ضوابط تصرف ولي الأمر في المال العام (2/2)
3 ربيع الأول 1428
د. خالد الماجد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد:
هذه تكملة لما سبق طرحه في البحث السابق

الفرع الثالث
ضابط التوسط في الإنفاق العام
معنى الضابط: أن يكون الإنفاق العام وسطاً بين الإسراف والتقتير، بما يحقق القوام(1).
وليتضح معنى القاعدة فلا بد من بيان هذه الكلمات الثالث: الإسراف، والتقتير، والقوام.
أولاً: الإسراف: الإسراف في اللغة: مجاوزة القصد(2).
وأما الإسراف المنهي عنه في الشرع: فقد اختلف أهل العلم في المراد به على قولين:
الأول: إن الإسراف مجاوزة الحد في النفقة، كمعناه في اللغة(3).
الثاني: إن الإسراف الإنفاق في المعصية، أو في غير طاعة الله – عز وجل -(4).
وبين المعنيين فرق؛ إذ الإسراف على المعنى الأول يشمل الإنفاق في الخير إذا جاوز الحد، وأما على المعنى الثاني فيختص الإسراف بالإنفاق في المعاصي أو في غير طاعة الله مهما قلَّ، وأما الإنفاق في الخير وفي طاعة الله فليس بإسراف مهما كثر.
ويظهر أن المعنى الأول هو الأقرب، وأن الإسراف يعم الإنفاق في الخير إذا جاوز الحد؛ للآتي:
1 – قول الله – جل وعلا -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26) حيث عقب الله – عز وجل – على أمره بالإنفاق على ذوي القربى – وهو طاعة – بالنهي عن التبذير – وهو إسراف – فأشعر ذلك أن الإنفاق في الخير إذا جاوز الحد كان إسرافاً.
2 – موافقته لمعنى الإسراف اللغوي.
3 – شموله.
4 – كون الحديث عن المال العام، الذي يتفق الجميع على وجوب إنفاقه في الأصلح، ومجاوزة الحد بالإنفاق خلاف الأصلح، حتى ولو كان الوجه المنفق عليه خيراً.
وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز لولي اليتيم أن يتبرع بشيء من مال اليتيم على وجه خيري، ولا أن يسامح فيه؛ لأن ذلك خلاف مصلحة اليتيم، وولي الأمر في المال العام بمنزلة الولي في مال اليتيم.
ثانياً: التقتير: ومعناه في اللغة: التضييق في الإنفاق، والقصور عن حد الكفاية(5)، وهذا هو المعنى المراد في الآية(6).
ثالثاً: القوام: بفتح القاف معناه: العدل بين الشيئين. وبالكسر معناه: ما يقام به الشيء، يقال أنت قوامنا بمعنى: ما تقام به الحاجة، لا يفضل عنها، ولا ينقص(7).
والمعنيان متفقان؛ إذ الاعتدال في النفقة بين الإسراف والتقتير قيام بالحاجة بما لا يفضل عنها، ولا ينقص. وهذا المعنى هو ما يراد بالتوسط في الإنفاق في هذا الضابط.
وقد حدّ ابن كثير النفقة المأمور بها في الشرع بحد حسن، أصبح من أركان الاقتصاد في العصر الحديث، وهو تحقيق الموازنة بين الدخل والإنفاق، بحيث لا يزيد الإنفاق على الدخل، قال في تفسير قول الله – عز وجل – (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: 29): أي: ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقعتك، وتخرج أكثر من دخلك، فتقعد ملوماً، محسوراً(8).
ومما تقدم يمكن تحديد مفهوم الوسطية في الإنفاق في أمرين:
الأول: عدم الإسراف والتبذير؛ لأنهما إضاعة للمال بلا منفعة.
الثاني: عدم الشح والتقتير؛ لأنهما يعطلان وظيفة الإنفاق في سد الحاجة، وتحقيق نمو المجتمع(9).
