أنت هنا

اللعبة الباكستانية
15 ذو الحجه 1428

ما نشهده حاليا في باكستان هو مشاهد الإخراج الفعلي لمخطط أمريكي لتحسين وضع النظام القائم هناك بإعطائه كفاءة أقوى في القضاء على الحركة الإسلامية داخل وحول باكستان نفسها وليس القضاء على الإرهاب والتطرف كما يشاع في الإعلام الغربي.
والخطة تطلبت التدخل في شكل مدني علماني سياسي لعلاج أخطاء النظام العسكري الدكتاتوري حتى ولو كان قد ألبس نفسه في فترة من الفترات ثوباً إسلامياً. ولهذا الغرض ذهبت مسرحية هزلية لم تخف أبعادها على أحد بعودة بنظير بوتو إلى البلاد من المنفى وسط دعاية ضخمة بأنها سوف تقاوم النظام الدكتاتوري وتقود حركة شعبية ضده وإن تم منع ذلك من أن يجاوز الحد في وقت يقوم نفس النظام بمنحها العفو القانوني وفتح الطريق أمام عودتها والسماح بحشد أنصارها في الاستقبال الذي غطاه الإعلام الغربي كما لو كان عودة الفاتحين رغم أن النظام نفسه وفي إطار إدراك الدور الحقيقي لبنظير في اللعبة لم ينس أن يخلق انفجاراً في الموكب ليقول لأصدقائه الأمريكان في نفس واحد إنه موجود ولا يزال يملك أوراقاً قوية ممثلة بأجهزته الأمنية وليقول في نفس الوقت إنه داخل ومشارك في لعبة عودة بنظير وإنه يسهم بهذا الانفجار في رفع أسهمها وتصويرها على أنها بطلة وشهيدة (افتراضية) ويركز الأضواء عليها هي بدلاً من تركيزها كما كانت حتى عودتها على المعارضة الحقيقية داخل باكستان والتي تتكون من القضاة والمحامين والصحفيين ومن الحركة أو الحركات الإسلامية.
واستمرت المسرحية بتصريحات وتصريحات مضادة من جانب بنظير تتحدث مرة عن مقاومة الدكتاتورية والتحدي ومرة أخرى عن المفاوضة والتفاهم. وأخذت رئيسة الوزراء السابقة تسعى إلى ممارسة دورها في الخطة بصورة تسترعي الانتباه؛ فهي تارة ترفع شعار أنها جاءت لكي تقاوم الإرهاب والتطرف وتقصد بهما الحركة الإسلامية دون التصريح المعلن بذلك، وتارة أخرى تعلن أنها تريد جمع شمل المعارضة الباكستانية في تحالف يسعى لإعادة الديموقراطية في البلاد.
وفي الحالتين لم يكن هناك تعارض في مضمون التصريحات، فهي في الحالة الأولى تقدم أوراق اعتمادها إلى الحليف الأمريكي والمحلي (أي نظام مشرف) بالإعلان الصريح عن أنها تعتزم الوفاء بدورها في الصفقة وضرب الإسلاميين من كل نوع.
أما في الحالة الثانية فهي تسعى تحت ستار لم شمل المعارضة إلى طرح نفسها كرئيسة لهذه الحركة المعارضة وبذلك تستطيع القيام بأدوار عديدة مهمة. فهي سوف تستطيع السيطرة على حركة المعارضة ووضع أجندة العمل لها وأولويات وأساليب عملها وتستطيع ضبط ذلك كله بما يخدم الاتفاقات التي أعلنت في أكثر من مرة أنها توصلت إليها مع النظام ومع الأمريكان، وعلى جانب آخر فإن نجاح بنظير في ترؤس حركة المعارضة يتيح لها تحجيم دور المعارضة أو الحركات الإسلامية العريضة وأصوات المعارضة المحترمة من القضاة والمحامين وغيرهم وهي الفئات التي قادت بالفعل حركة المعارضة بل أجبرتها في مواجهة نظام البطش الدكتاتوري وأساليبه القمعية في وقت كانت فيه بنظير تنعم في المنفى بدل وجودها في السجن بعد إدانتها بتهم تتعلق بالفساد.
