التفاؤل في زمن التسويد

التفاؤل صناعة الناجحين في زمن المتغيرات، ولا يمكن بأي حال أن يجتمع التفاؤل مع استمرار حسن الحال، لأن التفاؤل يولد مع الأزمة، وكلما ازدادت الأزمة استحكاماً ازداد طلب التفاؤل، فالأزمة عرض والتفاؤل طلب لكنها تختلف عن الميزان التجاري بكونها متلازمة بين العرض والطلب في مستويات متوافقة.
كملت فلما استحكمت حلقاتها XXX فرجت وكنت أظنها لا تفرج
وهناك فئة من الناس تعيش على تسويد الواقع – على تفاوت بينهم - أملاً في العزلة التامة، فلا ترى إلا بمعيار السواد، وهؤلاء مخطئون من عدة جوانب:
1- تصنيف الواقع: فلا يرونه إلا من خلال رؤية سوداوية، لا يفسرون فيها الواقع إلا بما يشتهون ويريدون بينما الواقع لا يمت للأمنية بصلة، بل كما في الرؤية الصحيحة هو قرين الانخراط فيه .
2- إيهامهم لأنفسهم أن تغيير الواقع مستحيل تماماً: فيعيشون على هذا الواقع منتظرين الأجل، أو تغييراً قدرياً للأحوال دون أن يكون لهم مساهمة فيه، معتقدين في ذات الوقت أنهم قد فروا بأنفسهم منه .
3- قطعهم لأي أمل يمكن تحقيقه حتى ولو كان بسيطاً: ولذا فهم لا يريدون المساهمة في التصحيح، بل هم يساهمون في تحطيم الهمم . عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم ". رواه مسلم
4- وأدهم للتفاؤل وتوقعهم الدائم لسوء العواقب: وهذه من أخطر الأشياء، وهو خاضع لمنهجهم في تحليل الأحداث بأسوأ صورة، ومفسرين للمستقبل بتشاؤم، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طيرة وخيرها الفأل "قالوا: وما الفأل ؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم . متفق عليه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يعجبه الفأل الحسن و يكره الطيرة . رواه الحاكم وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله رواه ابن ماجه .
5- ضعف عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر: والذي غير قناعات من كانوا أكبر مشركي العرب وجعلهم قادة الدنيا بعدما آمنوا، قادر على تغيير غيرهم، وكم نرى في مجتمعاتنا من أناس تغيروا تغيراً جذرياً، في وقت كان بعض المرجفين يدعون عليهم بالهلاك، لفسادهم وسوء أحوالهم، وهذا – بلا شك – خلل عظيم ومصيبة كبيرة .
عن عائشة أنها قالت: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال: "لقد لقيت من قومك فكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت - وأنا مهموم - على وجهي فلم أفق إلا في قرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ". قال: "فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك إن شئت أطبق عليهم الأخشبين "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ". متفق عليه .
ولو تأملنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يستصحب التفاؤل في كل أحواله، مع تعددها وتفاوتها تفاوتاً كبيراً، ومع أنه قد مر به أحوال عدة كانت متفاوتة تفاوتاً عظيماً من حرب وسلم، وأمن وخوف، وسراء وضراء، وأحوال مختلفة، فلم يعرف أن الظروف غيرته أو أصابته بالملل، بل كلما استحكمت ازداد تفاءلاً وتشوفاً للنصر، وها هو صلى الله عليه وسلم يغضب لغياب التفاؤل عن بعض أصحابه في وقت اشتداد الأزمة، فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه وقال: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ". رواه البخاري
إن هذه الواقعة لا تمثل مجرد الغضب لغياب التفاؤل، بل هي فرصة استغلها النبي صلى الله عليه وسلم لتثبيت هذا المفهوم العظيم أثناء حدوث الأزمة، والأزمات دروس وعبر لا يستغلها إلا أئمة التفاؤل، كما يتبين أيضاً أن تصنيف الواقع أثناء الأزمة لا يتوفر بقياس صحيح إلا لمن تمتع بقدر كبير من التفاؤل، ومنه نستخلص أن النبي صلى الله عليه وسلم توفر له عدة أشياء، عندما أراد تثبيت مفهوم التفاؤل الصحيح، فمن ذلك:
1- تفاؤله العظيم حيث لم يتأثر بالشدة التي واجهها مع أصحابه، بدليل أنه لم ينتقد تصنيف الواقع – شدةً أو رخاءً – ، بل غضب لغياب التفاؤل .
2- غضبه المتسق مع تفاؤله، إذ لو كان لديه قدر بسيط من التفاؤل لحاول معالجة الأمر بهدوء، لكن غضبه وراءه فقه عظيم لا يدركه إلا ( ربانيو التفاؤل ) .
3- استغلاله فرصة اجتماع المشتكين للشدة ببيان المنهج الصحيح للتفاؤل، ولذا فقد أتى درسه بذكر الضريبة التي دفعها السابقون ممن واجهوا حرباً أسوأ مما قابله الصحابة، وصل إلى القتل تعذيباً، ومع ذلك لم يصدهم ذلك عن دينهم، فكان توضيحه الشامل لموقف السابقين متضمناً لمعاتبة أصحابه الذين لم يصل أذاهم إلى مستوى أولئك .
4- جمعه في الوصف بين الألم واقعياً وبين الأمن والنصر مستقبلاً، وهي حقيقة حتمية لأي دعوة إلى الله تعالى، بل هي المعادلة التأريخية لأي دعوة صحيحة لا يتحدث عنها بتفاؤل كبير إلا لمن نظر بعين البصيرة للمستقبل المشرق أثناء استحكام الأزمة .
إن مثل هذا الغضب كفيل بأن يجدد النفوس ويغمرها بالتفاؤل والإيمان بالوعد الصادق بالنصر والتمكين،وهذا الغضب هو الذي صنع التفاؤل في نفوس الصحابة، فجدد صبرهم واجتهادهم فبذلوا في سبيل الدعوة الشيء الكثير، واستصحبوا التفاؤل بوعد الله العظيم بالنصر والتمكين (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )