نماذج من اعتبار فقهاء الشريعة للسياسة الشرعية(1)

اعتبار الفقهاء للسِّيَاسة الشَّرعيَّة (1)

بعد أن خلصت الحلقات السابقة إلى أنَّ مجالات السياسة الشرعية من جهة الأحكام والمسائل تشمل : كلّ ما صدر عن أولي الأمر ، من أحكام وإجراءات ، منوطة بالمصلحة ، فيما لم يرد بشأنه دليل خاص ، مُتَعَيِّنٌ - فهو داخل في مجالات السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، كما مرَّ بيانه في تعريفها .

تنتقل هذه الحلقة إلى بيان اعتبار علماء الإسلام وفقهاء الشريعة رحمهم الله للسياسة الشرعية ، على نحو ما تم تأصيله في المقالات السابقة .. والحق أنه موضوع يستحق عناية الباحثين من طلبة العلم ، لكشف المسائل السياسية ومستنداتها الشرعية ، ومادته مادة ثرية واسعة شاملة ، تسع عشرات الباحثين الجادين ، كما أنه لطيف في مضمونه ، وعميق في مداركه .

ولمّا كان بهذه المنزلة ، رأيت أن أقتصر على نماذج من تلك المسائل ، مأخوذة من المذاهب الأربعة الذين يستنبطون مسائل السياسة الشرعية وفق طرق الاستدلال السابقة وغيرها ، كما رأيت إضافة أهل الظاهر ، لبيان اتفاقهم مع بقية المذاهب على اعتبار السياسة الشرعية ، عكس ما قد يوحي به ما عُرِف من طريقتهم في الفقهيات .

واعتبار الفقهاء العملَ بالسياسة الشرعيـة أمر لا ينكر ؛ فلا يخلو كتاب من كتب الشروح الفقهية وغيرها من كتب أهل العلم المطولة - في عدد من المباحث الفقهية ، ضمن المجالات التي سبق ذكرها - من تعليل الفقهاء لبعض الأحكام بـ( السياسة ) ، أو بمـا هو مرادف لمرادهم بها في الغالب ، كـ( المصلحة ) أو ( دفع الضّرر ) أو ( الافتقار إلى حكم الحاكم ) ، أو ما كان في معنى ذلك ؛ وقد تَتَبَّعت هذه التعليلات في مجال علم السِّيَر في بعض المراجع الفقهية المهمّة ، ولاحظت تتكرر التعليل بعبارات مرادفة لمعنى السياسة الشرعية ، هي أشبه بدلائل تفرع المسألة - محل التعليل - عن السياسة الشرعية – ومنها على سبيل التمثيل – قولهم : … ويجوز قتله سياسة ؛ … لأنّهم مضرّة على المسلمين ؛ … لأنّه جُعِلَ في مصلحة ؛ … لأنّ مصلحته تفوت بتأخيره ؛ … لئلا يرى الجاسوس قلَّتهم بتفرُّقهم ؛ … لأنّ المصلحة تتعين في قتالهم ؛ … وإنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة ؛ … لأنّ ضرره يعود على الجيش كلِّه ؛ … لا يقتل إن جرت العادة ألّا يقتل ؛ … فمتى رأى الإِمام المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعَّينَتْ عليه ولم يجز العدول عنها … ؛ … لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ، فإننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ؛ … أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا ؛ فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم ؛ لما فيه من الإضرار بالمسلمين ؛ … أو كانوا يفعلون ذلك بنا ، فيفعل بهم ذلك ؛ لينتهوا ؛ … ما لا تدعو إلى أخذه حاجة عامة ، لا يجوز أخذه ؛ … وإن دعت الحاجة جاز لأنّها حال ضرورة ؛ … لأنّـ الحاجة تدعو إلى هذا ، وفي المنع منه مضرّة بالجيش وبدوابِّهم ؛ … لأنّ القتال به معتاد ؛ … جائز عند شدَّة الحاجة إليه ، وتعيُّن المصلحة فيه ؛ … إن كان بالمسلمين حاجة إليه ، أو قوّة به ، أو شغل عنه أُخِّر … ؛ … لأنّه يتعلق بنظر الإمام ؛ … لأنّ ذلك ذريعة إلى إرقاق الولد ؛ وغيرها من التعليلات الفقهية التي تبين فقه الشريعة وتكشف عن مجالات السياسة الشرعية موضوعات ومسائل .

