أنت هنا

حوار أمريكا وإيران: سقوط الحليفين بجاذبية المقاومة
4 ربيع الأول 1428

[email protected]

كانت الاستعدادات للحرب تمضي على قدم وساق في الولايات المتحدة الأمريكية وفي القواعد الأمريكية في الخارج، والمباحثات تجرى في كل عواصم الدول الرئيسية الكبرى وعدداً من العواصم الإقليمية، والدبلوماسية تتحرك في المحافل الدولية لإخفاء كل هذا أو إبرازه..
كل ما تحتاج إليه الحرب كان جاهزاً: قوة جوية هائلة، يمكنها تدمير العراق عدة مرات، لغة استعلائية تمارس لوناً آخر من "الصدمة والرعب" على دول العالم، بعض المبررات عن ديكتاتورية النظام العراقي، واحتمالات امتلاكه أسلحة دمار شامل، وكان يسيراً على جهاز الاستخبارات الأمريكية أن ينثر تقارير تثبت صحة هذا الادعاء، وأن تسوقه آلة الإعلام الأمريكية وأن يتلقفه الأتباع فيخدرون به شعوب العالم.
ما كان يقلق البنتاجون منذ أمد بعيد تعزز لدى صقوره فيه قناعة بضرورة إزاحة صدام حسين وجيشه لأسباب أيديولوجية بالأساس، هو الطابور الخامس الذي يمكن الاعتماد عليه في العراق، فالعراق كبلد ينتمي جزء منه إلى قبائل عرفت على مدى التاريخ بشكيمتها وقوة مراسها، يدرك المحتل كما أهلها أن قيادها ليس يسيراً على الغزاة.. والمشكلة ليست عصية على الحل، بيد أن للحل ثمنه الذي لابد من تسديده قبل وأثناء وبعد الحرب.
لم يكن هناك خيار آخر لدى واشنطن سوى بالتعامل مع إيران، ولم تكن القنوات قد سدت، فهي قد شهدت ازدهاراً أوفر إبان العدوان على أفغانستان في العام 2001، ساعة خاضت ميليشيا حزب الوحدة الشيعي الموالي لإيران الحرب جنباً إلى جنب مع الأمريكيين، وتحركت قوات إسماعيل خان في إقليم هيرات الغربي للانتفاضة على حكم طالبان، وقدمت إيران دعماً لوجيستياً كاملاً للقوات الموالية لها والمتحالفة معها.
الولايات المتحدة الأمريكية بدت مندفعة لتكرار هذا السيناريو في العراق، حيث الميليشيات الموالية لإيران أقوى عتاداً وأكثر جنداً، وأبرز الميليشيات في العراق اجتازت عناصرها دورات تدريبية شاقة على أيدي قادة الحرس الثوري الإيراني، ومعظم قادة هذه المليشيات (المجلس الأعلى للثورة "الإسلامية") هم إيرانيون بالفعل، وكثير من عناصرها ما بين أسرى عراقيين سابقين ومجموعات من فقراء إيران ومشرديها.
الحذر ما زال يعتمل في نفوس أبرز أساطين البنتاجون وجواسيس الـ C.I.A ، فالميليشيات هذه حال قوتها وهيمنتها على الأوضاع في العراق في ظل عجز العناصر الأمريكية على التعامل المباشر مع الشعب العراق، سيفضي إلى تسليم العراق لإيران بدلاً من الاستحواذ الكامل عليها..
أضحت الخيارات محدودة، ووقعت الولايات المتحدة الأمريكية بين نارين قديمين، نار فارس ونار البابليين الجبارين.. ما الضير إذن لو استحضرنا التاريخ العبراني تحديداً.. وضع التاريخ كلمته أمام منظري المحافظين الجدد والمتطرفين الآخرين على حد سواء.. لم يكن كورش سوى امبراطور فارسي وهب أمناً واستقراراً كبيرين للمملكة يهودا.. ونار فارس "المقدسة" لم تحرق يوماً يهودا، لكن لفارس أطماعاً؟! "نعم"، أجاب المنظرون، "ولكنها أقل ضرراً بكثير من تسلط البابليين، إنهم مملكة الشر عبر التاريخ".
لا غرو في عرف واشنطن أن تعالج قدراً من الأطماع الإيرانية عن أن تمنح أحفاد البابليين والآشوريين و ـ الأخطر ـ أحفاد خالد والمثني وأبي عبيدة رضي الله عنهم، فرصة تاريخية للنيل من "إسرائيل" لاسيما مع تراجع الأخيرة وانكفائها واحتمال تدهور وضعها الأمني والجيوستراتيجي والديموجرافي.
على الفور تبنت لندن مؤتمرات المعارضة التنسيقية، وسرعان ما تكررت اللقاءات السرية بأوامر مباشرة من المراجع الدينية، ومن بينهم عبد المجيد الخوئي عبر مؤسسته في لندن، وشارك باقر الحكيم بقوة في الاجتماعات، ولم يغب بعض العلمانيين ذوي الثقافة الغربية/الإيرانية المشتركة عن جولات الحوار المكوكية كالجلبي وعلاوي، وأطلقت العديد من السيناريوهات للتعمية، ومنها احتمال عودة الملكية إلى العراق.. عرف الجميع أدوارهم وأوعز إلى المتمردين في الداخل بعدم التحرك إلا ريثما تحين ساعة الصفر، وبدأت الفتاوى تكسح ألغام الممانعة من الطريق، ما استدعى شكراً خاصاً من الحاكم الجديد للعراق بول بريمر لزعيم الحوزة العلمية في النجف فيما بعد.