وقد اعتبر الفقهاء هذا الضابط في النفقة العامة، باعتباره مقتضى وجوب فعل الأصلح في المال العام، ولذا جعلوه من ضمن واجبات ولي الأمر، قال الماوردي وهو يعدد واجبات الإمام تجاه الأمة: الثامن: تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال، من غير سرف، ولا تقتير(10)، وجعل البلاطنسي ذلك من المسؤوليات التي أناطها الشرع بولي الأمر فقال: والشرع قد أناط حفظ تلك الأموال، وصرفها، وتقديرها بالأئمة والولاة، على الوجه المأذون لهم فيه شرعاً، من غير سرف، ولا تقتير(11).
أدلة اعتبار ضابط التوسط في الإنفاق:
أولاً: الكتاب: دل القرآن الكريم على اعتبار هذا الضابط من خلال النصوص التي حثت على انتهاج التوسط في الإنفاق، وهي وإن كانت في النفقة الخاصة – كما يفيد ظاهرها – إلا أن دلالتها على ثبوت ذلك في النفقة العامة أوَّلية، لأمرين:
1 – كون الواجب في إنفاق المال العام رعاية الأصلح، والتوسط في الإنفاق الذي حثَّ عليه القرآن هو الأصلح.
2 – إن ما ثبت من أمر بإصلاح المال الخاص ثبت نظيره للمال العام بطريق الأولى؛ لأنه متعلق بالعامة، وعناية الشرع بما يتعلق بالعامة، أعظم من عنايته بما يتعلق بالخاصة. ومن تلك الآيات التي دعت إلى مبدأ الوسطية في النفقة:
1 – قوله – جل وعلا -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) جاءت هذه الآية في معرض بيان صفات المؤمنين، فوصفت نفقتهم بأنها قوام، لا إسراف فيها ولا تقتير، وهو نتيجة انتهاج مبدأ التوسط في النفقة، الذي لا يتجاوز الكفاية، ولا يقصر عنها، قال ابن كثير: في تفسيرها أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم، فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها(12).
2 – قول الله – تبارك وتعالى -: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26).
وجه الدلالة: إن الله – عز وجل – جمع في الآية الأمر بالإنفاق والنهي عن الإسراف، فدل على وجوب التوسط بينهما.
3 – قال الله – جل وعلا -: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
نهى الله – عز وجل – نبيه وأمته من بعده عن التقتير والإسراف، وعبر عنهما بغل اليد وبسطها، كناية عن الإمساك الذي يصير فيه مضيقاً على نفسه وعلى أهله، والتوسع بما لا حاجة له فيه فيصير به مسرفاً، وبين أن عاقبة الغَلِّ والتضييق لوم الأهل والناس وذمُّهم له، ثم استغناؤهم عنه، وأن عاقبة البسط والإسراف الحسرة، حين يقعد المسرف بلا نفقة، ولا مال(13)، فأفاد ذلك الأمر بنهج التوسط بين إطلاق اليد وقبضها.
ثانياً: من السنة: عن ورّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال، وكثرة السؤال... (14) دل الحديث على تحريم إضاعة المال، والإسراف إضاعة؛ لأنه نفقة بلا عائد، فكان حراماً(15).
ثالثاً: من المعقول: دليلان:
1 – إذا تقرر أن الواجب في المال العام إنفاقه على الوجه الأصلح، اقتضى ذلك وجوب التوسط في الإنفاق؛ لأنه الأصلح.
2 – إن الله عز وجل أمر بالحجر على السفيه المسرف الذي يبذر ماله في المعاصي، أو يجاوز به الحد في المباح؛ مراعاة لمصلحته؛ لئلا يضيع ماله(16)، فكذلك يثبت المنع من الإسراف في إنفاق المال العام، سواء أكان المتصرف ولي الأمر أم غيره؛ لئلا يضيع مال المسلمين.
ما تتحقق به الوسطية في الإنفاق: لتحقيق التوسط في الإنفاق لا بد من معرفة ما يقع به الإسراف والتقتير؛ إذ بمعرفة ذلك يمكن لمنفق المال العام أن يجتنبه فيكون قد حقق التوسط. وفي ضوء ما تقدم في معنى هذا الضابط يمكن حصر ما يقع فيه الإسراف والتقتير في أمرين:
الأول: أصل النفقة.
