أنت هنا

تأسيس العلوم الإنسانية الحديثة على الأصول الإسلامية
4 محرم 1429

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ما أشرق صباح، وما غرد بلبل صداح، الحمد لله ما انساب نهر، وما أورق شجر، وما تلألأ نجم وقمر، والصلاة والسلام على الخليل المجتبى، والرسول المصطفى، محمد وعلى آله وصحبة أجمعين، أما بعد:
فانطلاقاً من بدهيات العقيدة الإسلامية التي تقرر خصوصية هذه الأمة وتميزها بالوحيين الذين رسما لها مناهجها في الحياة الدنيا والآخرة، وحرما عليها التشبه بغيرها فيما أصبح سمة لها، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). [آل عمران/110] وكما في الحديث الصحيح: (من تشبه بقوم فهو منهم)، عليه فإني بصادق الود وعاطر التحية أبعث بهذه الرسالة إلى إخواني علماء التربية والنفس والاجتماع الغيورين على دينهم وأمتهم الحريصين على تصحيح مسارات هذه العلوم التي أصبحت موجها رئيساً في التربية والتعليم في العصر الحديث، راجياً أن تجد من قدراتهم الموفقة عملاً جاداً للخروج من أزمة حادة وازدواجية ظاهرة بين مدرسة النبوة التربوية والنفسية والاجتماعية، وبين المدرسة الحديثة التربوية والنفسية والاجتماعية بقيادة المؤسسات الغربية والشرقية وما تحمله مما فيه نظر.

محاور الرسالة: المحور الأول: تساؤلات الرسالة وإجابات مفترضة: أ) التساؤلات:
وهي أسئلة تطرح نفسها بقوة على علماء التربية الحديثة في العالم الإسلامي وهي كالآتي:
1. هل التربية الحديثة وعلم النفس والاجتماع التي هي من نتاج علماء الغرب أو الشرق الذين تحكم تركيبتهم العلمية والفكرية نظريات فلسفية متباينة وأنماط حياة مغايرة وانتماءات عرقية أو حزبية أو دينية أو تحررية متوافقة مع الكتاب والسنة النبوية اللذين هما مصدرا التربية عند المسلمين أم لا؟
2. ما مدى توافق ذلك النتاج التربوي لعلماء الغرب أو الشرق مع الكتاب والسنة النبوية اللذين هما مصدرا التربية عند المسلمين؟
3. من القادر على تمييز المتوافق منها من غير المتوافق من علماء التربية المسلمين الآن؟

ب) الإجابات المفترضة:
إجابة السؤال الأول:
ففي تقديري أن كل منصف من علماء التربية والنفس والاجتماع المسلمين الآن يقطع ويجزم أن لكل عالم من علماء التربية والنفس والاجتماع في الغرب أو الشرق عقيدة وقناعات ونظريات وأنماط حياة وانتماءات تؤثر في نتاجه العلمي والفكري ولا بد، وإن الناظر في تراجم أولئك العلماء يجد أن منهم الماركسي الشيوعي الاشتراكي، والعلماني الملحد، والوجودي المتحلل، والنفعي الذرائعي، والمادي الدنيوي، والعقلاني، والمثالي، وغيرها من المذاهب والتيارات المعاصرة،وقديماً قيل إن للدار والرجال أثراً على الراوي والمروي، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حيث قال: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...).

وأما إجابة السؤال الثاني:
فهي تثمير لذلك التقرير السابق حيث إن نتاج علم التربية والنفس والاجتماع الغربي هو خليط غير متجانس وإفرازات متنافرة بين الروح والجسد وبين الدين والدنيا وبين الكنيسة ورجال الدين، وبين العلماء في العلوم النظرية والتطبيقية، فكان لا بد من قدر غير متوافق من تلك العلوم الغربية والشرقية وبين التربية في ضوء الكتاب والسنة وهو ما لم يندرج تحت أصل من أصول الشريعة الإسلامية وهو يكثر ويقل بحسب قرب أو بعد العالم من معرفة طبيعة الإنسان والهدف من وجوده وما يحسن له وما يقبح له، ولا شك أن ذلك النتاج هو ما بين محمود ومذموم، محمود يجب الأخذ به أو مستحب يستحب الأخذ به أو مباح لم يرد فيه حل ولا حرمة يباح الأخذ به أو محرم يمنع الشارع منه أو مكروه يكره العمل به ومعرفة نسب ذلك كله يحتاج إلى سبر وتقسيم هو مكان دراسات جادة.

