نماذج من اعتبار فقهاء الشريعة للسياسة الشرعية (2)

جـ- أمثلة لما جاء منها عند الشافعية :
- قال بدر الدين الزركشي - رحمه الله - عند ذكرهِ قاعدة : ( تصرف الإمام على الرعيّة منوط بالمصلحة ) - : "… نصَّ عليه … قال الشافعي : منزلة الوالي من الرعيَّة ، منزلة الولي من اليتيم انتهى ، وهو نصّ في كلِّ والٍ … وحيث يُخيَّر الإمام في الأسير بين القتل ، والاسترقاق ، والمنّ ، والفداء .. لم يكن ذلك بالتشهـي ؛ بل يرجع إلى المصلحة ، حتى إذا لم يظهر له وجه المصلحة ، حبسهم إلى أن يظهر " (1) .
- و جاء في إعانة الطالبين : " غالب الأحاديث لا تكاد تخلو عن حكم ، أو أدب شرعي ، أو سياسة دينية " (2) .
- وجاء عندهم في عقوبة الذميِّ إذا قتل المرتدَّ ثلاثة أقوال : وجوب القصاص ، وعدمه : " والثالث : يجب القصاص سياسة ، ولا تجب الدية ؛ لأنَّه غير معصوم " (3) .
- وجاء في روضة الطالبين : " والرابع إن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل الزوجية وأثبته ببينة ثم قذفها به ، لم يلاعن ، وإن قذفها بزنا في الزوجية ، وأثبته ببينة ثم قذفها به ، لاعن ؛ وحمل النصين عليهما ، ثم ظاهر نصه في الروايتين أنه لا يُعزَّر إلا بطلبها ، وحكى الإمام وجهاً : أنه يعزِّره السلطان سياسةً وإن لم تطلب ، كما يعزِّر من يقول : الناس زناة ، والصحيح الأول … " (4) .
واعتبارهم للسياسة الشرعية ظاهر لمن له نظر في كتبهم ، وإن كانوا أقل المذاهب استعمالاً لمصطلح ( السياسة ) )6( ، فإنهم يعللون بـ( المصلحة ) ونحوها مما هو رديف له (5) .

د- أمثلة لما جاء منها عند الحنابلة :
ذكر ابن القيم أمثلة لاعتبار الإمام أحمد ، للسياسة الشرعية ، ومن ذلك :
- قوله في المُخنَّث (7) : " والمُخَنَّثُ ينفى ؛ لأنَّه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له ، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله ، وإن خاف به عليهم حبسه " (8) .
- ونصُّه فيمن طعن في الصحابة : " أنَّه قد وجب على السلطان عقوبته ، وليس لسّلطان أن يعفو عنه ؛ بل يعاقبه ويَسْتَتِيبه ؛ فإن تاب وإلا أعاد العقوبة " (9) .
-و قال أبو الوفاء ابن عقيل في الفنون : " للسلطان سلوك السياسة وهو الحزم عندنا ولا تقف السياسة على ما نطق به الشرع (10) ؛ إذ الخلفاء الراشدون رضي الله عنه قد قتَّلوا ومثَّلوا وحرَّقوا المصاحف ، ونفى عمرُ نصرَ بن حجَّاج خوف فتنة النساء " (11) . قال ابن مفلح في بيان هذه العبارة : " قال شيخنا : مضمونه ، جواز العقوبة ، ودفع المفسدة ، وهذا من باب المصالح المرسلة ، وقد سلك القاضي في الأحكام السلطانية أوسع من هذا " (12) .
- ونقل عنه ابن القيم قوله : " جرى في جواز العمل في السلطنة ، بالسياسة الشرعية : أنَّه هو الحزم عندنا ، ولا يخلو من القول به إمام " (13) .
- وقال : " وصرح أصحابنا في أنَّ النساء إذا خيف عليهن المساحقة (14) ، حرم خلوة بعضهن ببعض " (15).
قلت : وقد رأينا في هذا العصر شيئا من حكمة هذا الحكم ، الذي لا يماري في صحته عارف بالواقع فقيه في السياسة . وفي بلاد الإفرنج وجدناهم يضعون من القوانين في أماكن التجمعات النسائية ما يحفظ النساء من النساء !
- ومما جاء عند الحنابلة - أيضاً - تقييد ما حكي من الإجماع على وجوب طاعة الإمام في غير المعصية بقولهم : " ولعل المراد : في السياسة والتدبير والأمور المجتهد فيها ، لا مطلقاً ؛ ولهذا جزم بعضهم : تجب في الطاعة ، وتسنُّ في المسنون ، وتكره في المكروه …" (16) .

