أنت هنا

ظهر في الإسلام أمر عظيم!
6 شعبان 1427
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.

ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله تعالى، وفي الله تعالى، وفي كتاب اللّه تعالى بغير علم. يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.
هذا ما قاله الإمام أحمد في مطلع الرد على الزنادقة، وقد رواه بعض أهل العلم بنحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ولاشك أن مصابيح الدجى وأئمة الهدى قد أعلى الله منزلتهم، ورفع شأنهم، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة: من الآية11]، ومن يرفع الله فمن يخفض؟!
وإذا علم ذلك فما أتعس أقزام الأوعال يوم تناطح شم الجبال، تريد أن تنال ذراها المرفوعة!

والمقال لايتسع لذكر مكان أهل العلم، ولا لحشد النقول المأثورة في فضلهم، ولا يتسع لذكر ما لهم من حقوق، وقد صنف أهل الإسلام في ذلك المصنفات قديماً وحديثاً.
بيد أني أود التعليق على أمر عُسر على بعض الأفهام استيعابه، فجنح قوم ذات اليمين نحو الغلو في الشخوص والرموز، ومال آخرون ذات الشمال فجفوا وأساءوا الأدب مع من فرض الله عليهم توقيرهم وطاعتهم.
ولعل قلة الأدب مع العلماء والاستخفاف بهم آفة توازي آفة الغلو فيهم، وأهل الحق وسط بين الغالي والجافي وهؤلاء وهؤلاء درجات.

وإذا أردت ميزان الاعتدال فانظر إلى هدي السلف وأدبهم في التعامل مع أهل العلم، في الصحيحين وغيرهما عن حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : "مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فلا أستطيع أن أسأله هيبة"، ويروى نحو ذلك عن بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الشعبي قال ذهب زيد بن ثابت ليركب ووضع رجليه في الركاب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال: تنح يا ابن عم رسول الله، قال: "لا، هكذا يفعل بالعلماء والكبراء"، بل قال أبو بكر محمد بن علي الأدفوي: "إذا تعلم الإنسان من العالم، واستفاد منه الفوائد، فهو له عبد، قال الله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه) وهو يوشع بن نون، ولم يكن مملوكاً له، وإنما كان متلمذا له، متبعا له، فجعله الله فتاه لذلك"، وعن طاووس قال: "من السنة أن يوقر العالم".

قال الحسين بن علي لابنه: "يا بني، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت".
وفي وصية أبيهم علي رضي الله عنه المأثورة يقول: "من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته بالجواب وأن لا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلسن أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته".

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، و يعرف لعالمنا حقه.
وفي الحديث الآخر: إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط.
وأنشد يوسف بن هارون –رحمه الله- لنفسه:
وأَجَلَّه في كُـلِ عيـنٍ علمُه فـرأى له الإجلال كلُ جليلِ
وكذلك العلماءُ كالخلفاءِ عنـ ـد الناسِ في التعظيمِ والتبجيلِ

والإجلال والإكرام والاحترام والتبجيل جميعها تدخلها أمور عرفية تعتبر فيها الأعراف على اختلاف البلدان والأعصار وما يستحدث فيها، وإذا أردت الاعتبار به في حق العالم فانظر إلى ما يفعلونه في حق السلطان، فإن الآثار الحسان قرنت بينهما ويختلف ذلك من عرف عصر ومصر إلى غيره.

فأنت تجد الأولين ما كانوا يعبأون بالألقاب كثيراً، ولم يجر عرفهم باتخاذ المناداة بها ديدناً عوضاً عن الكنى تكريماً، وإن عُرِفت عندهم وعُدت من مآثرهم فأبو بكر هو الصديق، وعمر هو الفاروق، فهؤلاء بعض الأمراء وهكذا غيرهم من العلماء فابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وعلي أقضاها، وزيد أفرضها، ومعاذ أعلمها بالحلال والحرام، وهكذا عرفت مكانة أهل التخصصات الأخرى فأبو عبيدة أمينها، وحذيفة أعلمها بالفتن وأسماء رجالها، والزبير حواري رسولها صلى الله عليه وسلم، وكل تلك مآثر محفوظة معلومة مشهورة. وعلى هذا درج السلف فهذا أمير المؤمنين في الحديث عندهم، وذاك إمام أهل السنة، وهذا إمام الأئمة.