وجاءت ساعة الصفر ونفذ الجميع دورهم كاملاً غير منقوص، وأسقط تمثال صدام حسين وارتقى عليه من فئة شيعية استجلبت لهذا الغرض، وبدا أن الخطة قد نجحت، فارتدى الرئيس الأمريكي حلة عسكرية وهبط بطائرته الحوامة فوق حاملة أمريكية في الخليج ليعلن في مستهل شهر مايو 2003 "انتهاء المعارك العسكرية الكبرى" وهو في قمة الانتشاء.
وبين قمة النشوة هذه، ونشوة السكر الذي غدا يلازم الرئيس الأمريكي هذه الأيام ليقيله ـ أو إلى هذا يرنو ـ من هذه الحالة التي وضع الولايات المتحدة فيها والتراجع الذي تسبب به لها حين دخل عش دبابير المقاومة واستفز هذا الشعب العراق السني العريق في دينه وكرامته، يمكننا اختزال فعل هذه المقاومة البارعة في نفس جورج بوش ومعاونيه.. يمكننا أيضاً أن نلمس نفس الشعور لدى قادة إيران من فعل هذه المقاومة على الرغم من كونهم الأكثر إفادة من عملية غزو العراق ذاتها بأكثر مما أفاد الأمريكيون أنفسهم عبر تحقيق بعض من أهدافهم.
أربع سنوات مضت نفذت خلالها المقاومة العراقية آلافاً من العمليات الموجعة لدول الاحتلال المختلفة من الغرب إلى الشرق، وضعت واشنطن وطهران في مأزق خطير.
فواشنطن علاوة على ما تعانيه من آلام حرب الاستنزاف المستمرة والتي لا يبدو لها في الأفق نهاية وجدت نفسها مضطرة إلى منح الإيرانيين مزيداً من النفوذ في حكم العراق، وإلا فإن عليها دفع جزء من استحقاقات الغلبة على جيش صدام حسين إلى المقاومة، وهذا جد مستحيل، ولا مناص من ترك بعض الملفات للإيرانيين، وحتى أخطر الملفات كملف المخابرات العراقية يكاد يكون جهاز الاستخبارات الأمريكي قد فقده إذ هرب من بين يديه كما تقول أحدث التقارير الأمريكية، كما أن أوثق العراقيين الشيعة علاقة بالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تأمن جانبهم فيما يخص الولاء لإيران، وقد ألمح أكثر من مسؤول أمريكي إلى إياد علاوي وأحمد الجلبي كأبرز نموذجين لهذا.
لم تكن واشنطن في الحقيقة راغبة في أن تغزو العراق لتسلمه للإيرانيين لكنها لم تكن مخيرة بين طريقين إذ كل الأسباب كانت تصب في خانة التعاون مع إيران، وفي المقابل لم تكن طهران أحسن حالاً من واشنطن؛ فالعراق قد أضحى لها هي أيضاً حرب استنزاف مادي، ولم يسلم لها نفطه تعويضاً عن نفقاتها الاستخبارية والعسكرية الباهظة في العراق، كما أنها قد فقدت أي قيمة إسلامية في طول العالم الإسلامي وعرضه حينما ارتمت في أحضان الأمريكان وعبد لهم الملالي الطريق، وصارت كل مخططاتها التوسعية موضع احتراز وريبة من الدول المحيطة التي لم تتردد في دعم الأصوات المناوئة لها.
بدأ الحليفان يمتعضان بعضهما من بعض، فتح الملف النووي الإيراني، وطيرت الولايات المتحدة الأنباء عن دعم عسكري تقدمه طهران لمناوئيها في العراق، ورغم سخافة الادعاء الذي يصب في خانة وضع بعض المساحيق على الوجه الكالح للسياسة الإيرانية في العراق، إلا أنه فهم كتعبير عن خيبة أمل الأمريكيين في الحليف الإيراني المناور.
وسعى الحليفان في العام الأخير إلى الضغط كليهما على الآخر، ففتحت ملفات الحرس الثوري الإيراني والنفوذ الإيراني في العراق (وكأن الولايات المتحدة الأمريكية استيقظت فجأة لتعلم ما يعلمه المشاهد العادي من الأحداث بالضرورة!!)، وألقت الولايات المتحدة على عناصر هامة من الحرس الثوري والاستخبارات الإيرانية في أربيل، وفتحت ملف الألغام الإيرانية المتطورة المزعومة في العراق، وتحركت بعض الجهات المناوئة للحكم الفارسي في طهران من داخل إيران، فنفذت عمليات تفجير في أرجاء مختلفة من البلاد سواء في الأحواز أو مناطق الكرد ، بالتزامن مع الضغوط الأمريكية على طهران، والشيء ذاته أبداه حلفاء طهران في العراق، فبدأت الهوة بين الفريقين في الاتساع، والسبب بالأساس يكمن في قدرة المقاومة العراقية على إحداث هذا الشرخ لخرق هذا التحالف، إذ شعرت طهران أن الولايات المتحدة قد انكشفت في العراق، وبدأت حظوظها الامبراطورية في التراجع وسيطرتها على حلفائها في العالم تخف شيئاً فشيئاً، غير أن إيران سواء أدركت أم عجزت عن ذلك؛ فإنها تسير نحو حتفها هي الأخرى، وهي كالولايات المتحدة بدأت رحلة السقوط من نقطة الأخلاق المعروفة القمينة بهدم كل دولة فضلاً عن امبراطورية، فالولايات المتحدة الأمريكية افتقرت إلى مبررات الحرب الحقيقية فخسرتها، ووعدت بالديمقراطية فلم تف، وإيران تدثرت بالإسلام، فرأى العالم الإسلامي دثارها قد خرق، وإن الأسمال وإن سترت يوماً أحداً، فلابد لها يوماً أن تنكشف كلما زاد الخرق اتساعاً على الراقعين.