن، وألا يفرض على الطالب اتجاه المعلم وميله، وأن يتعامل مع المتعلم على قدر فهمه، وأن يكون المعلم عاملاً بعلمه.
ووضعوا أيضاً مواصفات للمتعلم منها: تقديم مهارة النفس على رذائل الأخلاق ومذموم الصفات، والتقليل ما أمكن من الاشتغال بالدنيا، وألا يتكبر على المعلم ولا يتأخر على العلم، وعلى المبتدئ ألا يخوض أو يصغي إلى اختلاف الناس، كما أن على طالب العلم ألا يدع فناً من العلوم المحمودة ولا نوعاً من أنواعها إلا وينظر فيه، وعليه ألا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله، وأن يعرف السبب الذي به يدرك أشرف العلوم، وأن يكون قصد المتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضيلة، وأن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد.

تكامل في النظرية والتطبيق

إن مصدري التصورات الإسلامية هما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة , وهما الإلهام الأعظم للحضارة الإسلامية، وقد كان التكامل في نظرية المعرفة الإسلامية ذا أثر كبير وواضح في حركة الفلسفة ونتاج العلماء المسلمين على مر العصور.
وتمتلك التربية الإسلامية منهجاً كاملا للحياة والنظام التعليمي ومكوناته لأنها تضم مناحي الإنسان جميعاً, ولا تؤثر ناحية على ناحية أخرى, أو جانب على جانب مما يدخل تحت مفهوم الإنسان.
وهي تتناول الحياة الدنيا والحياة الآخرة على قدم المساواة, ولا تهتم بواحدة منها على حساب الأخرى.
وهي تعنى بالإنسان في كل مرافق حياته, وتنمي لديه العلاقات التي تربطه بالآخرين, ولا تقتصر على علاقة واحدة أو جانب واحد فقط بل تهتم بالعلاقات كلها وتؤكدها وهذا يحقق التكامل والتوازن في الشخصية.
وهي أيضاً مستمرة تبدأ منذ أن يتكون الإنسان في بطن أمه إلى أن تنتهي حياته على الأرض، ثم تشمل ألوانا من التربية المقصودة وغير المقصودة و وتعليما ذاتياً, وتشارك في بناء شخصية الإنسان فمؤسسات المجتمع جميعا تقوم على التربية, وبوظيفة التربية وكل أفراد المجتمع يؤدون الأثر نفسه, منهم إما معلمون أو متعلمون فالحياة كلها تربي الإنسان، وليس المعلم وحده هو المربي، ولا في المدرسة وحدها يتربى الإنسان.

فلسفة متوازنة ومتعددة الجوانب

والخبرة الإسلامية في مجال التربية متعددة الجوانب والمجالات، فهي من ناحية تسعى إلى معالجة الأفراد معالجة نفسية، وإعدادهم ليكونوا أعضاء صالحين في مجتمعهم، عن طريق غرس روح الثقة والاطمئنان والأمان والهدوء والراحة النفسية عند الإنسان، خاصّة عندما يعده بالأجر والثواب والمغفرة وقبول التوبة والجنّة.
وعن طريق هذا المنهج يستطيع الأبوان والمربون أن يحرروا الأجيال الجديدة من تأثيرات الخوف والاضطراب والقلق والشعور بالدناءة والضعة، وكل ما يؤدّي إلى سحق شخصيّاتهم وانهيارهم النفسي، ليخرجوا إلى المجتمع الإسلامي صحيحين سالمين، وذو شخصيات قادرة على أداء دورها المسؤول والنافع بأفضل صورة ممكنة.
إن فلسفة الإسلام في هذا المجال تقوم على أن تربية الإنسان المتوازنة نفسيّاً وأخلاقيّاً وسلوكيّاً لها أثرها الكبير على استقرار شخصيّته، وسلامتها من الأمراض النفسية، والعقد الاجتماعية والحالات العصبية الخطيرة، وحالات القلق والخوف التي كثيراً ما تولّد لديه السلوك العدواني، فينشأ فرداً مجرماً خبيثاً مضرّاً فاسداً في المجتمع.

ومن ناحية ثانية تخاطب الإنسان على أساس أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته، وأن الله_سبحانه_ يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا، وعلى أن الإنسان مخلوق عاقل مفكر، يستطيع أن يدرك الأشياء ويتعلمها بوعي، ويمكنه الاكتساب وتعلم المعارف والعلوم بواسطة إدراكه لعالم الطبيعة عن طريق تأمله في الكون وفيما خلق الله _عز وجل_.

ومن ناحية ثالثة تنطلق من أنه بقدر ما يقترن كمال الإنسان وسعادته بحسن خلقه وأدبه، يقترن انحطاطه وشقاؤه بسوء خلقه وغلظة تعامله، فهناك رابطة وعلاقة وطيدة بين تكوين الإنسان الداخلي وبين السعادة أو الشقاء اللذين يكتنفانه.

ومن ناحية رابعة يحث الإسلام المسلمين ويشجعهم على تكوين الروابط الاجتماعية البناءة، وجعل لها أساليب وممارسات تؤدي إلى الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع الإسلامي، كآداب التحية والسلام والمصافحة بين المؤمنين، وتبادل الزيارات، وعيادة المرضى، والمشاركة في تبادل التهاني في الأعياد والمناسبات الدينية والاجتماعية، والاهتمام بالجار، وتسلية أهل المصائب والشدائد ومشاركتهم في عزائهم لو مات منهم أحد، وغيرها كثير.

كلمة أخيرة

إن إقامة بناء التربية الحديثة على أسس إلحادية أو علمانية قد أفسد التربية والمجتمع جميعاً؛ فالتربية لا يمكن أن تكون صالحة ومصلحة إلا في إطار غايتها العظمى وهي تحقيق العبودية لله تعالى، بينما التربية النفعية التي أقام الغرب أصولها قد شوشت على الناس إدراك معاني الخير والحق.

كما أن العلاقة بين التربية الغربية من جهة وبين الفلسفة وعلم النفس من جهة أخرى قد أورثتها كثيراً من الخلل والتناقض والاضطراب، وأكدت القطيعة بينها وبين الدين، بل جعلتها عدوة للدين تحاربه بسبب أو بدون سبب، ونسفت أساساً عظيماً من أسس التربية الصحيحة وهو أساس التعليم بالقدوة.

وختاماً، وبناءً على ما أسلفنا، فإن التربية الغريبة لم تفلح في إعداد الإنسان السوي، وإلا فما هو تفسير الحروب والدمار والأنانية وحب الذات والضياع الذي يعيشه الإنسان الغربي؟ الإنسان الذي قتل نفسه وغيره بسلاح المادة، وماذا قدمت الحضارة الغربية للطفولة؟ إنها طالبت بتحديد النسل، وتقليل عدد الأطفال الشرعيين، مقابل زيادة مطردة في الأطفال اللقطاء، واهتمت بمأكل وملبس وألعاب الطفل مقابل سلبه لحنان والديه وخروج، أعطته الدنيا وعلقته بها، وسلبته التفكير بالآخرة ونعيمها.