أنت هنا

الأكل من ذبائح الكفار
25 جمادى الثانية 1428
اللجنة العلمية

المسألة الأولى: تحرير محل النزاع في ذبائح الكفار ما يحل منها وما يحرم:(*)
أجمع أهل العلم على تحريم ذبائح سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة والمجوس وغيرهم، وأجمعوا على إباحة ذبائح أهل الكتاب(1) لقوله سبحانه: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5)(2)، والطعام اسم لما يؤكل والمراد به هنا الذبائح؛ لأن غيرها يحل منهم ومن غيرهم فلا يكون ثم مزية ولا معنى لتخصيصهم، ولعلهم خُصُّوا بذلك لأنهم أهل كتاب ويعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله(3). وشذ أبو ثور فأباح ذبيحة المجوس(4) لقوله صلى الله عليه وسلم: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب" ولأنهم يقرون بالجزية فيباح صيدهم وذبائحهم كاليهود والنصارى واحتج برواية عن سعيد بن المسيب(5).
قال بن قدامة: :وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به"(6)؛ لأن الله تعالى يقول: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ)، فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار؛ ولأنهم لا كتاب لهم فلم تحل ذبائحهم كأهل الأوثان؛ ولأن كفرهم مع كونهم غير أهل كتاب يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب، ورواية سعيد روي عنه خلافها، والجزية إنما أخذت منهم لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم فلما غُلِّبت في التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء احتياطاً للتحريم في الموضعين؛ ولأن الجزية أخذت لضرورة حقن دمائهم ولا ضرورة في حل ذبائحهم(7).

المسألة الثانية: المراد بالكتابي الذي تحل ذبيحته:
اختلفوا في المراد بالكتابي الذي تحل ذبيحته، وينطبق عليه هذا الوصف على قولين:
الأول: أنه من تدين بدين اليهودية أو النصرانية.
وهو قول جماهير الأمة.
لقوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا) (الأنعام: من الآية156)، فلو كانوا أكثر من طائفتين لما خصهم بذلك ونقل ابن عطية الإجماع على أن المراد بذلك اليهود والنصارى فقط(8).
وعلى هذا دل عرف القرآن والسنة في أهل الكتاب وفهمه الصحابة ومن بعدهم.
الثاني: أنه كل من اعتقد ديناً سماوياً له كتاب منزل فيشمل إضافة لما سبق من آمن بصحف إبراهيم وزبور داود.
وبهذا قال الحنفية ونص عليه الشافعي(9)، ولعلهم نظروا إلى طبيعة اللفظ اللغوية(10).
ورجح الجصاص قول الجمهور وقال: "الآية صريحة في أن أهل الكتاب في عرف القرآن هم اليهود والنصارى دون غيرهم"(11).
وهو الراجح وتدل عليه الحقيقة العرفية.
واشترط بعض العلماء التزام الكتابي بأحكام دينه وعمله به فإذا تركه ونبذه وراء ظهره كبعض المنتسبين للنصرانية في عصرنا فلا يعد كتابياً.
والصحيح أنه إذا كان إنكاره للدين بمعنى جحوده وإلحاده فهذا لا يعد كتابياً، أما إذا التزم بعقيدتهم ونسب نفسه إليهم فإن هذا كاف في اعتباره منهم فإن الله تعالى نادى أهل الكتاب بذلك مع عدم تمسكهم بأحكامه وتحريفهم وتبديلهم له كما في قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (المائدة: من الآية68)، وحل ذبائحهم هو باعتبار أصل دينهم لا باعتبار ما ابتدعوه.
وقد اشترط بعض العلماء أيضاً لكونه كتابياً أن يكون هو أو آباؤه قد دخلوا في ذلك الدين قبل النسخ والتبديل، قال شيخ الإسلام: "وهذا قول ضعيف لا دليل عليه بل المقطوع به أن كون الرجل كتابياً أو غير كتابي هو حكم يستفيده بنفسه لا بنسبه.... وهو المنصوص الصريح عن جمهور الفقهاء والثابت بين الصحابة بلا نزاع بينهم.... وذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم"(12).
