أسس السياسة الشرعية (6) الاستحسان / 2

أنـواع الاستحسان .

بالنظر في تعاريف الاستحسان ، وتتبع نماذج الوقائـع التي يُمَثَّل له بها العلماء ، واستقراءِ جملة الأحكام التي استنبطها الفقهاءُ عن طريقه مـع ذكر مستنده - لا تكاد تخرج أنواعه من جهة مستنده - أي : دليله أو ما يعبر عنه في كتب الفقه بـ: وجه الاستحسان - عن نوعين :

الأول : العدول عن موجب القياس إلى قياسٍ أقوى منه ، أو الاستحسان بالقياس.
وحقيقته : تردد الفرع - في نظر المجتهد - بين أصلين ، له شبه بكلٍ منهما ؛ وإلحاقه بأقربهما شبها له ، وهذا لا يدرك إلا بعد التأمُّـل .
ويتضح ذلك في المسألة التي تَعْرِض للمجتهد وتكون محلاً للقياس ، ويكون لها شبه بأصلين ثبت لكلٍ منهما حكم شرعيٌّ ؛ غير أنَّ أحد الشبهين أقرب في تبادره إلى ذهن المجتهد من الآخر، والآخر أدعى إلى الميل إليه ، لكونه أدنى إلى تحقيق المصلحة ؛ فَيَعْدِل المجتهدُ عن الشَّبَه في الأصل المتبادر، ويُرَجِّح إلحاقَ المسألة بالأصل الذي دَقَّت فيه العِلّة ؛ لقوته وتَحَقُّقِ المصلحة فيه ، وخُلُوِّ الأصل الذي تبادر شَبَهُه عن ذلك . فهذا العدول والإلحاق يُعَدَّ في عرف الأصوليين نوعاً من أنواع الاستحسان ؛ والدليلُ الذي اقتضى هذا العدول يسمَّى وجه الاستحسان ، أي : سنده ؛ والحكم الثابت بالاستحسان هو الحكم المُسْتَحْسَن ، أي : الثابت على خلاف القياس الجليّ .
ويُمثِّل له علماء الأصول : بإدخال حقوق الارتفاق (1) في الأرض الزراعية ، في حال وقفها ، ولو لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ مع عدم إدخالها في عقد البيع ما لم يُنَصّ على إدخالها فيه . فقد جاء عند الحنفية في هذه المسألة قولهم : القياس عدم دخولها ، والاستحسان دخولها (2)

الثاني : استثناء مسألة جزئية من أصل كلي ، لدليل يقتضي ذلك الاستثناء (3)
بيانـه : إذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليٌّ ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي ، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخر ؛ للدليل الخاص الذي ظهر له ؛ فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ " الاستحسان " ، والدليل الذي اقتضاه هو : وجه الاستحسان ، والحكم الثابت به هو : الحكم المستحسن ، أي : الثابت على خلاف القياس ، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة .
ويندرج تحت هذا النوع عدَّة فـروع ، منها :

