سوس العمل !
17 ذو الحجه 1428
د. خالد رُوشه

[email protected]
عاتبني صاحبي ذات يوم على غفلتي بعض الوقت عن عمل كنت منوطا به , وتكلفت بمسئوليته , واذكر أنني يومها قد تكدرت من معاتبته , ووجدت عليه وقالت لي نفسي إن عتابه ربما يكون بهدف آخر أو رغبة منه لبيان تقصير في عملي .. ولكنني سرعان ما عدت لنفسي وعاتبتها , وبعد جلسة تجردت فيها في الحكم على العمل , وأحسنت الظن بصاحبي .. وجدت أنني فعلا قد أخطأت في غفلتي تلك عما أنيط بي من عمل , وأن نصيحته لي نافعة لي بكل حال سواء في الدنيا أو في الآخرة , فرفعت يدي بالدعاء له ..

ماحدث لي مع صاحبي قد يحدث كثيرا مع أناس آخرين , لكنهم للأسف لا ينظرون إلى الناصح لهم إلا نظرة سلبية , ويعتبرون من ينصحهم بإتقان أعمالهم هو منتقص لهم وغير محب ..

إنه لأسى موغل في القلب أن نرى من بيننا من يهمل فيما هو مسئول عنه من عمل , وينشغل عما لو لم يقم به هو فلن يقوم به غيره , وينسى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإتقان العمل بقوله " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وصححه الألباني
هذا ما أسميته " سوس العمل " الناخر فيه من داخله , حيث يظل السوس بالعمل حتى يصير شكلا خارجيا بلا معنى داخلي ولا قلب , ويأكله السوس من داخله فما يلبث أن يصير رمادا !!

في بعض الأحيان يتعدى الأمر مجرد الإعراض عن النصيحة إلى سماح المرء لنفسه أن يأكل ما قد لايحل له من مال , وعندئذ تكون المصيبة , فلو أن أحدنا كلف بعمل تلقاء أجر ما وتعمد تركه والإهمال فيه ولم يقم بدوره المطلوب منه فهو على خطر كبير من حل هذا الأجر إذن ..
ولو أن أحدنا تكفل بعمل وعقد عليه عقدا , فالمسلمون عندئذ على شروطهم كما في الحديث الثابت ولا يحل له إخلال الشرط عمدا بغير عذر ..

العجيب أن أحدنا لا يقبل بحال أن يهمل عامل له في عمل يختص به , أو أن يغفل أجير له عما استأجره عليه , بل يسعى جاهدا أن يستوفي منه أضعاف ما اتفق معه عليه .. إلا أننا في حسابنا لأنفسنا يختلف الأمر !!

وإنما أرى أن ذلك إنما هو من غفلتنا عن مراقبة أحوالنا مع الله ربنا , فنؤتي إلى الناس مالا نحب أن يؤتى لنا , ونرفض لأنفسنا ما نستحبه لغيرنا .. وننسى قول نبينا صلى الله عليه وسلم " لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " متفق عليه

لقد جعل الإسلام من الإتقان وصفا مهما للشخصية المسلمة الفعالة , فالله سبحانه لا يقبل الأعمال التي تعلوها الغفلة , بل لم يقبل سبحانه من العمل إلا ماكان متعمدا ومحددا بنيته الصالحة ومخلصا له سبحانه لا يشرك فيه معه أحد مهما كان ..

ولم يقبل سبحانه من الصلاة إلا ماعقل منها المرء , أما ماغفل فيها فلا قيمه له عند الله , يقول صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم ينصرف من صلاته وما كتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها حتى قال : إلا ثمنها .." حسنه الألباني
والزكاة لا يجزىء منها إلا ما كان بشروطه وفي مخرجة الصحيح , والحج يفسد عند التفريط في أركانه وينقص عند التفريط في واجباته , وقراءة القرآن تصير تبعة على المرء إن لم يحسن فيها القصد والمتابعة ..وهكذا

فالإتقان إذن سمة أساسية ووصف ملاصق لكل ما أمر به الشرع من عمل صالح ..
وتخيل معي مجتمعا قد أتقن أفرادة مسئولياتهم فيه فأدى الحاكم حق الرعية وأدى القائمون على الأعمال حقوق الناس وأدى الصانع عمله متقنا وأدى المراقب عمله مخلصا وأدى القاضي عمله متجردا لربه ..تخيل معي حال هذا المجتمع النظيف المتقن لعمله ..
وبالمقابل فانظر معي لصورة كثير من مجتمعاتنا وقد دب فيها التهاون والتغافل عن الحقوق والمسئوليات , وحمل البعض أعمالهم على الآخرين , وصار نصب عين الموظف كيف ينتهي يوم عمله سواء أتقن أو أهمل , وتكاسل العمال عن آداء مهامهم وتقاعص المسئولون عن أدوارهم ..فأي مجتمع إذن أنت ترى ؟! إنه مجتمع هش متآكل من الداخل ما يلبث أن ينهار ..

إن الإتقان في العمل والمسئولية قيمة تربوية ومرتكز نفسي مؤثر , على أساسه ينبني الإنسان المسلم من بدايات حياته الأولى فاعلا ومؤثرا وناجحا , فيدع العجز والكسل , والقعود والخمول , وينطلق حيث الفعالية المؤثرة في شتى المجالات ..

عار علينا أي عار أن نرى مجتمعات الغرب وقد أدركت ذلك المفهوم , ونحن الذين نمتلك مبادئه وقيمه نهمل فيه , فنرى أنفسنا وقد قدنا ركب التخلف الحضاري في حين قاد الآخرون ركب التقدم .. فأي شينة ومنقصة تلك التي نوصف بها ونحن في تلك الحال ؟!

إن إتقان العمل تنشأ بذرته في القلوب عندما تعتاد إتقان عبوديتها لربها , ومتابعتها لنبيها , فتتعود الإحسان في خطواتها جميعا , وإلى ذلك أشار صلى الله عليه وسلم في حديثه إذ يقول :" إن الله كتب الإحسان على كل شىء "أخرجه مسلم , كما تتعود ألا تنتظر من أحد أن ينتقدها لكي تعمل ولا تخشى من آخر أن يراقبها كي تتقن , ذلك لأنها إنما تتعامل في الدنيا بروح شريعة ربها ونور وحيها الخالد المبثوث في كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ..