أسس السياسة الشرعية (7) الاستحسان / 3

حجية الاستحسان :

من خلال بيان العلماء لطريق الاستحسان على اختلافهم في تقسيمه، يتضح بجلاء أنَّ إثبات الأحكام واقع بوجوه الاستحسان لا بالاستحسان نفسه ؛ وهذا محل اتفاق كما سبق ذكره في تحرير المراد بالاستحسان ؛ فالحجيَّة إنَّما هي في ما هو معتبر من وجوهه أو أدلته .
فالاستحسان بالنَّص (1) عند الحنفية حجَّة ، وحُجيَّته حُجيَّة النَّص نفسه ، والاستحسان بالإجماع حجَّه ، وحُجِّيَّته حجيَّة الإجماع نفسه ؛ وكذلك الاستحسان بالمصلحة والعرف والضرورة وغيرها ، من أدلة الاستحسان ووجوهه التي يذكرها العلماء ؛ فالذي يقول بهذه الأدلة أو الوجوه ، حجته فيها حجيَّة هذه الأدلَّة أو الوجوه عنده .

قال القاضي أبو يعلى : " والحجَّة التي يُرجع إليهـا في الاستحسان ، فهي الكتاب تارة ، والسنَّة أُخرى ، والاستدلال بترجّح شَبَه بعض الأصول على بعض " ( العدة في أصول الفقه : 5/1607-1609 )
.
هذا إضافة إلى اعتبار الشارع له بما يعرف عند الحنفية بالاستحسان بالنص ؛ فيكون في ذلك إرشاد إلى طريق من طرق الاستدلال هو الاستحسان .

وكذلك حجيَّة الأصل العام المقرِّرِ للاستحسان ، وهو أصل رفع الحرج ، بسبب وجوهه أو بسبب الأدلة التي يعدل بها إليه . ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا يعقوب الباحسين : 333 ) .

وقد ذكر شيخنا يعقوب الباحسين وجهاً لدلالة أصل رفع الحرج على حجية الاستحسان ، بناه على استنتاج مفاده : أن القائلين بالاستحسان لاحظوا مجموعة من الأحكام المتشابهة ، في كونها مستثناة من قياسٍ أو أصلٍ مقررٍ عندهم أو عمومٍ ؛ فأطلقوا على كلٍّ منها اسم الاستحسان ، سواءٌ كان هذا الدليل نصَّاً ، أو إجماعاً ، أو مصلحةً ، أو عرفاً ، أو ضرورة ، أو غيرها ؛ فالاستحسان على هذا مفهوم كليّ لا وجود له إلا بوجود أفراده التي هي الأحكام المستحسَنة ، أيَّاً ما كان النوع الذي تنتمي إليه ، وهذا المفهوم الكلي عائد إلى التيسير ورفع الحرج ، وهذا المعنى مجمع عليه ، وهو ثابت في الشريعة قطعاً .
ثم بيَّن وجه الدلالة ؛ فقال : وعليه فإنَّ الاستحسان تكمن حجيته في كونه رافعاً للحرج ، وهذا لا يصح أن يكون موضع نزاع ؛ ولكن لمَّا كان الحرج غير منضبطٍ عند الفقهاءِ لم يعلقوا الأحكام به ؛ بل لجؤوا إلى وسائل معرِّفة للحرج وكاشفة عن وجوده ، وهذه الوسائل هي الأدلة التي يعدل بها عن الأقيسة والقواعد ، المسمَّاة عندهم وجوه الاستحسان ؛ فقولهم هذا استحسان بالإجماع ، يعني أنّ الإجمـاع كشف عن وجود حرجٍ كان من الممكن أن يقع لو لم يُؤخَذ بحكم المسألة المستثناة ، وهكذا ؛ فكأنَّهم جعلوا هذه الأمور التي يتحقق بها الاستحسان ضوابط له ، وإلا فهو عائد في الغالب إلى أصل رفع الحرج الذي لا نزاع في اعتباره شرعاً ( ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، د.يعقوب الباحسين : 332-333 ) ، عند توفُّر شروطه .

ومن أدلة حجيته من المعنى : أن غاية ما في الاستحسان انعدام حكم النظائر في مسألة جزئية ؛ لانعدام علته فيها ، وهذا لا نزاع فيه ، وليس هو تخصيصاً لنص شرعي حتى ينظر في المخصص .

قال السرخسي : " ومن حيث المعنى ، هو قولٌ بانعدام الحكم عند انعدام العلَّة ، وأحد لا يخالف هذا ؛ فإنَّا إذا جوزنا دخول الحمَّام (2) بأجرٍ بطريق الاستحسان ، فإنّما تركنا القول بالفساد الذي يوجبه القياس ؛ لانعدام علّة الفساد ، وهو أنَّ فساد العقد بسبب جهالة المعقود عليه ليس لعين الجهالة ، بل لأنَّها تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم ، وهذا لا يوجد هنا ، وفي نظائره ؛ فكان انعدام الحكم لانعدام العلَّة ، لا أن يكون بتخصيص العلّة "( أصول السرخسي : 207-208) .

فالاستحسان في حقيقته : منع إدراج بعض الفروع فيما يظنُّ اندراجها فيـه من الكليات والقواعد العامّة ؛ لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماً ؛ وهي علامة فقه الفقيه ، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلم ( ينظر : الاعتصام ، للشاطبي : 1/138 ) ؛ لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء ، ولأثره في بيان حكم المسائل التطبيقية ، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها .

والخلاصة : أن حجية الاستحسان بالمفهوم الأصولي محلّ اتفاق بين العلماء .
وعلى هذا فما وقع من اختلاف معتبر ، ظنّه بعض أهل العلم في حجية الاستحسان ، إنَّما هو في صحة وجهة الاستحسان ، أو اعتبار مستنده ، لا في صحة الاستدلال به ؛ واعتبارُ المستند أو عدم اعتباره راجع إلى ما يعتمده المجتهد من الأصول وما لا يعتمده ؛ لا إلى اختلافٍ في اعتبار الاستحسان طريقاً من طرائق الاجتهاد والاستدلال . ومن هنا وقع الاختلاف بين تعاريف الاستحسان عند المُنَظِّرِين له .

تتمات :
من الأمور التي توضّح الاستحسان : التفريق بينه وبين القياس ، ويمكن تلخيص الفرق بينهما ، بأنَّ الاستحسان عكس القياس ؛ فالقياس إلحاق بالنظائر ، والاستحسان قطع عن النظائر . ينظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ، د. محمد فوزي فيض الله : 65، ط1-1404، مكتبة دار التراث : الكويت ؛ ونفائس الأصول في شرح المحصول ، للقرافي: 9/4279 .

وأمَّا الفرق بين تخصيص العلَّة والاستحسان ؛ فمن العلماء من فرَّق بينهما ، كالسرخسي ؛ حيث ذكر أنَّ الاستحسان ينعدم فيه الحكم في الفرع المستثنى ؛ لانعدام العلَّة فيه . أما في تخصيص العلّة فإنَّ العلَّة لا تنعدِم بل تبقى في الفرع المستثنى ، لكن يدعي المستدل وجود مانع يمنع من ثبوت الحكم في الفرع ، لأجلها . ( ينظر : أصول السرخسي : 2/204-207-208 ؛ ومن العلماء من لم يفرق بينهما ، وهو الذي يفهم من كلام أبي العباس ابن تيمية ، في رسالته : قاعدة في الاستحسان : 62 وما بعدها . و ينظر : تخصيص العلَّة الشرعية ، د. عياض بن نامي السلمي ، بحث منشور في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، العدد (20) ، رمضان ، 1418: 34- 36 ) .


----------
(1) الاستحسان بالنَّصِّ .
ويدخل تحته جميع الصور التي استثناها الشارع من عموم نظائرها ؛ بنصٍّ من الكتاب أو السنَّة ؛ وقد يكون بسبب الضرورة أو الحاجة أو غيرها من الأمور التي تعود إلى فروعٍ أُخر من الاستحسان ، لم تلحق بها ؛ لأنَّ ثبوتها هنا جاء عن طريق التنصيص الشرعي ، وفي تلك الفروع جاء عن طريق الاجتهاد .
مثاله من الكتاب : تشريع صلاة الخوف على الصفات التي وردت بها ؛ إذ القياس في الصلاة أن تؤدَّى الرباعيَّة في أوقاتها المحَّددة أربع ركعات ، في كلِّ ركعةٍ ركوعٌ و سجودان ، بشروطها وأركانها التي بيَّنها النبي _صلى الله عليه وسلم_ ؛ غير أنَّ حالة الخوف استثنيت من ذلك بقول الله _تعالى_ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [النساء :101-102] ؛ حيث قُلِّلَ عددُ ركعاتِهـا ، وبُدِّلَتْ كيفيتُها ، إلى حالة تُمكِّنُ المسلمين من أدائها مع المحافظة على موقفهم من العدو ؛ تخفيفاً على المسلمين ، ورفعاً للضيق والحرج عنهم بالمحافظة على الدماءِ والأرواح مع مدافعة العدو ، ودرءاً لضرر انتصاره عليهم بانتهازه فرصة انشغالهم في صلاتهم .
ومثاله من السنَّة : بيع السَّلم ؛ فالقياس أو القاعدة العامة عدم جواز بيع المعدوم ؛ لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ )) ؛ غير أنَّ السَّلَم وهو من بيع الإنسان لما ليس عنده ، قد رُخِّصَ فيه ؛ بقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ : (( مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ )) ؛ وذلك لحـاجة الناس إليه .
وهذا النَّوع لا ينكره أحد ، وإنَّما نُوزع في تسميته استحساناً .
(2) (الحمّـام : بناء على هيئة خاصة ، يغتسل فيه بماء محمّى ؛ تنظيفاً وترفّهاً واستشفاءً . عربـي مذكّر باتفاق أهل اللغة ؛ ويسمى : الديمـاس ، والكن ؛ معروف عند السابقين ، ولهم به مزيد عناية ، ولا زال موجوداً في عدد من البلاد ، كالشام ، والعراق ، وغيرهـا . و يقـال : أصـل اشتقاقـه من الحميم ، وهو الماء الحارّ المستعمل فيه ؛ أو لأنَّه يُعرق ، و لذا يقال لمن يخرج من الحمّام : طاب حَمِيُمك وحِمَّتُك ، أي : طاب عرقك .
ينظر : تحرير التنبيه ، للنووي : 67 ؛ والوقوف على مهمات التعاريف ، للمناوي : باب الباء ، فصل الميم ؛ والكليـات ، للكفوي :404 ؛ وينظر في فوائده : النزهة الزهيَّـة في أحكام الحمام الشرعيـة والطبيَّة ، للمناوي : 17 ، ط1-1408، ت/د. عبد الحميد صالح حمدان ، الدار المصريـة اللبنانية : القاهرة . وهو شبيه في فوائده ومنكراته ، بما يعرف - اليوم - بـ( حمَّامات السونا ) .