هـ – أمثلة لما جاء من السياسة في فقه أهل الظاهر :
- من ذلك أنَّ القاضي يحجر على المدين ، ويمنعه من التصرفات الضارَّة بالغرماء ؛ كالإقرار ، والبيع بأقل من القيمة ؛ وللقاضي بيع ماله إذا امتنع عن بيعه ويقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص (17) .
- وقال أبو محمد ابن حزم : " ومن أتى منكرات جمَّة ؛ فللحاكم أن يضربه لكل منكر منها عشر جلدات فأقل بالغاً ذلك ما بلغ ؛ لأنَّ الأمر في التعزير جاء مجملاً فيمن أتى منكراً : أن يُغير باليد …" (18) .
- وقال : " الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسِّيَر الفاضلة ، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلا قرشي صليبة (19) عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكِما للقراءة …" (20) .
قلت : والشاهد قوله : " عالم بالسياسة ووجوهها ، وإن لم يكن محكما للقراءة " .

وفي الحديث هنا بقية يستكمل في المقالة التالية إن شاء الله تعالى ..
--------------------
(1) المنثور في القواعد :1/309 .
(2) للدمياطي :4 /351 .
(3) الوسيط في المذهب ، للغزالي : 6/246 .
(4) للإمام النووي : 6/308 .
(5) قال ابن القيم رحمه الله : " وأبعد الناس من الأخذ بذلك الشافعي مع أنَّه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مائة موضع … وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب …" . إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/458 .
(6) ينظر فوق ما سبق : نهاية المحتاج ، للرملي : 8/240 ؛ والتلخيص ، لأبي العباس الطبري ابن القاص : 74-75 ؛ والتجريد لنفع العبيد ، للبجيرمي : 4/232 .
(7) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 ؛ والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، علي بن سليمان المرداوي :10/250 . والمخنَّث : الذي يتشبَّه بالنساء والذي يمكن غيره من نفسه. قال أبو العباس ابن تيمية : " فإنَّ المخنَّث فيه إفساد للرجال والنساء ؛ لأنَّه إذا تشبه بالنساء فقد تعاشره النساء ويتعلمن منه ، وهو رجل فيفسدهن ؛ ولأنَّ الرجال إذا مالوا إليه فقد يُعْرِضُون عن النساء ؛ ولأنَّ المرأة إذا رأت الرجل يتخنَّث فقد تترجل هي ، وتتشبه بالرجال فتعاشر الصنفين ، وقد تختار هي مجامعة النساء كما يختار هو مجامعة الرجال ؛ وأما إفساده للرجال فهو أن يُمَكِّنَهم من الفعل به - كما يفعل بالنساء - بمشاهدته ومباشرته وعشقه …" . مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 15/310 . وينظر : 15/322 ؛ و الكليات ، للكفوي : 872 .
(8) إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/457 .
(9) المصدر السابق : 4/458 .
(10) قال البهوتي بعد أن نقل هذه العبارة : " قلت : ولا تخرج عما أمر به أو نهى عنه ". كشاف القناع عن متن الإقناع ، لمنصور البهوتي : 6/126-127 .
(11) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 ؛ ينظر : الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف ، للمرداوي :10/250 . ولم أقف على هذه العبارة في المطبوع من كتاب الفنون ( جزآن ) مع استعراضه وتكرار البحث فيه ؛ فلعله في الأجزاء التي تُقدر بالمئآت مما لم يطبع بعد ، إن كان موجودا .
(12) الفروع ، لابن مفلح : 6/115-116 .
(13) الطرق الحكمية : 14؛ وإعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/451 .
(14) المساحقة : إتيان المرأة المرأة ، و قد يعبر عنه بـ : تدالك المرأتين . ينظر : المغني ، لابن قدامة [ مع الشرح الكبير] :10/157 ؛ وكشاف القناع عن متن الإقناع ، للبهوتي : 6/121.
(15) إعلام الموقعين ، لابن القيم : 4/458 .
(16) الفروع ، لابن مفلح : 2/158. ويذكرون ذلك في كتبهم عند بيانهم أحكام صلاة الاستسقاء .
(17) ينظر : الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي ، د. عارف خليل أبو عيد : 437
(18) المحلَّى : 11/404 .
(19) صليبة ، أي : خالص النسب ، من صلب قريش ، مجازي . ينظر : أساس البلاغة ، للزمخشري :358 مادة ( صلب ) .
وشرط النسب القرشي في الخليفة هو ما عليه جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة ، وحكى الإجماع عليه غير واحد من العلماء المتقدمين . ولكن هذا الشرط إنما يراعى عند الاختيار من قبل أهل الحل والعقد ، أما من تولّى إمامة المسلمين بغير هذه الطريقة فلا يشترط فيه القرشية ، كالمتغلب مثلا ومن عُهد إليه من إمام سابق وخشيت الفتنة إن عُزِل ؛ ففي مثل هذه الحالة تجب طاعته في غير معصية والجهاد معه ونحو ذلك ، وله من الحقوق ما جاءت به النصوص في وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية ، وما جاءت به من النهي عن الخروج عليهم ، وإن لم تكتمل شروط الخلافة فيه .
ينظر : الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة ، للشيخ د. عبد الله بن عمر الدميجي :265-295 .
(20) الإحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم : 7/1268 .