و لا يخلو منها مذهب من المذاهب الفقهية ؛ حتى مذهب أهل الظاهر ؛ وهذا يؤكِّد اعتبار الفقهاء قاطبة للعمل بالسياسة الشرعية في الجملة ، وإن اختلفت المسميات ، والتعبيرات ؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني ؛ يؤكِّـد ذلك أمور ، منها :

الأول : من الناحية النظرية :
فإن مسائل السياسة الشرعية منها ما يرجع في تأصيله إلى النصّ والإجماع ، ومنها ما يرجع إلى ما تفرَّع عن ذلك من قواعد كلية ، ومقاصد مرعية ؛ فأمَّا ما يرجع تأصيله إلى النصِّ والإجماع ، فليس مما يُشَكَّكُ في التسليم به ، وإن وُقِفَ فيه على نزاع ، فليس نزاعا في جملة العمل بالسياسة الشرعية ؛ وإنَّما هو في أمر آخر ؛ كصحة الدليل - إن لم يكن قرآناً - أو صحة الاستدلال وعدمه ، أو اعتبار طريق الاستنباط ، أو تحقيق المناط .

وأمَّا ما يرجع في تأصيله إلى طريق من طرق الاستنباط ( الاستدلال ) ؛ فالخلاف فيه في أهم مسائله ، خلاف لفظي ؛ ثم هو لا يقدح في اعتبار الفقهاء للعمل بالسِّيَاسة الشَّرعيَّة في الجملة .

الثـاني : من الناحية التطبيقية : وتتضح من خلال مجالين :

المجال الأول : التأليف الخاص ؛ حيث يوجد عدد من المؤلفات الفقهية الخاصَّة – في المذاهب الفقهية الأربعة - في السياسة الشرعية في عدد من مجالاتها ، ومن المجالات المتفق على مشروعيتها عندهم جميعا من حيث الأصل ( التعزير ) ، ومن الكتب التي أفردت فيه مثلا : السياسة الشرعية ، لإبراهيم خليفة المعروف بدده أفندي رحمه الله ، و من الكتب التي أفردت في طرق القضاء : الطرق الحكمية ، لابن القيم رحمه الله ، ومن الكتب المعاصرة التي أفردت في مجال أدق : السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية لعبد الفتاح عمرو عايش رحمه الله .

المجال الثاني : التأليف العام ؛ حيث يوجد كثير من المسائل الفقهية المندرجة تحت السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، منثورة في أمهات كتب أهل العلم من الشروح الفقهية وغيرها ، و لاسيما ما كان منها ذا عناية بفقه النوازل ، و التدليل والتعليل .

وهذه نماذج من نصوص العلماء في بعض مسائل السِّيَاسة الشَّرعيَّة ، مما هو منثور في الكتب الفقهية العامَّة (1) :

أ- أمثلة مما جاء من السياسة الشرعية عند الحنفية :

قال ابن الهمام : فيمن سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت : " لو اعتاد لصٌّ ذلك ؛ للإمام أن يقطعه سياسة ، لا حدَّاً …" (2) .

وقال ابن نجيم : " وما ورد في الحديث من الأمر بقتل الفاعل والمفعول به ؛ فمحمول على السياسة أو على المستحلّ ، قال الزيلعي : ولو رأى الإمام مصلحة في قتل من اعتاده ، جاز له قتلُه " (3) .

وقال ابن عابدين : " قوله : للإمام أن يقتله سياسة ، أي : إن سرق بعد القطع مرتين ، لا ابتداءً ، كذا ذكره بعضهم …" (4)

و قال " ولا جمع بين جلد ورجم في المحصن ، ولا بين جلد ونفي أي تغريب في البكر ، وفسره في النهاية بالحبس وهو أحسن وأسكن للفتنة من التغـريب لأنَّه يعود على موضوعه بالنقض إلا سياسة وتعزيرا ؛ فيفوض للإمام وكذا في كل جناية " (5)

وكلام الحنفية في ذلك ، كثير جداً (6) .

ب- أمثلة مما جاء منها عند المالكية :

قول بعض فقهائهم : " وإن كتب شهادته على من لا يعرفه بالعين والاسم لم يصح أن يشهد بها إلا على عينه وإنما تسامح العلماء والخيار في وضع شهادتهم على من لا يعرفونه سياسة في نفع العامة " (7) .

وقول ابن رشد : " يمنع من ذبح الفتى من الإبل مما فيه الحمولة ، وذبح الفتى من البقر مما هو للحرث ، وذبح ذوات الدرّ من الغنم ؛ للمصلحة العامَّة للناس ، فتمنع المصلحة الخاصة " (8) .

وقال الزرقاني مبيناً محلَّ وجوب قتل قاطع الطريق إذا قتل : "… محل وجوب قتله … ما لم تكن المصلحة في إبقائه ؛ بأن يُخشى بقتله فساد أعظم من فئته المتفرقين ؛ فلا يجوز قتله بل يطلق ارتكاباً لأخف الضررين …" (9) .

وكم يلحق بهذه المسألة من مسائل في هذا العصر !

وللمالكية بروز في العمل بالسياسة الشرعية (10) ؛ ولهذا قال ابن القيم : " وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك ، فمشهور " (11) .

هذا اتسع المجال لذكره في هذه المقالة ، وللمقالة بقية كما هو ظاهر من ترقيمها ، والله أعلم .

-----------------------
(1)أمَّا ما جاء من مسائل السياسة الشرعية في كتب السِّيَاسة الشَّرعيَّة المتخصصة ، فأظهر من أن يُذكر ؛ فلا يطال بذكر شيءٍ منه ؛ بل تكفي عناوينها أو تصفحها في بيان المقصود .
(2)فتح القدير شرح الهداية ، لابن الهمام : 5/376 . وانظر ذكراً لمفهوم السياسة في أخذ السلطان الزكاة ممن لم يدفعها للإمام مدعياً دفعها للفقراء. في المصدر نفسه : 2/225.
(3)البحر الرائق شرح كنز الدقائق ، لابن نجيم : 5/18 . ونص الحديث المشار إليه : (( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به )) . رواه أبو داود : ك/ الحدود ، ب/ فيمن عمِل عمَل قوم لوط ، ح(4462) ؛ و الترمذي : ك/الحدود ، ب/ ما جاء في حد اللوطي ، (1456) ؛ وابن ماجه : ك/الحدود ، ب/ من عمِل عمل قوم لوط ، ح(2561) .
وقد صححه ابن حبان (11/103) ، والحاكم (4/355) ؛ والذهبي ( تلخيص المستدرك ) ؛ وابن القيم : ( في مواضع من كتبه ، منها : زاد المعـاد في هـدي خير العباد :5/40) ؛ وينظر : التلخيص الحبير ، لابن حجر : 4/54-55 ؛ و إرواء الغليل ، للألباني : 8/17،ح(2350) ؛ وتعليق د. سعد بن عبد الله الحميد على : مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك أبي عبد الله الحاكم ، لابن الملقن : 7/3125 .
(4)منحة الخالق على البحر الرائق ، لابن عابدين ، بهامش البحر الرائق : 5/67 ؛ وينظر : رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، لابن عابدين :4/16 . والعبارة أوردها ابن نجيم نقلاً عن الفتاوى السراجية ؛ وجاء فيه : " إذا سرق ثالثاً ورابعاً ، للإمام أن يقتله سياسة ؛ لسعيه في الأرض بالفساد " ، نقله عن السراجية . وفيه : قال : " فما يقع من حكام زماننا من قتله أول مرَّة زاعمين أن ذلك سياسة ، جور وظلم وجهل ، والسياسة الشرعية عبارة عن شرع مغلظ " . نفس الموضع .
(5)الدر المختار شرح تنوير الأبصار ، للحصكفي ، مطبوع بأعلى حاشيته : رد المحتار على الدر المختار ، لابن عابدين :4/15 . وفي هذه الحاشية ، بحث في السياسة معنون بـ" مطلب في الكلام على السياسة " : 4/15-17.
(6)ينظر فوق ما سبق : رسائل ابن نجيم : 117 .
(7)التاج والإكليل لمختصر خليل [ بحاشية مواهب الجليل ] : 8/225 .
(8)نقله عنه صاحب : مواهب الجليل لشرح مختصر خليل : 4/347
(9)شرح الزرقاني على مختصر خليل ، لعبد الباقي الزرقاني : 4/110 . وعدَّ بعض من أفتى به من المالكية ؛ وينظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، لمحمد عرفة الدسوقي : 4/350 .
(10)ينظـر : الذخيـرة ، للقرافي :10/42 وما بعدها ؛ وتبصرة الحكام ؛ فقد عقد مؤلفه ابن فرحون المالكي ، القسم الثالث من الكتاب : " في القضاء بالسياسة الشرعية "، و ذكر فيه كثيـراً مـن الأمثلة ، من شتَّى أبواب الفقه : 2/ 137-366 .
(11)إعلام الموقعين : 4/458 .