الثاني: قدرها(17).
أولاً: الإسراف والتقتير في أصل النفقة:
أ – الإسراف: يحصل الإسراف في أصل النفقة بإنفاق المال العام على جهات يحرم الإنفاق عليها؛ إما لما فيها من محادة الله ورسوله، كإمداد الكفار بالمال ليستعينوا به على المسلمين، أو إنشاء بنوك الربا، أو لما فيها من إفساد العقول والأبدان، كالمسكرات، أو لما فيها من إفساد الأعراض والأخلاق، كإنشاء مسارح الرقص والغناء أو شراء وإصدار الأشرطة والمجلات الماجنة، أو لما فيها من الظلم كاستئثار أفراد بشيء من المال العام بغير حق. فإنفاق اليسير على هذه المحرمات ونظائرها إسراف، بل إنه مناقض لأصل جواز التصرف في المال العام، وهو التصرف بالأصلح.
ويشتد التحريم إذا أدى الإنفاق على هذه المحرمات إلى ترك أو إهمال الإنفاق على مصالح المسلمين.
ب – التقتير في أصل النفقة: يقع التقتير في أصل النفقة بعدم الإنفاق على مصالح المسلمين، كعدم بناء المدارس – مثلاً – ويعد هذا الترك تضييعاً للمسؤولية التي حملها الله ولاة الأمور، وتفريطاً في بعض المصالح التي من أجلها وجب قيام الدولة الإسلامية(18).
وهذا المعنى للإسراف والتقتير في أصل النفقة هو ما فسرهما به كثير من المفسرين، حتى عده النحاس من أحسن ما فُسرا به، فقال: ومن أحين ما قيل في معنى الإسراف، من أنفق في غير طاعة فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام(19)، وقال ابن عباس في تفسير قوله – عز وجل -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (الفرقان: من الآية67) قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله(20)، ولا شك أن الإنفاق على المحرمات، وعدم الإنفاق على مصالح المسلمين من منع حقوق الله – جل وعلا -.
ثانياً: الإسراف والتقتير في قدر النفقة:
يقع الإسراف في قدر النفقة بالإنفاق على مصرف مستحق من مصارف المال العام فوق الكفاية(21).
ويقع التقتير في قدر النفقة بالتقصير في الإنفاق على المصالح، أي قصور الإنفاق عن حد الكفاية.
وكل من الإسراف والتقتير إخلال بضابط الوسطية في الإنفاق؛ لأن الإسراف إضاعة للمال العام فيما لا حاجة إليه ولا مصلحة فيه، والتقتير ترك لبعض الواجب، وتعطيل للمال عن وظيفته.
فالواجب على ولي الأمر أن يكون إنفاقه على مصارف المال العام على قدر الكفاية، بما يسع المصارف كلها، ويحقق المصالح كلها(22).
وتشتد الحاجة إلى مراعاة عدم الزيادة على قدر الكفاية إذا ضعفت موارد المال العام عن تغطية النفقات العامة(23)، وهوما يسمى بـالعجز(24). ومما تقدم يمكن إجمال ما تتحقق به الوسطية في إنفاق المال العام في الآتي:
1 – عدم الإنفاق على المرحمات وما لا نفع فيه من المباحات.
2 – الإنفاق على مصالح المسلمين، بقدر الكفاية.

الفرع الرابع
ضابط اعتبار الأولوية في الإنفاق العام
المراد: مراعاة المصرف الأهم عند إنفاق المال العام.
ما تتحقق به مراعاة الأولوية: يختلف ما تتحقق به المراعاة بحسب توفر المال العام وعدم توفره.
1 – ففي حال توفر المال العام بحيث يتسع للإنفاق عل المصارف كلها، تكون مراعاة الأولوية بتقديم المصرف الأهم منها؛ لأنه ربما عجزت الدولة عن توجيه النفقات كلها دفعة واحدة إلى مصارفها، فتضطر إلى تفريقها على فترة زمنية طويلة أو قصيرة فيراعى المصرف الأهم منها.