أما النداء بنحو ذلك وعده من التوقير والاحترام فكثير منه غدى من عُرْف العصور التالية ومما يعده أهلها احتراماً أو تبجيلاً وإكراماً، كما دخلت أعرافهم أمور كثيرة في أبواب متفرقة فأصبحوا يعدون مثلاً من إكرام الضيف واحترامه أموراً ما كانت معهودة في السابق، بل لو أكرم أحد ضيفاً بمزقة لبن أو شربة ماء وهو واجد لما جرى العرف به من الإكرام لعدوه تفريطاً وإساءة.
وإن تعجب فاعجب من هؤليا الذين يريدون أن يسقطوا ما أمر الشارع به من تبجيل وإكرام وإجلال للعلماء أطلقه الشارع وجعل مرده إلى العرف بإسقاطهم العرف الجاري بالاحترام والإجلال والتوقير!

إنه أسلوب ماكر يسقطون به قيم الإسلام في احترام الكبراء أياً كانوا علماء أو أمراء، منطق خبيث يتحاشون به الحديث المباشر عن أرباب الجلالة وأصحاب الفخامة والمعالي والسمو! فيستترون الفكرة الإيحائية بتغليف القضية وحصرها في قالب: (فضيلة الشيخ)، (وسماحة العلامة) وهم يعلمون أن النص في إجلال الإثنين واحد!
ولعل أمنية بعضهم أن يكون المجتمع العربي الإسلامي المنضبط بالأدب الشرعي كالمجتمع الغربي الذي تحلل من الأخلاق والآداب، لايقدر عالماً ولايعبأ برئيس، فغاية الحرية عنده أن يُرمى أصحاب الفخامة والسماحة جميعاً بالطماطم تعبيراً عن المعارضة على غرار ما يفعله المعترضون في الغرب ليرقى المجتمع في سلم الحضارة والديمقراطية –زعموا- بتلك الأفعال الهمجية الخرقاء!
وكأنك ببعض مثقفي الصحافة من أصحاب الأقلام المشبوهة ينظر أحدهم إلى الفضائية وهي تبث صورة (بلير) يقذفه بعضهم بخضار أو بيض! فيتنهد قائلاً: متى تصل أمتنا إلى هذا الطور من الحرية والحضارة!
ولو رأى هبنقة أو عجل بن لجيم أو بـيهس هؤلاء الهجهاجة الجخابة الهلباجة لقال الحمد الله الذي عافانا مما ابتلاكم به!
عجباً بل لا عجب! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)!
إننا لاندعو إلى إضفاء هالة من الإلهية على أحد من البشر، (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ).

وكما قلت سابقاً من زعم أنه ليس في الإسلام رجال دين يريد بذلك أن أمر الدين فوضى يلغ فيه كل والغ فقد أخطأ وتعدى، بل بهذا الاعتبار فإن للإسلام رجال دين هم أهل الذكر الربانيون الذين أمر الله بالرد إليهم. وتعظيم هؤلاء وتبجيلهم وتنزيههم عن كل ما لايليق بهم في إطار قدرهم البشري مشروع وإن رغم أنف من يعمم نفي العبارات المجملة ليهدم بذلك أحكام الدين المقررة.

