النجاة بين الصلاح والإصلاح !
7 شوال 1427
همام عبدالمعبود

لا ينتبه الكثيرون للفارق الدقيق بين "الصلاح" و"الإصلاح"؛ فـ"الصلاح" أصله من: "صَلُحَ يَصْلُحُ صَلاَحَاً فهو صالح" والمصدر صلاح، أما "الإصلاح" فأصله من: "أَصْلَحَ يُصْلِحُ إِصْلاَحَاً فهو مصلح". و"صَلُحَ" هو فعل لازم، أما "أَصْلَحَ" فهو فعل متعد.
فالصالح يلزمه صلاحه لنفسه ، أما المصلح فهو صاحب دور مزدوج؛ يصلح نفسه، ويدعو غيره للصلاح، فأثره الإصلاحي يتعدى نفسه إلى غيره.

وعند الكلام عن المياه يفرق بعض الفقهاء بين الماء "الطاهر" والماء "الطهور" , فالطاهر هو ما كان طاهرا في نفسه غير مطهر لغيره , فكل ماء خالطه طاهر فغير وصفه ، هو في منتهاه ماء طاهر، لكنه لا يصلح للتطهر به , أما الماء الطهور فهو ماء طاهر في ذاته، صالح لتطهير غيره .

ومن ثم يمكننا- الآن- التأكيد على أن هناك فارقا واضحا بين الصالح والمصلح، وأن الصلاح هو بداية طبيعة ومنطقية للإصلاح، وأن الإصلاح لا يقوم بالأساس إلا على أكتاف أناس مصلحين، وأن هؤلاء المصلحين لن يصلوا إلى هذه الدرجة إلا إذا كانوا صالحين.

من هو الصالح؟
والآن نأتي إلى بيان المقصود بكلمة "الصالح"؛ فالمسلم الصالح هو ذلك الذي يؤدي ما عليه من واجبات لكل صاحب حق عليه:-

أولاً: تجاه ربه وخالقه، وذلك بالتأكيد على نقاء توحيده و سلامة اعتقاده بربه _سبحانه_، فهو يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره و يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، ومن ثم فهو مسلم سليم العقيدة، صحيح العبادة، قال _تعالى_ :"... هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (2-3/ البقرة).

ثانياً: تجاه الناس: بالتأكيد على حسن التعامل مع الناس، ومن ثم فهو بار بوالديه، واصل لأرحامه، محسن إلى جيرانه، يزور المرضى، ويشمت العاطس، ويشيع الميت، لا يغش ولا يخدع، إذا تحدث لا يكذب، وإذا وعد لا يخلف، وإذا أؤتمن لا يخون، وإذا عاهد لا يغدر، وإذا خاصم لا يفجر، ومجمل الأمر ألا يرى الناس منه إلا كل خير. فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ عن النبي _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_ قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه" (متفق عَلَيْهِ). وعن أبي هريرة _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ أن النبي _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم_ قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن!قيل: من يا رَسُول اللَّهِ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (متفق عَلَيْهِ).

ثالثاً: تجاه نفسه: فهو صادق مع نفسه، يعرف قدر نفسه، ويعرف قدره عند ربه، لا يظهر للناس إيماناً ويخفي كفراً، ولا يبدي لهم صلاحاً ويخفي فساداً، ظاهره كباطنه، دينه كديدنه.
وقد جمع الله كثيرا من أصناف البر والصلاح في قوله تعالى في سورة البقرة الآية178: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيئين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"
ومن هو المصلح؟
تلك هي صفات وملامح المسلم "الصالح"، أما المسلم "المصلح" فهو ذلك الرجل الذي أصلح نفسه وأقامها على الشرع، غير أنه أدرك أن عليه دور أكبر، وأنه لا يجب أن يكتفي بصلاحه، بل عليه أن يمد يد المساعدة لإخوانه من حوله، فينقلهم من ضلال العقيدة إلى هدى الإيمان، ومن ظلام المعصية إلى نور الطاعة، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

فالمصلح : إنسان قوي بما فيه الكفاية، بحيث يستطيع أن يصعد وينجو بنفسه ويسحب معه الآخرين , وقد بين ربعي بن عامر (رضي الله عنه)، الأمر عندما سأله رستم قائد الفرس: ما الذي أتى بكم من الجزيرة العربية إلى هذه البلاد؟، فأجابه ربعي قائلاً: لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام.