والمتدين بدين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن وافقهم في أصول دياناتهم من فرقهم المختلفة قد يكون حربياً أو ذمياً ومن العرب أو غيرهم وقد يكون أبواه كتابيان أو غير كتابيين أو أحدهما كتابي دون الآخر.
فاتفقوا أنه لا فرق بين الحربي والذمي منهم(13).
واختلفوا في نصارى العرب على قولين:
الأول: حلها، وهو قول الحنفية والمالكية، وآخر الروايتين عن أحمد(14).
الثاني: تحريم ذبائحهم، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه(15)، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد(16).
وسبب الخلاف: "هل يتناول العرب المتنصرين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنوا إسرائيل والروم"(17).
واستدل أصحاب القول الأول:
بدخولهم في عموم قوله سبحانه: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5)، ولأنهم أهل كتاب يقرون على دينهم ببذل المال فتحل ذبائحهم ونساؤهم كبني إسرائيل؛ ولأنه قول جماهير الصحابة(18).
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر؛ ولأنهم لم يقوموا بالشروط التي اشترطها عليهم عثمان، ومن كان منتحلاً ملة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها(19)، واستدل علي(20) على ذلك بقوله سبحانه: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) (البقرة: من الآية78).
والراجح القول الأول؛ لقوة أدلتهم، وكون هؤلاء من العرب لا يخرجهم عن عموم الآية وتساهلهم في بعض الواجبات والمحظورات من دين أهل الكتاب لا يخرجهم كذلك(21).
والآية السابقة دليل لنا؛ لأن (من) للتبعيض أي من أهل الكتاب(22).
واتفق أهل العلم على أن من كان أبواه كتابيين فإنه تحل ذبيحته واختلفوا فيما إذا كانا غير كتابيين أو أحدهما كذلك دون الآخر(23).
فالقول الأول: حل ذبيحته.
وهو قول الحنفية والمالكية وقول للشافعي إذا كان الأب كتابياً، ورواية عن أحمد(24).
والقول الثاني: تحريمها.
وهو قول مالك – إن كانا غير كتابيين(25) – والشافعي، ورواية عن أحمد وعليها أصحابه(26).

الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
بأن الاعتبار بدين الذابح لا بدين أبيه بدليل أن الاعتبار في قبول الجزية بذلك، ولعموم النص والقياس فهو كتابي يُقِرُّ على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين؛ ولأن جعل الولد تبعاً للكتابي منهما أولى لأنه خيرهما ديناً(27).
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأنه وجد ما يقتضي التحريم والإباحة فَغُلِّبَ ما يقتضي التحريم كما لو جرحه مسلم ومجوسي، وبيان وجود ما يقتضي التحريم: أن كونه ابن مجوسي أو وثني يقتضي تحريم ذبيحته(28).

المناقشة والترجيح:
قال ابن القيم رحمه الله: "حِلُّ ذبائحهم ومناكحتهم مرتب على أديانهم لا على أنسابهم فلا يكشف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده.. فإن الله سبحانه أمرهم بالجزية ولم يشترط ذلك وأباح ذبائحهم وأطعمتهم ولم يشترط ذلك في حلها"(29).
وعليه فالراجح حلها مطلقاً ولعموم النصوص والقياس كما تقدم.

المسألة الثالثة: شروط حل ذبيحة الكتابي:
من أهم الشروط في حل ذبيحته:
1 – ألا يكون مما حرمه الله علينا بعينه كالخنزير والدم أو بوصفه كالميتة، لقوله سبحانه: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) (الأنعام: من الآية145)، وقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية173)، ولقوله: (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) (المائدة: من الآية3).
