من أنباء المتسابقين
15 رمضان 1428

الحمد لله الذي حض على السباق إلى جنات عدن فقال: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ"، بل وأمر بالمسارعة فقال: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"، وحث جل وعلا على مطلق التنافس فقال بعدما ذكر الجنة ونعمها فقال:"وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ"، والصلاة والسلام على سيد المتسابقين وإمام المسارعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، خير من صلى وصام وتهجد وقام، فصلوات الله عليه وسلامه إلى موعد القيام.
أما بعد..
فما نبأ المتسابقين؟ وما خبرهم؟ ومن يتسابق فيه؟ ما زمان السباق وهل هو كسباقاتنا المعروفة؟ ما جوائزه؟ كم مراحله؟ ما هي أصناف المتسابقين؟ أسئلة كثيرة جوابها ما سنعرفه من خلال الكلمات القادمة، ومن ثم ما هي العبر أو الوقفات التي نخرج بها من هذا السباق.

فإلى مضمار السباق بنفوس متلهفة إلى مغفرة الله، وهمم تناطح السحاب وأعين تبصر الحقائق لا الظواهر، فإلى مضمار السباق لنعرف نبأ المتسابقين.
توافدت الجموع الغفيرة من كل حدب وصوب حضرت بعدها وعتادها شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً، كلهم يبتغي ذلك المضمار، كلهم ينشده ويقصده.
حضرت هذه الجموع لهذا المضمار، لا لتشاهد بل لتنافس، حضرت تريد الجوائز والحوافز، وما أن تكامل الجمع حتى وقف الجميع عند نقطة البدء ينتظرون أن يُعطى لهم الإشارة حتى ينطلقون، ينتظرون الشهر الكريم شهر رمضان المبارك حتى يسابقون فيه، ينتظرون الشهر وقد أعيا بعضهم طول انتظارهم وتطاول أيامه.

هذه الجموع حضر كثير منها طواعية لا كرهاً، حضرت وحادي الشوق والأجر يستحثهم وحضر بعضهم كرهاً لا طواعية، حضروا على مضض لعلمهم أن هذا السباق سيفوت كثيراً من الشهوات والرغبات عليهم ، وقلة قليلة جداً حضروا مكبلين بالسلاسل وألقوا في المضمار، فما عساهم أن يفعلوا وهو يتجرعون غصصه!!!

هذا الشهر الكريم هو مضمار سباقهم أيها المتسابقون وميدان تنافسكم أيها الصائمون، ميدانكم هذا طوله ثلاثون مرحلة وقد تقل مرحلة.
أما جائزته الكبرى والتي لأجلها أقيم السباق ووضع فهو التقوى، نعم تقوى الله عز وجل، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".
بالإضافة على جوائز توزع في نهاية كل مرحلة "ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة".

وأطلقت صافرة البدء وهل هلال الشهر الكريم فشمرت السواعد وتسارعت الخطا إلى تلك الغاية العظمى والمرتبة الكبرى، فلك أن تتصور حالة تلك الجموع الغفيرة وذلك المنظر الرهيب وهي تجري في ميدان هذا الشهر العظيم، امتلاء المساجد في الصلوات والتراويح، ودوي القرآن في كل ناد ومسجد، موائد إفطار الصائم، صناديق التبرعات، بكاء الأسحار، وتوبة العائد، صور مشرقة من خلال مضمار هذا السباق، إنه لمنظر رائع وضخم لم يبلغه أي سباق تتابع في العالم أبداً.

وما إن انطلقت تلك الجموع الغفيرة حتى نودي فيها بالحديث التالي:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة).
فلك أن تتصور يا رعاك الله ما هو شعور المتسابقين عندما يطرق أسماعهم: أبواب الجنة فتحت، أبواب النار غلقت. أو قول القائل: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.

هذا السباق له أهمية عند راعي السباق ومصرف جوائزه، فإنه يقول جل وعلى في الحديث القدسي " كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ".

هل هذا وحدها؟ لا، بل وأكثر: " ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ". ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونه والأذى ويصيروا إليك.
بل: وللصائم دعوة مستجابة عند فطره.
ولنلقي النظر إلى بعض المتسابقين لنرى مدى استعداد القوم واجتهادهم.
هذا متسابق لسان حاله "وعجلت إليك ربي لترضى" عجل إلى الطاعات بمختلف أنواعها من صلاة وصدقة وصيام واعتكاف ودعاء، لا يرى عبادي أو أي فرصة إلا وعجل إليها ليرضى عنه ربه.

ومتسابق تسمع أنفاسه وهو يجري، قد أعيته ذنوبه وخطاياه فهو يجري على وجل وخوف من راعي السباق ومصرف جوائزه، كلما تذكر الجائزة أسرع وكلما خطر في باله الذنب أهمه الأمر وأقلقه.

وانظر إلى هذا المتسابق إن أمره لعجيب تراه يجري ويجري ثم يتوقف قليلاً ليسترد بعض أنفاسه وشعاره في هذا إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، فتراه بعد استراحة أسرع ما يكون وقطعه للمراحل أعجب ما ترى، فلله دره ما أفقهه.

وصنف من المتسابقين – الذين حضروا كرهاً لا طواعية – تراهم يبذلون وينافسون ولكن ليس كأصحاب الصنف الأول لأنهم وللأسف لا يعرفون ربهم إلا في رمضان، فهو ميدان للتسابق والتنافس ولكن للأسف سباق في موائد الطعام ولذيذ الشراب وتجول الأسواق وحل الألغاز والأحاجي ولم يعرفوا بعد لغز هذا الشهر المبارك ولم يفطنوا إلى سر هذا السباق العظيم، وهؤلاء سماهم أحد الدعاة بأنهم الممثلون الرمضانيون.

وأما الصنف الذين أحضروا مكبلين إلى مضمار السباق فهم كالأنعام بل هم أضل ، قد دنت همتهم وخارت عزيمتهم، لا يبرحون من مكانهم البتة يحصد غيرهم الجوائز وهم ساهون غافلون لا يحركون ساكناً ولا يسكنون متحركاً البتة، قد أهمتهم أنفسهم وشهواتهم وملذاتهم عن الملذات الحقيقية التي تكون في السباق، هؤلاء كلما مر بهم متسابق جاد في السباق فحثهم ووعظهم قالوا له: إن راعي السباق ومصرف جوائزه غفور رحيم، وإن هذا الدين يسر ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، يرون غيرهم يحصد الجوائز والعطايا وهم لم يفهموا بعد لماذا أقيم هذا السباق ولماذا يجري هؤلاء القوم، ووالله إنهم لمساكين خرجوا من الدنيا وما عرفوا أطعم وأحلى ما فيها.

وفي مثل هؤلاء ينطق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

هذا باختصار وصف لبعض أصناف المتسابقين وإلا فالمضمار واسع والمتسابقون كثر، والأرقام القياسية تحطم والجوائز تحصد وكل يبصر عمله ويسعى للمزيد.
لم ينته بعد نبأ القوم، ولنا معهم بقية لنرى حالهم وعلى ماذا كانوا.