كذلك تستطيع بنظير بقيادتها لحركة المعارضة أن تغرق المعارضة الحقيقية في بحر من الغوغائية التي يتسم بها أتباعها وأن تحول مسار المعارضة من مطالبها الحقيقية إلى عمليات من المظاهر الجوفاء يصلح للدعاية لكنها لا تصل إلى تحقيق مطالب ومكاسب ديموقراطية حقيقية.
غير أن أهم ما يمكن أن تحققه بنظير من مكاسب للمخطط الذي جاء بها هو أنها بعد أن تترأس المعارضة ولو بشكل صوري ودعائي وبأن تستغل ذلك في أن تجعل المعارضة تأتي بها وبخبرتها إلى الحكم في انتخابات توصف بالحرة، وبهذه الطريقة فإن بنظير تستطيع أن تصور سياسات ضرب الحركة الإسلامية التي سوف تتبعها بأنها ليست مفروضة من الخارج أو من الداخل وإنما هي نتاج رغبة شعبية أكيدة تنفذيها هي بحكم أنها رئيسة الوزراء المنتخبة والمعبرة عن رأي الشعب.
وإذا كانت هذه هي أبعاد لعبة عودة بنظير إلى باكستان فقد سارت هذه اللعبة في طريقها حتى الآن بنجاح؛ فرغم عودة نواز شريف رئيس الوزراء السابق إلى البلاد هو الآخر ورغم تمتعه بشعبية تفوق شعبية بوتو بكثير إلا أن حجب أضواء الإعلام عن هذه العودة جعلها تبدو وكأنها لم تحدث بل وجعل بنظير تبدو كما لو كانت الشخصية السياسية الوحيدة في البلاد ومع التخلي المزعوم لمشرف عن قيادة الجيش مع توليه للرئاسة وهو ما استقر عليه الرأي في الصفقة التي عقدت بين الطرفين.
كذلك أعلنت بنظير عن دخولها في الانتخابات التشريعية هو ما يهدف في المقام الأول ليس إلى خوض الانتخابات فالنتيجة أمر مفروغ منه في ظل الاتفاق بين الطرفين وإنما إلى إقرار الشرعية والمصداقية على هذه الانتخابات التي تقاطعها الأطراف الأخرى حتى الآن.
لكن السؤال الآن بعد استعراض مسرحية بنظير بما في ذلك الدور الذي لعبه الإعلام الغربي فيها هو حول الهدف الذي يخدم هذه المسرحية. الهدف كما ألمحت في البداية التدخل لإنقاذ نظام عميل لأمريكا ومعالجة فشل رأس هذا النظام.
إن دور مشرف كمنفذ للسياسة الأمريكية في ضرب الحركة الإسلامية في بلده وفي أفغانستان لم يعد من الممكن السكوت عليه وكان لابد وعلى ضوء المبدأ الأمريكي البراجماتي المعروف أن يكون هناك حل لإعادة الكفاءة إلى العملية بأسرها حتى لو اقتضى الأمر التخلي عن مشرف.
صحيح إن هذا التخلي والإسقاط كان لابد أن يتم بالتدريج وان يتم بإخراج مسرحي لا يحرج أحداً من الأطراف (وهذا هو دور بنظير في العملية) لكن مشرف كان يجب أن يسقط أو يختفي أو على الأقل يتم تحجيمه لأن الأمر، وهو أحد أركان السياسة الأمريكية في المنطقة، لا يمكن ببساطة أن يترك للفشل.
والواقع والمهم هو أن العملية أو المسرحية التي قامت بها أمريكا وأصدقاؤها العلمانيون بباكستان وبمساعدة أصدقاء آخرين في المنطقة العربية هي درس بليغ لكل الحلفاء.