الفرع الأول : الاستحسان بالإجماع .
وعرِّف بأنَّه : " انعقاد الإجماع الصريح أو السكوتي على حكم في مسألة ، يخالف قياساً أو قاعدة عامَّة " ( الاستحسان بين النظرية والتطبيق ، للشيخ د.شعبان إسماعيل :78 ) .
ويتحقق هذا النَّوع بإفتاءِ المجتهدين في حادثة ما ، على خلاف القياس أو الأصل العام أو القاعدة المقرَّرة في أمثالها ، أو بسكوتهم وعدم إنكارهم ما يفعله النَّاس ، إذا كان فعلهم مخالفاً للقياس أو الأصل المقرَّر .
مثالـه : الإجماع على جواز عقد الاستصناع (4) ؛ مع أنَّ مقتضى القياس عدم جوازه ؛ فإنّ المعقود عليه معدوم حال العقد ؛ وبيع المعدوم ممنوع بنص الحديث السابق ؛ لكن استثنى الفقهاءُ هذا العقد من حكم نظائره ؛ لجريان التعامل به من غير نكير من أهل العلم ، وتقريرهم على ذلك إجماع عمليٌّ (ينظر : تيسير التحرير ، لأمير بادشاه : 4/78 ) .
قال السرخسي : " تركنا القياس ؛ للإجماع على التعامل به فيما بين الناس من لدن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ إلى يومنا هذا ، وهذا ؛ لأنَّ القياس فيه احتمال الخطأ والغلط ، فبالنَّص أو الإجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه ، فيكون [ أي: القياس ] واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه " ( أصول السرخسي : 2/203).
الفرع الثاني : الاستحسان بالضرورة .
ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمراً متعذِّراً ، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدين ؛ فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناً ؛ رفعاً لهذا الحرج ، ودفعاً لهذه الضرورة (5)
مثالـه : ما سبق من أنَّ المرأة كُلَّها عورة ؛ لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها ، وذلك استحساناً ؛ لأجل الضرورة ؛ فيكون أرفق بالنَّاس . ( المبسوط ، لشمس الدِّين السرخسي :10/ 145. ويراجع ما مر في الحلقة الثانية من بيان ) .
وهكذا بقية أقسام الاستحسان كالاستحسان بقاعدة الذرائع ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وغيرها ، فإنَّها راجعة في التقسيم إلى ما يعتمده المجتهد من الأدلَّة(6) .
وأما ما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ، فقد استبعد من التقسيم لأنه عند التحقيق عمل بمقتضى النص ذاته ، فالحجة فيه النصُّ دون حاجة إلى طريق الاستدلال ، وإنَّما اعتبره الحنفية لأنهم لمحوا في هذا النوع - عندهم – كون النصوص فيه جاءت على نحو يشبه الاستثناء من جملة النصوص في الباب ، مقصودا بها رفع الحرج .
وهذا النَّوع المعروف عند الحنفية بـ ( الاستحسان بالنص ) لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
ومع أن هذا النوع من الاستحسان من مدلولات الاستحسان عند الحنفية دون غيرهم وهو اصطلاح خاص بهم ولا مشاحَّة في الاصطلاح إذا علم المراد ، إلا أن الجمهور أفادوا منه في بيان سنن الشارع في تشريع المستثنيات واستدلوا به على حجية الاستحسان ببقية الأدلة والاستدلالات ؛ ومن هنا أدرجه المنظِّرون للاستحسان في أنواعه ؛ تعزيزاً لصحة الاستدلال به طريقاً من طرق الاجتهاد ؛ من حيث جريانه على منهج تشريعي ، يقضي باستثناءِ بعض الفروع من أحكام نظائرها ؛ رفعاً للحرج ودفعاً للضرر ؛ وعليه فيكون محلُّه من البحث الأصولي في مسألة حجية الاستحسان ، لا في أنواعه ، ولا عند بيان المراد به .

يتمم في الحلقة القادمة ، مع البدء في الحديث عن قاعدة الذرائع إن شاء الله تعالى .