وهذا هو الدور الأساسي للداعية، فالداعية مصلح بطبعه، لأنه يُعَرفُ الناس على ربهم وخالقهم، ثم يدعوهم لطاعته ويبين لهم الأجر الذي أعده الله للطائعين، في الدنيا والآخرة، كما يحذرهم من معصيته سبحانه، ويكشف لهم سوء عاقبة العصاة في الدنيا والآخرة.

وقد كان الإصلاح – وما يزال- هو القضية الكبرى لكل المصلحين، على مر التاريخ،بدءً من الأنبياء وانتهاءً بالدعاة، وقد سجل القرآن على لسان نبي الله شعيب هذه الحقيقة، فقال _تعالى_: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" ( 88/هود).

وقد وصف الله المصلحين بأنهم أولئك الذين يدعون الناس إلى التمسك بالإسلام والقرآن، بل ووصف هذا الفعل بأنه من أفعال المصلحين، فقال تعالى:" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ" ( 170/ الأعراف).

وأعلمنا ربنا أنه قد يأخذ القرى الظالمة، فيهلكها عن آخرها، ويقطع دابرها، ويقلبها على من فيها، حتى وإن كان فيها رجالٌ صالحون، لا يعصون الله، فوجود الصالحين لا يشفع لهم، ولا يرفع عنهم العذاب، وقد جاء في الأثر أن الله أمر الملك أن يهلك أهل قرية لفسقهم، فقال الملك : يا رب إن فيهم عبدك فلانا ما عصاك قط ! قال الله عز وجل: به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه من أجلي !

وعن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رَضِيِ اللَّهُ عَنْها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم دخل عليها فزعاً يقول: لا إله إلا اللَّه! ويل للعرب من شر قد أقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه: الإبهام والتي تليها. فقلت: يا رَسُول اللَّهِ أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث" (متفق عَلَيْهِ).

ولعل هذا هو ما دعا الرجل من بني إسرائيل إلى قول تلك المقولة لنبي الله موسى عليه السلام، عندما هم به وظن أنه ربما يؤذيه لأنه يعلم أن هذا لن يكون سلوك المصلحين، وقد حكى القرآن هذا المشهد الرائع فقال تعالى:" فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( 19 / القصص).

كنتم خير أمة
وقد أثنى القرآن على أمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب الله لها الخيرية على جميع الأمم السالفة، لا لشيء إلا لأنها أمة مصلحة، فقال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" (110/آل عمران).

وبين سبحانه أن ما تقوم به هذه الأمة من دعوة إلى الخير، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، هو سر فلاحها ونجاحها وفوزها في الآخرة، فقال تعالى:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون" (104/ آل عمران).

بل وأوضح سبحانه أن سبب لعنه للكافرين من أمة بني إسرائيل، بعدما كانت في مصاف الأمم " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ" (47/ البقرة)، هو نكوصهم وإعراضهم عن القيام بواجب الإصلاح، وقد سجل القرآن ذلك فقال تعالى:"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه؛ لبئس ما كانوا يفعلون" (78/ المائدة).

وبين سبحانه أنه لا يهلك الأمم الظالمة لوجود المصلحين بها، قال تعالى:"
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117/ هود).

وعندا تعرض القرآن لقصة أصحاب السبت، بين أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام: عصاة، ومصلحين، وقسم ثالث وهم من توقفوا؛ فلم يعصوا ولم يقوموا بواجب الإصلاح، وأوضح القرآن أن الله لم ينجِ منهم سوى الطائفة التي قامت بواجب الإصلاح والأمر والنهي، بينما أخذ الله الباقين بالعذاب الشديد، فقال تعالى:"فأنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (165/ الأعراف).

وروى النعمان بن بشير رَضِيِ اللَّهُ عَنْهماُ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" (رواه الْبُخَارِيُّ). والقائم في حدود الله هو المطبق لأوامره المنكر على الذين يريدون أن يقعوا في حدوده ، فيدفعهم عنها، وهو وشأن المصلحين.

وقد قسم أحدهم الناس إلى أربعة أقسام؛ فاسد؛ و مفسد، وصالح، ومصلح، مؤكداً أن أشدهم خطرا هو المفسد، وذلك لأنه لا يكتفي بفساده هو، بل إنه يسعى ما استطاع لإفساد الآخرين، وأعظمهم خيراً هو المصلح، لأنه لا يكتفي بصلاحه هو، وإنما يسعى جهده لإصلاح غيره، وشعاره دائما (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.