2 – التذكية الشرعية، لقوله سبحانه في آية المائدة السابقة: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) (المائدة: من الآية3)، أي لا يخرج من حكم الحرمة إلا الحيوان الذي يموت بتذكيتكم ولعموم الأدلة في اشتراط الذكاة لحل الأكل، وهذا قول جماهير الفقهاء فإن خالف الكتابي ذلك صارت كالميتة.
وذهب بعض المالكية إلى حل ما خنقه الكتابي بقصد التذكية كما نص على ذلك ابن العربي(30) إلا أنه اضطرب وذكر التحريم في موضع آخر لكن بعض المالكية(31) أيده في قوله بالحل وهو اختيار علماء الأزهر ومحمد رشيد(32).
والراجح تحريم ذلك؛ لأن الله تعالى حرم علينا أكل الميتة والمنخنقة والموقوذة، وما يقتله الكتابي على هذا الوجه مما حرم الله؛ لأنه إما ميتة أو منخنقة... إلخ حسب أداة وكيفية القتل.
وكما أن الخنزير من طعامهم ولا قائل بحله لنا فكذلك هذا المقتول على غير وجهه الشرعي؛ لأن الميتة والخنزير حرما في الآية نفسها وعموم الآية المبيحة لطعامهم مقيد بالمحرمات في الآخرى والحاظر يقدم على المبيح إذاتعارضا(33).
3 – التسمية.
وقد اختلف أهل العلم هنا في مسألتين:
الأولى: ما تركوا التسمية عليه بالكلية، فللعلماء فيه قولان:
الأول: التحريم، وهو قول الحنفية والحنابلة(34).
الثاني: الإباحة وهو قول المالكية والشافعية(35).
واستدل أصحاب القول الأول: بأن التسمية شرط في حل ذبيحة المسلم فالكتابي من باب أولى، وإن قيل إنها ليست بشرط في المسلم فلأن اسم الله في قلبه وإن تركه بلسانه والنسيان معفو عنه بخلاف الكتابي.
واستدل أصحاب القول الثاني:
بظاهر القرآن (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5) فظاهر العموم فيتناول ما لم يذكر السم الله عليه.
ولأن التسمية إذا لم تكن شرطاً في ذبيحة المسلم – على قول – لم تكن شرطاً في ذبيحة الكتابي(36).

المناقشة والترجيح:
حمل المالكية الآية التي تنهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه على ما إذا كان الذابح مسلماً أما الكتابي فلا، ورد ذلك بأن النص مطلق فيشمل كل ذابح وذبح.
وحمل الشافعية الآية التي تحرم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه على ما ذكر عليه غير اسم الله، وقوله: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: من الآية121) مجمل مفسر بآية الأنعام (قُلْ لا أَجِدُ... الآية) (الأنعام: من الآية145)، ومفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقاً.
ونوقش ذلك بأن التأكيد بأن واللام في قوله: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ينفي كون الجملة حالية والإجماع ممنوع لاشتهار معنى الفسق، وفي الآية بيان أن الحرمة لعدم ذكر اسم الله؛ لأن التحريم يوصف بذلك الوصف وهو الموجب للحرمة.
والراجح اشتراط التسمية في حل ذبيحة المسلم لظاهر النص، وعليه فالكتابي أولى، والله تعالى يقول: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام: من الآية121)، وهذا يشمل ذبيحة الكتابي وهو مخصص لعموم الآية السابقة؛ لأن المراد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم ومن شرط التسمية، فلا تحل ذبيحة الكتابي إذا ترك التسمية عليها، قال ابن القيم: "لعمر الله إنها لشرط بكتاب الله وسنة رسوله وأهل الكتاب وغيرهم فيها سواء فلا يؤكل متروك التسمية سواء ذبحه مسلم أو كتابي لبضعة عشر دليلاً"(37) ا.هـ
ولعل في قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) إشارة إلى هذا؛ لأن الخطاب هنا يشمل المخاطبين من المسلمين وكذلك أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم كالمسلمين.