نعم نحن لاندعي العصمة من الخطأ لأحد من البشر، ولعله ليس في أهل الإسلام من يدعي العصمة لأفراد العلماء، حتى الشيعة إنما يقولون بعصمة الأئمة ولا إمام لهم مذ غاب منتظرهم في السرداب!
ولكن لايعني ذلك أن يفتح المجال لكل جاهل ودعي حتى يجادل الربانيين الذين يعلمون الكتاب ويدرسونه، ولو قام في دنيا الناس اليوم صحفي يهدم أركان نظرية فيثاغورث في حساب المثلثات، أو ينتقد آينشتاين في النظرية النسبية، أو يقترح علاجاً لمرض عضال خلاف ما قالت الأطباء، أو يحذر مما نصح به المختصون أفلا ينبغي أن يضرب بيد من حديد على يده المفسدة؟ فكيف يسوغ إذاً أن يقبل تنظير جاهل ورده على المختصين من أهل الشريعة، أليس إفساد أديان الناس أشد خطراً من إفساد دنياهم؟
بلى وربي. دخل مالك –إمام المسلمين- على ربيعة فوجده يبكي فقال: ما يبكيك وارتاع لبكائه.
فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟
فقال: لا ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم!
قال ربيعة: وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق.
إي والله: ظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ابن الصلاح (ت: 643) في أدب المفتي بعد أن نقل هذا الخبر: "رحم الله ربيعة كيف لو أدرك زماننا؟"، وأقول: رحمهم الله كيف لو رأوا صحافتنا وكم المتعالمين الوالغين في الدين.

لقد اجتهد ونظر في الدين طلاب علم مبتدئون فقاد بعضَهم التنظيرُ إلى تفجير وتكفير، فكان جزاؤهم أن ضربوا على أيديهم بيد من حديد، وكذلك ينبغي أن يضرب هؤلاء المبتدئون الذين شَطُّوا جهة اليسار كما ضرب من شط جهة اليمين فجميعهم مفسدون وإن قالوا: (إنما نحن مصلحون)! أولئك يبعثون أفكاراً خارجية فيقتلون ويدمرون، وهؤلاء يبعثون أفكاراً غربية فيروجون للإفساد بل يفسدون ويحاربون أحكام الله وشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وعوداً على ما سلف لقد علمت الدولُ والمجتمعات أهمية وجود مرجعية تعنى بنتاج التخصصات المختلفة، فلا دواء ينـزل الأسواق ما لم يجز من وزارة الصحة، ولابناء ينشأ ما لم تجز خرطه هيئة معمارية مختصة، فكيف يؤذن إذاً لشرذمة من الجهلة بالكتابة في أمور الدين، بل وفي الرد على من يفترض أن يكونوا نظاراً شرعيين حاكمين على أمثالهم من المتغولين على الشريعة.

نعم نحن لانقول بعصمة أحد لا وزارة الصحة ولا الشؤون الهندسية ولا الإسلامية ولا الأعلام والشخصيات العلمية الشرعية، ولكن ليس من يقرر خطأ أولئك هم الجهلة أو غير المختصين في العلوم المعنية، فلو اعترض طبيب متخصص على قرار لوزارة الصحة، أو مهندس استشاري على هيئة هندسية، لكان اعتراضه جديراً بالدراسة والنظر، طالما كانت حيثياته مقبولة عند أهل العلم المقصود، أما أن يجيء صحفي ليس له مؤهل إلاّ القدرة على القراءة والكتابة فيعترض على دواء منعته الوزارة ويدعو الناس لتعاطيه فهذا ما لاينبغي أن يقبل بحال، بل يجب الأخذ على يد مثل هذا المروج حتى لايجني على نفسه أولاً ومجتمعه ثانياً، وإلاّ فقد قيل:

إذا  عيَّـر  الطائيّ بالبـخل iiمادرٌ
وقال  السها  للشمس  : أنت iiخفيةٌ
وطاولت  الأرض  السماء  iiسفاهةً
فيا  موت  زُر  إنّ الـحياة iiذميمةٌ



وعيّـر  قُسَّـاً  بالفهاهـة iiباقـلُ
وقال  الدجى: يا صبح لونك iiحائلُ
وفاخرت الشهبَ الحصى والجنادلُ
ويا  نفـس جدي إن دهرك iiهازلُ



نسأل الله أن يكفي المسلمين شر كل مادر وباقل متطاول، ونعوذ بالله السميع العليم من شر كل صحفي لئيم يوحي له رجيم زخرف القول غروراً.