2 – وفي حال عدم توفر المال العام: أي نقص المال العام بحيث لا يمكنه تغطية نفقات المصارف كلها، بل بعضها، وهنا تختلف المعالجة:
أ – فإن أمكن الإنفاق على جميع المصارف لكن مع تحقيق الحد الأدنى لما يحتاجه كل مصرف، فهذا هو الواجب الذي تتحقق به مراعاة الأولوية؛ لأن ما زاد على قدر الواجب في مصرف فهو مندوب، فلا يراعى المندوب الزائد على قدر الواجب في هذا المصرف، وتترك مراعاة القدر الواجب في مصرف آخر.
ب – وإن عجز المال العام عن تحقيق الحد الأدنى في النفقة على مصارفه مجتمعة وقدر على تحقيقه في بعضها، فمراعاة الأولوية تقضي – هنا – بتوجيه النفقة إلى الأهم منها.
ما يعتبر في معرفة الأولوية: يعتبر لمعرفة الأولوية في الإنفاق المصلحة، فمتى كان الإنفاق على جهة أصلح للمسلمين كان الأولى الإنفاق عليها، وهذا ينظر فيه إلى جهتين:
الجهة الأولى: المصرف: بأن يكون أهم المصارف، ويحدد ذلك الحاجة، فأي المصارف كانت حاجة المسلمين إليه أشد فهو الأهم، والحاجة المعتبرة نوعان:
1 – حاجة دينية، كبناء المساجد، ونشر الدين بالدعوة والجهاد.
2 – حاجة دنيوية، كإيصال خدمة الكهرباء، والهاتف، وإنشاء المرافق العامة.
وعند المفاضلة بين الحاجات بنوعيها – الدينية والدنيوية – لمعرفة الأهم، قد تكون المفاضلة بين حاجات نوع واحد، كالمفاضلة بين التعليم وبين إيصال خدمة الهاتف، وقد تكون المفاضلة بين حاجات النوعين، كالمفاضلة بين بناء مسجد وبين سد عوز مسلمين الدولة، فالإنفاق على التعليم أولى منه على الهاتف، والإنفاق على سد فقر المسلمين أولى منه على بناء المساجد، وعلى هذا فليست الحاجة إذا كانت دينية كانت أهم مطلقاً ولا العكس – أيضاً – بل المعتبر في هذا حاجة المسلمين، فمتى كانت حاجتهم إلى مصرف ديني أو دنيوي أشد فهو الأهم.
الجهة الثانية/ بيت المال: مصلحة بيت المال معتبرة عند المفاضلة، بيان ذلك: إذا كان الإنفاق على مصرف يدفع عن بيت المال تحمل تبعات مالية مرهقة لو وجه الإنفاق إلى غيره فإن ذلك المصرف أولى بتوجيه النفقة إليه، مثال ذلك: يذكر الفقهاء أن مصارف المال العام تنقسم من حيث استحقاق الإنفاق عليها مع يسار بيت المال وإعساره قسمين:
الأول: مصارف تستحق النفقة عليها من المال العام مع يسار بيت المال، وإعساره، فإن كان موسراً وجب الإنفاق، وإن كان معسراً بقى ديناً عليه لهذه المصارف، وذلك كمتبات موظفي الدولة.
الثاني: مصارف تستحق النفقة عليها من المال العام مع يسار بيت المال، دون إعساره، فإن كان موسراً وجب الإنفاق، وإن كان معسراً سقط الوجوب، ولا يبقى ديناً على بيت المال، كبناء مرفق عام.
فإذا عجز بيت المال عن الإنفاق على هذين المصرفين فأولاهما بتوجيه النفقة إليه مرتبات الموظفين؛ لأنها إن لم توف بقيت ديناً على بيت المال، وفي هذا إثقال عليه، وهو خلاف مصلحة المسلمين(25).
