استراتيجية الإقناع (2)

[email protected]
( في الجزء الأول من المقال تحدثنا عن أهمية الإقناع وكيفية بناء الثقة ومستوياتها ثم تحدثنا عن مضمون رسالة الإقناع ومحاذير من السقوط فيها ..واليوم نكمل الحديث ..)

الإقناع والقناعة :
أعني بها هنا الصدق في المحاولة , وهي طريقة في الإقناع لاينجح فيها إلا أصحاب الدعوات المخلصة , والذين هم فعلا حريصون على نصح المتلقي , إنهم عندئذ يحاولون إقناعه بكل تجرد واحتساب ويبذلون في سبيل إقناعه ما يستطيعون من جهد , لذلك فإنك تلمح ذلك في الدعاة الصادقين الذين ما يلبثون أن تدمع أعينهم بينما هم يعلمون الناس وترتجف شفاههم وهم ينصحونهم بالخير ..

هكذا وغيره نلمحه من حديث جرير بن عبد الله الذي يجلي لنا مدى أهمية أن يخرج النصح من القلب وينطلق الإقناع من القناعة , يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم , لذلك فإن رسالة الإقناع الراقية هي تلك التي توظف في معالي الأمور وراقيها , وتبث في الآخر المعنى مصحوبا بالتذكير بالمبادىء والقيم والتعاليم العليا , عندئذ يخرج الإقناع النافع مغلفا بغلاف أصيل ..

هل نتعلم الإقناع ؟
قد يستغرب الكثيرون إذا طالبنا الدعاة في كل مكان بأن يتقنوا مهارات الإقناع وإذا بهم يسائلوننا : وهل للإقناع مهارات تحتاج إلى التعلم؟!
والحق أن الإقناع في حد ذاته مهارة تحتاج إلى تعلم وتدريب وتفهم وإدراك – بل هو استراتيجية متكاملة كما سبق وبينا – ولا استغراب إذا قمنا يوما بتأسيس دورة للدعاة في فن الإقناع بل هو أمر يحتاجه هؤلاء تمام الحاجة وأحسب أنهم سينتفعون منه كثيرا , وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمور إنما تدرك بالتعلم والتدرب والتجريب ففي الحديث : " إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم " ..

وللأسف نجد كثيرا من الدورات التدريبية الخاصة بعلوم الإدارة والعلاقات العامة يقبل عليها الناس إقبالا كبيرا وتهتم بها المؤسسات اهتماما , في حين أن المهارات الأساسية التي يحتاجها الدعاة مهملة أيما إهمال ..إذن فهي دعوة ابعثها من هنا لكل القائمين على المؤسسات الدعوية أن يرتبوا للدعاة دورات وتدريبات منهجية أكاديمية حول الإقناع وطرائقه , ويفسحون المجال لمحاضرات وتدريبات الأساتذة المتخصصين في ذلك المجال بحيث أن يُتَابع الدارسون متابعة دورية تقييمية منتظمة ..

إنطلق من الفقر ..
لا لم تخطىء في قراءة ذلك العنوان الجانبي .. إنه فعلا هكذا " إنطلق من الفقر " وأعني به - أيها القارىء الكريم الحريص على إقناع الآخرين بأفكارك ومعانييك واهتماماتك - أنك في الحقيقة يجب أن تقتنع أنك لا تملك شيئا ولا تستطيع أن تفعل شيئا وحدك .. إنك فقير بالكلية وإنما التوفيق كله بيد الله سبحانه , إن انطلاقك من هذا المعنى هو سر نجاحك في إقناع الآخر , وتمام توكلك على الله سبحانه هو مخبوء وصولك لمرتجاك ...

فإن الله سبحانه هو رب القلوب وهاديها وفاتحها ومقلبها , لذا تجد من دعائه صلى الله عليه وسلم " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " وتجد من دعاء النبيين في كتاب الله " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " فتمام الفقر وكامل التوكل يمثلان مفاتيح القلوب المغلقة ويمثلان الطريق الأقرب للإقناع والإفهام ..فكم رأينا صالحا تقيا تقبل إليه القلوب رغم ضعف إمكاناته وآخر نفرت منه الآذان والأعين قبل القلوب رغم كثرة ماعنده ..إن الفرق بينهما هو في ذات إحساسهما بالحاجة إلى الله سبحانه واللجوء إليه عز وجل , وتمعن جيدا فيما نقله الذهبي عن سفيان يقول عن مالك " والله مابلغ مالك ما بلغ عند الناس إلا بخبيئة صالحة بينه وبين ربه " !

موضع الأمانة ..
إنها ههنا أيضا ..نعم ..هنا نوع خاص من الأمانة , أمانة نقل المفاهيم ونقل المعلومات وبث الأقاويل .
هناك مثل ياباني شهير يقول : اسمح لي ببعض الأكاذيب وأنا أقنعك بأن الحجارة لحم !

فالأكاذيب تغير القناعات , ولكم استعمل الأكاذيب كثير من الذين ضيعوا الأمانة وسوف يلقون من ربهم جزاء وفاقا , ولن أجد ههنا مثالا أوقع مما تفعله الفعاليات الإعلامية عبر فضائياتها وصحفها ومجلاتها في تشويه الصورة المضيئة للإسلام والدعاة إلى الله ..

إننا ههنا لسنا بصدد الحديث عمن ضيع الأمانة فهم كثر .. إنما قد سقت هذا المعنى لأقول إن الإقناع برسالة معينة يستوجب التوثق من صدقيتها وصحة النقل فيها ومنها , وصحة الاستدلال عليها , بلا مبالغة أو تهوين , فالأكاذيب ليست صناعتنا – نحن الدعاة – والخيالات ليست منهجنا في توصيل المعاني , إنما نحن رجال الحق ولا ننطق إلا بالحقائق ..حتى لو كنا في معرض المزاح والتبسم ..

إننا حملة هذا الدين العظيم القويم لنفخر أن لنا قائدا لم ينطق عن الهوى يوما " إن هو إلا وحي يوحى " , وأنه علمنا أن " الصدق يهدي إلى البر " , وإننا لن نجد طريقا لإقناع الآخر أقوى من أن نَصدُقه , وأن نؤدي أمانة الكلمة وأمانة الرسالة بكل تجرد ومصداقية ..

فأقبِح إذن بداعية يَنسب إلى نفسه قولا هو ليس بقائله , أو بحثا هو ليس بكاتبه أو خطبة هو ليس بناسجها , أو قصيدة هو ليس بناظمها ..مهما كانت حجته في ذلك فالكلمة أمانة والعلم أمانة , والإثم " ماحاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " وإذا أردت أن تعرف تأثير هذا المعنى في الإقناع فانظر إلى ردود أفعال السامعين عندما يعلمون أن ما تنسبه لنفسك هو مجهود رجل آخر وبذله الأيام الطوال وسهره الليالي الصعبة .. إن من أبسط المعاني التي تربينا عليها هي : " أعط كل ذي حق حقه " و" المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " وكلاهما من صحيح حديثه صلى الله عليه وسلم

لذا فإنني أتخيل نوعا مميزا من الإعلام الإسلامي الراقي الغير مسبوق إذا اعتمد الصدق منهجه والأمانة سبيله , إنه يوما لن يسقط في وديان سحيقة من التزوير ولن يهوى في حمأة الخيانة ..
( وللحديث بقية إن شاء الله )