تأملات في مشهد من سورة يوسف (7)
6 ذو القعدة 1427

الحمد لله وكفى وصلى الله وسلم على عباده الذين اصطفى وبعد فلا زالت العبر والدروس تستفاد من الموقف المذكور في قول الله –تعالى-: "وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"..

لعل المتأمل في الآيات يلحظ مراعاة حق يوسف وذكره، ومراعاة حق الوالد والتأكيد عليه، ولعل الخطأ في حق الأب أعظم، فهو من العقوق "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" [الإسراء: من الآية23]، "وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً" [العنكبوت: من الآية8]، "وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً" [الأحقاف: من الآية15]، وقد قرن الله بين الأمر ببر الوالدين والتوحيد أو نبذ الشرك في غير موضع وفي الحديث المتفق عليه سئل صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور"(1).

وكذلك فإن ما تسببوا فيه ليعقوب أذى مباشر ناجم عن تسببهم، أما يوسف فهم وإن كانوا قد آذوه ابتداء إلاّ أنهم تسببوا له في خير عظيم، وما عرض له من أذى فيه بعض التمكين كالسجن مثلاً إنما جاء بأسباب أخرى ولم يكن لهم فيه تسبيب مباشر، ولو دفع رجلٌ رجلين عدواناً بقوة فألقاهما على وجهيهما، فسقط أحدهما على حجر ففقد بصره جراء ذلك، وسقط الآخر على صرة مليئة ذهباً فحازها وقام غانماً، لم يكن أذاه للاثنين واحداً ولا ما يستحقه من العقوبة، ولهذا ناسب أن يصرح الأبناء بطلب الصفح والاستغفار من يعقوب عليه السلام الذي فقد بصره وبكى السنوات الطوال التي لم يبكها يوسف –فيما يظهر.

ولئن كان الأمر كذلك وكان حق يعقوب أعظم من حق يوسف فينبغي أن يكون حق أم يوسف أعظم منهما فإن حق الأم على الابن أعظم، ومع هذا لم يصرح بذكره في الآيات، ولعله كان يُصَرَّحُ بذكر حقها إذا كان تعاملها مع الحدث مثل تعامل يعقوب أو كانت في مقام يوسف ويعقوب، فمعلوم أن أذى الأنبياء جرم عظيم لا يستوي مع أذى عموم المؤمنين، ولعل هذا مما يبين أن خطأهم في حق يعقوب كان أعظم من خطئهم في حق غيره، فهم عصوه وآذوه وهم يعلمون أنه نبي بخلاف يوسف فقد آذوه ولم يكن نبياً وأذى الأنبياء أعظم خطراً وأشد جرماً.

وأما أم يوسف(2) فلما لم تكن في مقامهما، ولما لم يكن تعاملها مع الحدث مثلهما -فيما يظهر- لم يصرح بذكر حقها المعلوم، بل لم يشر إليه في ما مضى إلاّ في كلمة الأبناء: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا) على ما مر من فائدة حذف المفعول، بل ما ورد لها ذكر في السورة إلاّ لما قدمت مصر.

وهذا يشعر بأن المواقف التي ينبغي أن تخلد وتذكر، هي تلك المواقف التي يخرج بها أصحابها إلى حد غير مألوف من الإحسان، وأن العبرة الحقيقية ليست في بيان الأحداث التي تهز العاطفة فحسب، إن كانت من قبيل المألوف الذي ليس وراءه كثير فائدة، وإلاّ لأخبرنا الله في القرآن عن بكاء أم يوسف، وعن كمدها على فراق أخيه، وغير ذلك من العوارض البشرية التي يقتضيها مقام الأمومة، ولكن كان الغرض بيان عاقبة الصبر والإحسان غير المألوف فانحصر الحديث في محله. وطوي ذكر غيره كما طوي ذكر كثير من الأحداث التي ليس وراءها كثير عبرة. والله أعلم وهو المسؤول أن يهدينا لفقه الكتاب.

______________
(1) حديث أنس في البخاري 2/939 (2510)، ومسلم 1/99 (88).
(2) ذكر كثير من المفسرين أنها كانت قد ماتت والظاهر خلافه، وله بحث يأتي.