المسألة الثانية: ما سموا عليه غير الله كالمسيح مثلاً فهل يلحق بما تقدم أم لا؟
اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
الأول: التحريم، وهو قول الحنفية، والشافعية، وأصح الروايتين عن أحمد(38).
الثاني: الإباحة، وهو رواية عن أحمد وقول جماعة من السلف(39).
الثالث: التفصيل، فإن كانوا ذبحوه تقرباً لآلهتهم وتركوه فلم ينتفعوا به فلا يحل لنا أكله؛ لأنه ليس من طعامهم وما ذبحوه لأنفسهم بقصد الأكل منه ولو في أعيادهم لكن سموا عليه اسم آلهتهم تبركاً فيكره أكله ولا يحرم، وهذا قول المالكية(40).
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول:
بقوله سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) (الأنعام: من الآية121)، وبقوله سبحانه: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية173) وهذا صريح عام في تحريم كل ما ذبح لغير الله ومنه هذا لأنهم أخلصوا الكفر عند تلك الذبيحة(41).
ونوقش بأنه مقيد بقوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5).
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأن هذا من طعامهم وقد أباحه الله لنا مع علمه أنهم يسمون غير اسمه، فلو كان محرماً لبُيِّن إذا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة التي قدمها له اليهود ولم يسأل أَذُكِر اسم الله عليها أم لا؟(42)
واستدل أصحاب القول الثالث:
بعموم قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) (المائدة: من الآية5) فإنه يصرفه عن التحريم إلى الكراهة لذكر اسم الآلهة(43).

المناقشة والترجيح:
الراجح القول الأول لعموم الآية وإباحة ذبائح أهل الكتاب وإن كانت مطلقة لكنها مقيدة بما لم يهلوا به لغير الله فيحمل المطلق على المقيد جمعاً بين النصوص، ولا يصح العكس لوجوه(44):
أحدها: النص على تحريم ما لم يذكر السم الله عليه في قوله سبحانه: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام: من الآية121)، فنص على تحريم أكله، وأخبر بأنه فسق وفي هذا تنبيه على أن ما ذكر اسم الله عليه أشد وأولى في التحريم والفسق فلا يحل.
الثاني: أن إباحة طعامهم خص منه مما يستحلونه مما هو محرم علينا كالميتة ولحم الخنزير فلأن يخص منه ما يستحلونه مما أهل به لغير الله من باب أولى.
الثالث: أنه تعارض دليل الحظر والإباحة فيرجح الحظر؛ لأنه أحوط.
قال شيخ الإسلام: "( وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم يبح ذكاته لأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (المائدة: من الآية5) سواء، وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا؛ ولأنه تعارض حاظر ومبيح فالحاظر أولا أن يقدم؛ ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقيناً أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلَّت ذبائحهم منتف في هذا"(45).
الرابع: أن ما أهل به لغير الله لا يجوز أن تأتي الشريعة بإباحته أصلاً فإنه بمنزلة عبادة غير الله.
وما استدل به أصحاب القول الثاني مردود بأن الله سبحانه كان يعلم أيضاً أن النصارى من أهل الكتاب يأكلون الخنزير ويشربون الخمر وهو الذي أباح لنا ذبائحهم وحرم علينا ما أهل لغير الله به، فيجب أن يكون حكم الحل مراعى فيه حكم الآية الأخرى بمعنى أن ذبيحتهم تحل بشرط عدم الإهلال عليها بغير الله وإلا فلماذا لا نستخرج من قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) إباحة ذلك أيضاً.
وأما استدلالهم بشاة اليهود المسمومة فإنما يصح لو ثبت أن اليهود في ذلك الزمان ما كانوا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وأنه صلى الله عليه وسلم رغم علمه بهذا أكل من ذبيحتهم، وأما مجرد أنه أكل من ذبيحتهم ولم يسأل فلا دليل فيه على استثنائهم من وجوب التسمية(46).