---------------------

(1) مرافق الأرض : ما يرتفق به : أي يُنْتَفَعُ به ؛ وهي : حق مقرَّر على عقار ؛ لمنفعة عقار آخر ، دون نظر إلى مالكه ؛ كحق المرور ، الذي هو : حق الإنسان في الوصول إلى ملكه بالمرور في طريق عام أو طريق خاص . وحق المسيل ، الذي هو : حق صرف الماء الزائد عن الحاجة أو غير الصالح ، بإرساله في مجرى على سطح الأرض أو في أنابيب حتى يصل مستقرّه (الصرف) . وحق الشِّرب - بالكسر- و هو : النصيب المستحق من الماء ، أو نوبة الانتفاع بالماء لسقي الشجر والزرع ؛ ويلحق به : حق الشُّرب ، بضم الشين أو حق الشَّفه ، الذي يراد به : حق الإنسان والدَّواب في الشرب من الماء ، والاستغلال المنزلي على وجه العموم .
فائدة : ذكر الشيخ عبد الكريم زيدان أنَّ تسمية هذه الحقوق بـ " حقوق الارتفاق " ، تسمية حادثة ، أطلقها صاحب مرشد الحيران قدري باشا .
(2) وبيان هذه ذلك : أنَّ لهذه المسألة شبهان :
- شبه بالبيع بجامع الخروج من الملك في كلٍ - من ملك البائع بالبيع ، ومن ملك الواقف بالوقف - وهو القياس الظاهر المتبادر ؛ ومقتضى ذلك عدم دخول الحقوق الارتفاقية ما لم ينصّ الواقف على ذلك ؛ كالبيع .
- وشبه بالإجارة بجامع ملك الانتفاع بالعين – إذ الوقف يفيد ملك الانتفاع بالعين الموقوفة بالنسبة للموقوف عليه ، و الإجارة تفيد ملك الانتفاع بالعين المؤجَّرة بالنسبة للمستأجر ، وذلك مع عدم ملكهما للعين المؤجَّرة أو الموقوفة - ؛ ومقتضى ذلك دخولها في الوقف ولو لم ينص الواقف عليه ؛ فقد رآى هؤلاء أنَّ هذا الشبه يصلح علَّة لإلحاق الوقف بالإجارة ، مع كونه قياساً خفيَّاً لا يتبادر إلى الذهن كسابقه ؛ بل يحتاج إلى مزيد تأمُّل وتعمُّق في تصور المسألة بجميع جوانبها ؛ ومع خفائه إلا أنَّهم رجحوه ؛ لقوته وتحقق المصلحة به ؛ لأنَّ الغرض من وقف الأرض الزراعية انتفاع الموقوف عليه بها ، وهذا لا يتحقق إلا بانضمام الحقوق الارتفاقية إلى الأرض في الوقف ، كما أنَّ المستأجر لا يتحقق غرضه من الاستئجار إلا بذلك .
فالاستحسان هنا ترجيح المجتهد للقياس الخفيّ على القياس الجلي ؛ ووجهه وسنده : أنَّ القياس الخفي هنا أقوى تأثيراً في الحكم من القياس الجلي ؛ لأنَّ المقصود بالوقف الانتفاع من الموقوف لا تَمَلّك عينه ، وحيث إنَّ الانتفاع لا يَتَأَتَّى بدون الحقوق الارتفاقية ؛ فيلزم دخولها في الوقف تبعاً ، كما هو الحكم في الإجارة .
(3) والقسم الأول داخل في القسم الثاني ؛ لأنه استثناء من القياس الظاهر ، وإنما أُفرد ؛ لأهميته بالنسبة للفقه الحنفي . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 296 .
(4) الاستصناع : طلب الصنع وسؤالـه . وصورة المراد به : أن يقول شخص لآخر من أهل الصنائع : اعمل لي خفاً أو آنية من أديم أو نحاس – أو غيرها – من عندك ، بثمن كذا ، ويبين نوع ما يعمل ، وقدره وصفته ؛ فيجيبه الصانع بأن يفعل له ما طلب .
(5) الضرورة هي : هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيْفَ أن تضيع مصالحه الضرورية ؛ التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة . ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، ليعقوب الباحسين : 438 ففيه بحث قيم جدا في بيان معنى الضرورة.
(6) ينظر : المنخول ، للغزّالي : 478-479 ؛ وأصول السرخسي : 2/200 وما بعدها ؛ والاعتصام ، للشاطبي : 2/ 139 وما بعدها ؛ وتعليل الأحكام ، د.محمد شلبي :354 وما بعدها ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 315 وما بعدها ؛ والاستحسان بين النظرية والتطبيق ، د. شعبان محمد إسماعيل : 75 وما بعدها ؛ والمصادر السابقة .