ولا أعني الدرس هنا أن أمريكا تتخلى عن أصدق أصدقائها بل عملائها فهذه القصة معروفة منذ زمن بعيد وكم تخلت أمريكا وعلى مدى ما يزيد عن النصف قرن عن عملاء وأصدقاء بل كم تولت هي بنفسها إسقاط وقتل ومحاكمة هؤلاء العملاء. كما حدث في مساحة تمتد من جنوب شرق آسيا إلى أمريكا الوسطى.
ليس هذا هو مغزى اللعبة في باكستان ولكن المغزى الحقيقي هو أن أمريكا لا تمانع في استغلال واستخدام التعاون مع القوى العلمانية (حتى لو تظاهرت بأنها معارضة) في البلاد التي يكون حكامها عملاء لأمريكا، وهؤلاء الحكام يكونون عادة قد شجعوا هذه التيارات العلمانية واستقووا بها في مواجهة التيارات الإسلامية العريضة والأصلية ثم استغنوا عن خدماتها بعد تحقيق أهدافهم.
لكن هذه القوى تبقى موجودة على الساحة لحين الاحتياج إليها مرة أخرى، غير أن الذي يحدث هو أن الأمريكان هم الذين يدخلون لاستخدام هذه القوى عند بوادر الفشل لدى أصدقائهم وعدم قدرتهم القيام بالمهمة التي تطلبها أمريكا منهم وهي في العادة مهمة القضاء على الحركات الإسلامية بل وعلى أوضاع الإسلام نفسه في بلدان منطقة الشرق الأوسط.
إن الدرس الذي يخرج من المهزلة في باكستان هو أن أمريكا والغرب معها عامة لهم قضية ومطلب أساسي معروف وهو ضرب الإسلام حتى قبل الحصول على موارد البترول أو القواعد أو المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية. وأفضل ما يحقق هذا الهدف هو الأنظمة الشمولية القمعية التي لا تسمح لأحد بالاعتراض أو لا تسمح لمجرد الوعي بما يخطط ويدبر.
وهذه الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي هي الحليف المفضل لأمريكا منذ أواسط القرن العشرين. التطور الوحيد الذي حدث على هذه الصورة في الآونة الأخيرة هو محاولة تأييد تلك الأنظمة وتغيير صورتها الشكلية من دكتاتوريات عسكرية إلى جمهوريات وراثية يقوم فيها الحكام بتوريث السلطة إلى داخل أسرهم (الأبناء والزوجات) لضمان استمرارية التحالفات مع أمريكا ومع الغرب ومع القوى الدولية المعروفة من صليبية وصهيونية وماسونية.
والتغير الآخر الذي أحدثته أمريكا على الشكل الخارجي لأنظمتها السلطوية الحليفة ـ وهو ما يقودنا مباشرة إلى قلب اللعبة الباكستانية ـ هو محاولة إضفاء ثوب ديموقراطي على هذه الأنظمة تبدو معه ـ بالزيف والتزوير طبعا ـ وكأنها تحقق إرادة شعبية فيما تفعله من ضرب لعقيدة ومصالح بلادها ومن التنكيل بالإسلام وعلمائه..
وهنا يأتي دور قوى علمانية ربما كانت بنظير هي أهون وألطف قطاع من قطاعاتها.. فهذه القوى في البلدان العربية مثلا ممتدة من تيارات شيوعية قديمة لم يعد لها من دور أو وجود بعد سقوط الشيوعية أو من قوى صليبية معادية للإسلام تتستر وراء شعارات ديموقراطية وتتشدق بالثقافة أو من قوى ماسونية تنشأ لنفسها محافل تحت مسميات خادعة، وكل هذه القوى العلمانية يأتي لها دورها الأمريكي عندما يحين وقت إنقاذ المشروع الأمريكي أو النظام العميل الذي ينفذه.