وقال ابن كثير: "إن أهل الكتاب – في ذلك الوقت – كانوا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وكانوا متعبدين بذلك ولهذا فإن الله تعالى لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم"(47).
وسبب الخلاف في هذه المسألة والتي قبلها التعارض بين عمومين(48).
ففي الأولى تعارض قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) مع قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).
وفي الثانية تعارض مع قوله: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) والقاعدة الأصولية تقول: إذا تعارض عمومان يرجح العموم المحفوظ – الباقي على عمومه – على العموم الذي خص منه صور وهذا يؤيد ما تقدم ترجيحه في المسألتين.
وتفريق المالكية لا دليل عليه؛ لأن علة التحريم الذبح لغير الله وهي متحققة في كل حال وما ذبحوه وتقربوا به لغير الله فهو شرك ويدخل فيما أهل به لغير الله ولو ذكروا عليه اسم الله ومنه ما يذبحونه في أعيادهم وكنائسهم إذا نوى بها التقرب إلى غير الله، ونقلت الرخصة فيها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما إذا لم يسموا غير الله(49).
ومن الخطأ ما علل به بعض المعاصرين في إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً لعموم الابتلاء بمخالطتهم للمسلمين واحتياجهم إلى ما يذبحونه في كل زمان ومكان فهذا غلط واضح لم يقل به أحد من المسلمين فإن مخالطة المسلمين للمشركين كما في مكة والطائف وغيرهما أعظم وأكثر من مخالطتهم لأهل الكتاب ومع هذا لم تبح ذبائحهم والذبيحة بترك التسمية عليها أو بذكر اسم غير الله عليها تحمل الخبث والله سبحانه وتعالى حرم علينا الخبائث والخبث(50).
وإذا لم تعلم تسميته فإنه لا يسأل عنها ولا تترك ذبيحته إلا بدليل قاطع على وجود ما يحرمها إذا الأصل الحل ثم إن الشرط متى شق العلم به وكان فيه أعظم الحرج سقط اعتبار العلم به(51).
ولا يباح للسائح في بلاد الكفر أكل ما لم يذبح على الطريقة الشرعية إلا للضرورة المبيحة للمحظور، أما كون المسلم يشق عليه تحصيل الحلال فإن هذا لا يجعله مضطراً فبإمكانه تحصيل الطعام المباح من الأسماك والحبوب والألبان وغيرها.
وفي هذا الزمن ابتلي المسلمون بكثرة استيراد اللحوم من بلاد غير إسلامية وقد أصدر المجمع الفقهي في قراره رقم (94) بشأن الذبائح ما يبين حكم ذلك بقوله:
(أ) إذا كان استيراد اللحوم من بلاد غالبية سكانها من أهل الكتاب وتذبح حيواناتها في المجازر الحديثة بمراعاة شروط التذكية الشرعية فهي لحوم حلال.
(ب) اللحوم المستوردة من بلاد غالبية سكانها من غير أهل الكتاب محرمة لغلبة الظن بأن إزهاق روحها وقع ممن لا تحل تذكيته.
(ج) اللحوم المستوردة من البلاد المشار إليها في البند السابق إذا تمت تذكيتها تذكية شرعية تحت إشراف هيئة إسلامية معتمدة وكان المذكي مسلماً أو كتابياً فهي حلال(52).
وأفتى الشيخ ابن باز بأنه إن علم كونها من ذبائح أهل الكتاب فالأصل حلها ما لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي؛ لأنه لا يعدل عن الأصل إلا بيقين وإن كان من غير ذبائح أهل الكتاب وإنما من بقية الكفار فهي حرام ولا تكفي التسمية عليها عند غسلها أو أكلها(53).
وأفتت اللجنة الدائمة بنحو ذلك وأن الكتابي إذا ذكر اسم غير الله عليها أو لم يذكره عمداً أو ضربها في رأسها بمسدس أو بالطعن الكهربائي ونحو ذلك فهي ميتة محرمة وعليه، وكما أفتى الشيخ ابن عثيمين أيضاً(54)، فإن لهذه اللحوم ثلاثة أحوال إذا كانت من كتابيين:
الأولى: أن نعلم بأن ذبحه كان على الطريقة الإسلامية بذكاة وتسمية فالمذبوح حلال.
الثانية: أن نعلم بأن ذبحه كان على غير الطريقة الإسلامية مثل الخنق والطعن والضرب وترك التسمية أو ذكر غير اسم الله أو ذبحها لصنم ونحوه تقرباً فالمذبوح حرام.
الثالثة: أن نعلم أن الذبح وقع ونجهل كيفيته وصفته وهل سمى عليها أم لا؟
فهنا الأصل حله ولا يجب السؤال عنه تيسيراً على العباد ويدل عليه قصة أكله صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة كما تقدم ولحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قوماً أتونا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا فقال:: "سموا عليه أنتم وكلوه" قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر فالشك موجود وكونهم حديثوا عهد بالكفر قرينة له فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام فإحلاله صلى الله عليه وسلم مع ذلك دليل على ما تقدم؛ ولأن الأصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة(55).
وقد صدر بيان لهيئة كبار العلماء في المملكة في هذا الموضوع بناءً على مكاتبات وتقارير حول واقع الذبائح المستوردة توصلت فيه إلى أنه لا اطمئنان يحل الأكل منها بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية والأصل المنع(56).

_________________
(*)استفيد مادة البحث من كتاب السياحة في الاسلام لعبد الله الخضيري
(1) ينظر: .بداية المجتهد، لابن رشد (2/262)، والإجماع، لابن المنذر، ص (58)، والمجموع، للنووي (9/52-53)، والمغني، لابن قدامة (13/293)، والإفصاح، لابن هبيرة (2/309)، وتفسير ابن كثير (2/27).
(2) وعلى هذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم كما في أكله من الشاة المسمومة عند اليهودية ولأنه إذا ثبت حل نسائهم ثبت بالتالي حل طعامهم.
(3) ينظر: تفسر ابن كثير (2/27)، وبدائع الصنائع، للكاساني (5/75).
(4) ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد (2/265)، والمجموع للنووي (9/52)، والمغني، لابن قدامة (13/293).
(5) ينظر: المغني، لابن قدامة (13/293).
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق، وبدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، وحاشية ابن عابدين (9/428).
(8) المحرر الوجيز (5/404).
(9) ينظر: تبيين الحقائق (3/110)، والأم (4/281)، وبه قال أبو يعلى من الحنابلة.
(10) ينظر: فقه الأقليات، خالد عبد القادر، ص (20)، وأحكام الأطعمة، أبو سريع، ص(196).
(11) أحكام القرآن (2/327).
(12) دقائق التفسير (3/19).
(13) المصادر السابقة، والإجماع، لابن المنذر، ص (58).
(14) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، وحاشية ابن عابدين (9/428)، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/262)، والمنتقى، للباجي (3/112)، والمغني، لابن قدامة (13/228-229)، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/513).
(15) ومنه دخلت الشبهة على الشيعة – كما قال ابن القيم – فانفردوا بتحريم ذبائح أهل الكتاب وهذا القول مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم فلا يلتفت إليه، كما قال ابن القيم حيث بين بطلانه في أحكام أهل الذمة (1/506- وما بعدها).
(16) ينظر: المصادر السابقة، والمجموع، للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج، للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين، للنووي (3/237).
(17) بداية المجتهد، لابن رشد (2/263).
(18) "قال الأثرم: وما علمت أحداً كرهه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا علياً"، المغني، لابن قدامة (13/228).
(19) ينظر: المصدر السابق، وتفسير ابن جرير الطبري (6/102).
(20) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75).
(21) ينظر: الأطعمة، لصالح الفوزان، ص 107، وأحكام الأطعمة، أبو سريع، ص (193).