ومما تقدم يمكن القول بأن الأولوية من موارد الاجتهاد؛ لأن مدارها على المصلحة، وهي تختلف بحسب ما تقدم، وبحسب الزمن والمكان – أيضاً – فقد يترجح اعتبار مصرف في وقت دون آخر، أو مكان دون مكان، ولذا فإن من الواجب العناية بتحقيق المفاضلة بين المصارف، ويحصل هذا بأمرين:
1 – العهد بمسؤولية المفاضلة إلى مجموعة من المختصين، بحسب أنواع الحاجات الواجب الصرف إليها.
2 – قيام من يسند إليهم بمسؤولية المفاضلة بوضع خطة دقيقة تتضمن قواعد محددة يعمل بمقتضاها عند إجراء المفاضلة.
مشروعية مراعاة الأولوية في الإنفاق:
عني الفقهاء بإبراز الأولوية ضابطاً هاماً من ضوابط الإنفاق العام، حتى جعلوها مما يجب على ولي الأمر عند إنفاق المال العام، قال ابن تيمية: فالواجب أن يبدأ في القسمة بالأهم، فالأهم من مصالح المسلمين العامة”(26) وقال البلاطيسي يجب عليه(17) أن ينظر في مصالح الصرف، ويجب عليه تقديم أهمها، فأهمها، ويحرم عليه العدول عن ذلك(28) ونص البهوتي وشمس الدين الرملي عند حديثهما عن كيفية إنفاق ولي الأمر المال العام على أنه يقدم الأهم فالأهم، وجوباً(29) وعد العز بن عبد السلام فيما يقدم من الحقوق – لرجحان ذلك في جلب المصالح ودرء المفاسد - تقديم ذوي الضرورات على ذوي الحاجات فيما ينفق من الأموال العامة(30).
ويراعي الفقهاء الأولوية حتى في أفراد المصرف الواحد، فإذا صرف من المال العام إلى جنس المحتاجين كالعاجزين عن الاكتساب، فإنه يقدر منهم الأحوج، فالأحوج(31)، وفي هذا مزيد اهتمام بهذا الضابط.
الأدلة على مشروعية مراعاة الأولوية في صرف المال العام على مصارفه:
الدلي الأول: عن أم الحكم بنت الزبير – رضي الله عنها – قالت: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم سبياً، فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله، فقال: سبقكما يتامى بدر(32).
الدليل الثاني: عن علي بن أبي طالب أنه وفاطمة – رضي الله عنهما – أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: يا رسول الله، والله لقد سنوت(33) حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي(34)، وقد جاءك الله بسبي، وسعة، فأخدمنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أعطيكما، وأدع أهل الصفة تَطْوَى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم(35).
وجه الدلالة من الحديثين: أن علياً وفاطمة وأهل الصفة من مستحقي السبي؛ لأنهم من أهل خمس الغنيمة، وقد آثر النبي صلى الله عليه وسلم بالعطاء أهل الصفة؛ لكونهم أشد حاجة إلى النفقة، فدل ذلك على أمرين:
1 – اعتبار الأولوية في الإنفاق.
2 – اعتبار الحاجة في معرفة الأولى.
قال ابن حجر – معلقاً على حديث علي - في هذا الحديث أن للإمام أن يؤثر بعض مستحقي الخمس على بعض، ويعطي الأوكد، فالأوكد(36).
الدليل الثاني: عن ناشر بن سُمَيّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول يوم الجابية – وهو يخطب الناس -: إن الله جعلني خازناً لهذا المال، وقاسماً له، ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا باد بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرفهم، ففرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم...
وعن محمد بن عجلان قال: لما دون لنا عمر الدواوين قال: بمن نبدأ؟ قالوا: بنفسك فابدأ، قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامنا، فبرهطه نبدأ، ثم بالأقرب، فالأقرب(37).
وجه الدلالة من الأثرين: أن عمر - رضي الله عنه - راعى الأولوية في تقديم مستحقي العطاء، وجعل المعتبر في المراعاة القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تعظيماً لحقه، ولم يقع التقديم اتفاقاً، بل قصداً، كما يفيده الأثر الثاني، فدل ذلك على اعتبار الأولوية في الإنفاق، وإذا اعتبرت في الأولوية الفضيلة والشرف فاعتبار الحاجة فيها آكد.
الدليل الثالث: إن الأخذ بالأولوية يحقق العمل بضوابط الإنفاق المتقدمة؛ لأن فيه عملاً بالمصلحة، وتحقيقاً للعدل في القسم بين المستحقين، وفيه ترشيد للنفقة بما يحقق الوسطية في الإنفاق، وهذا يجعل لها من المشروعية والاعتبار ما لتلك الضوابط.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ) المذكور في قوله – عز وجل -: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
(2) لسان العرب (9/148)، مادة (سرف).
(3) جامع البيان لابن جرير (19/37)، والجامع للقرطبي (13/73)، وتفسير ابن كثير، (3/338)، والكشاف للزمخشري (3/100)، وفتح القدير للشوكاني (4/86).
(4) المصادر السابقة.
(5) لسان العرب (5/71) مادة (قتر).
(6) جامع البيان لابن جرير (19/36)، والجامع للقرطبي (13/73)، وتفسير ابن كثير (3/338)، والكشاف للزمخشري (3/100)، وفتح القدير (4/86).
(7) الكشاف للزمخشري (3/100)، والجامع للقرطبي (13/74).
(8) تفسير القرآن العظيم (3/40).
(9) مالية الدولة الإسلامية لمحمد الشباني (138).
(10) الأحكام السلطانية (52).
(11) تحرير المقال (100).
(12) تفسير ابن كثير (3/338).
(13) تفسير القرآن العظيم ابن كثير (3/40)، في فتح القدير الشوكاني (3/222).
(14) أخرجه البخاري في الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال، فتح الباري (13/278-279)، ومسلم في الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل، مسلم بشرح النووي (12/11-12).
(15) ينظر السياسة المالية لعمر بن عبد العزيز، لقطب محمد (132).
(16) العقود، لابن تيمية (18).
(17) العقود لابن تيمية (18).
(18) العقود لابن تيمية (18).
(19) إعراب القرآن للنحاس (3/168).
(20) أخرجه ابن جرير بسنده عن ابن عباس، جامع البيان (19/37).
(21) العقود لابن تيمية (18).
(22) ينظر الأشباه والنظائر لابن نجيم (123).
(23) السياسة المالية لعمر بن عبد العزيز قطب محمد (132).
(34) العجز هو: زيادة النفقات عن الإيرادات بالنسبة للموازنة العامة. موسوعة المصطلحات الاقتصادية والإحصائية عبد العزيز فهمي كيلان مصطلح عجز ص (207)، أو هو: زيادة مجموع الإنفاق الجاري والاستثمارات عن الإيرادات التي تحصل عليها الحكومة، موسوعة المصطلحات الاقتصادية، حسن عمر (148).
(25) تحرير الأحكام لابن جماعة (150).
(26) السياسية الشرعية (54).
(27) أي: ولي الأمر.
(28) تحرير المقال (142).
(29) كشاف القناع (3/101)، نهاية المحتاج (6/136).
(30) قواعد الأحكام (1/125).
(31) نهاية المحتاج للرملي (6/137).
(32) أخرجه أبو داود في الخراج، باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، سننه مع عون المعبود (8/212)، وقال في عون المعبود: سكت عنه المنذري (8/213)، والحديث الذي بعده شاهد له.
(33) أي: استقيت الماء بمعنى أنه كان يجلب الماء بنفسه، لسان العرب مادة (سنا) ص (14/404).
(34) أي: نفطت وصلبت وثخن جلدها من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، لسان العرب مادة (مجل) ص (11/616).
(35) أخرجه أحمد في مسند علي، وقال أحمد شاكر: صحيح الإسناد (2/149) برقم (838)، وأخرج البخاري عن علي نحوه ولم يذكر ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الصفة، في كتاب الخمس – باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتح الباري (6/248-249).
(36) فتح الباري (6/250).
(27) أخرجه أبو عبيد في الأموال برقم (549) ص (236).