(22) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75).
(23) ينظر: المصدر السابق، وبداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، والمدونة (1/573)، وشرح خليل، للخرشي (3/6)، والمجموع، للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج، للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين، للنووي (3/237)، والمغني، لابن قدامة (13/228)، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم (506).
(24) ينظر: المصادر السابقة.
(25) المصادر السابقة، وقد قال ابن قدامة في المغني (13/294): (إن كان ابن وثنيين أو مجوسيين فمقتضى مذهب الأئمة الثلاثة تحريمه ومقتضى مذهب أبي حنيفة حله) ورد عليه شيخ الإسلام بقوله: (حكي ذلك عن مالك وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه)، مجموع الفتاوى (35/221).
(26) المصادر السابقة.
(27) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، والمغني، لابن قدامة (13/294).
(28) المصادر السابقة.
(29) أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/506).
(30) في أحكام القرآن (2/556).
(31) كالونشريسي في المعيار المعرب (2/9).
(32) ينظر: فقه الأقليات، خالد عبد القادر، ص (503).
(33) ينظر: المصدر السابق، بتصرف.
(34) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، وما بعدها، وحاشية ابن عابدين (9/428)، والفروع لابن مفلح مع تصحيح المرداوي وحاشية ابن قندس، تحقيق التركي (10/399)، والمغني، لابن قدامة (13/294).
(35) ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، وعقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (1/583)، والمجموع، للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج، للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين، للنووي (3/237)، ومجلة المجمع الفقهي ع3 (2/404).
(36) المصادر السابقة.
(37) أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/510).
(38) ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني (5/75)، وحاشية ابن عابدين (9/428)، والمجموع للنووي (9/52-53)، ومغني المحتاج للشربيني (4/266)، وروضة الطالبين (3/237)، وحاشية ابن قندس (10/403)، والمغني، لابن قدامة (13/294)، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة كما في الفتوى رقم (1216).
(39) ينظر: المصادر السابقة.
(40) ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (1/583)، وحاشية الدسوقي (1/53).
(41) ينظر: المصادر السابقة، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/510)، وما بعدها.
(42) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم رقم (4003) ومسلم في كتاب السلام، باب السم، رقم (2190).
(43) ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد (2/264)، وعقد الجواهر الثمينة، لابن شاس (1/583).
(44) ينظر: أحكام أهل الذمة، لابن القيم (1/527).
(45) اقتضاء الصراط المستقيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/59-60).
(46) ينظر: حاشية ابن عابدين (9/428)، وذبائح أهل الكتاب، لأبي يعلى المودودي، ص (30) بتصرف.
(47) تفسير ابن كثير (2/27).
(48) ينظر: بداية المجتهد لابن رشد (2/264).
(49) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لشيخ الإسلام (2/57)، وحاشية ابن قاسم على الروض المربع (7/454).
(50) ينظر: حكم اللحوم المستوردة وذبائح أهل الكتاب وغيرهم، عبد الله بن حميد، ص(28) بتصرف، وأحكام الأطعمة، أبو سريع، ص(193)، وما بعدها.
(51) كما ذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/247) وفي بداية المجتهد (1/450): (إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور تؤكل وهو مروي عن علي ولست أذكر في هذا الوقت خلافاً).
(52) ينظر: قرارات المجمع الفقهي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، ص (224).
(53) ينظر: أبحاث هيئة كبار العلماء (2/546)، وما بعدها.
(54) المصدر السابق.
(55) ينظر: المصدر السابق، بتصرف، وعليه لا يصح استدلال المهلب بحديث عائشة السابق والذي رواه البخاري في كتاب الصيد والذبائح، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، ص 474، رقم (5507). ينظر: نيل الأوطار (8/140)، وسبل السلام (4/1406)، وفقه الأقليات، خالد عبد القادر، ص(507).
(56) أبحاث هيئة كبار العلماء (2/546).