وأما إجابة السؤال الثالث:
فهي تأكيد من العالم المنصف بتلك العلوم أن كثيراً من المتخصصين فيها لم يبلغوا مبلغ الناظرين في أدلة الكتاب والسنة بإطلاق لأسباب صيرت مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من العلماء المسلمين الراسخين في العلم الشرعي، ومن تلك الأسباب الآتي:
1) الجهل بلغة العرب أو عدم الرسوخ فيها والعلم بمقاصدها.
2) عدم الرسوخ في قواعد العلوم الشرعية، وأصولها التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية.
3) غلبة الهوى، كما قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26)
4) غلبة التقليد الأعمى لعلماء تلك العلوم غير المسلمين، من الشرق أو الغرب، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف: 23)
5) غلبة الظلم والعدوان، كما قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: 72)، وهذه الأمور الخمسة مجتمعة أو متفرقة سبب قوي في الإعراض عن الكتاب والسنة النبوية، وقد نبه القرآن العزيز إلى تلك الأمور،حيث قال الله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران: 7)، وفي الصحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (آل عمران: 7). قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).

المحور الثاني: أقسام علماء التربية والنفس والاجتماع المسلمين:
إن العلماء المسلمين الذين تخصصوا في العلوم الفكرية والتربوية والنفسية والاجتماعية، وهم علي غير كفاية مطلقاً أو كفاية ناقصة من القواعد والأصول الشرعية وعلوم اللغة العربية، انقسموا أقساماً عدة وهي كالآتي:
القسم الأول:
من وجدت تلك العلوم الغربية أو الشرقية في تركيبته العلمية مكاناً فارغاً فتقبلها بعجرها وبجرها، وأصبح نسخة مكررة من علماء تلك المدارس الحديثة الغربية أو الشرقية فهو عبارة عن جهاز إرسال ليس أكثر.

القسم الثاني:
من وجدت تلك العلوم في تركيبته العلمية قدراً ضعيفاً من القواعد والأصول الشرعية وعلوم اللغة العربية، فلم تبن له عورات تلك المناهج التربوية والنفسية والاجتماعية الحديثة، فلم ير اختلافاً بين المدرسة الإسلامية في الفكر والتربية وعلم النفس والاجتماع وبين تلك المدارس الحديثة الغربية أو الشرقية.

القسم الثالث:
من وجدت تلك العلوم في تركيبته العلمية قدراً ضعيفاً من القواعد والأصول الشرعية وعلوم اللغة العربية، فلم تبن له عورات تلك المناهج الفكرية والتربوية والنفسية والاجتماعية الحديثة بوضوح كاف في حال الطلب، فلما أخذ في التأمل والنظر في مفردات تلك المناهج الحديثة وجد أن منطلقاتها لا تتفق مع كثير من أصول العلوم الشرعية في مفردات من مناهجها.

والواقع الآن أن من هذه التركيبة المتباينة والمتفاوتة لعلماء التربية والنفس والاجتماع الحديث من أبناء المسلمين تشكلت مؤسسات التربية والتعليم في البلاد الإسلامية عامة وهذا بدوره شكل نتاجها العلمي والعملي الذي اتخذ اتجاهات شتى، وهي كالآتي:
الاتجاه الأول:
اتجاه يرى أن المستهدف بتلك العلوم هو الإنسان دون الأخذ بأي اعتبار آخر، فكان الخطاب الذي ينادي به خطاباً فكرياً وتربوياً ونفسياً واجتماعياً هو نفس الخطاب الفكري والتربوي والنفسي والاجتماعي الذي تلقاه لا غير، وبهذا الخطاب الغربي أو الشرقي تشكلت بعض التركيبة العلمية والتربوية في البلاد الإسلامية على نحو مما هو في الغرب أو الشرق، إذ أن المدارس الفكرية والتربوية والنفسية الحديثة هي نتاج تأريخ وثقافة وعقيدة إنسانية كما تبين، لا يمكن تجاهلها لكل عاقل منصف على بينة من تميز العقيدة الإسلامية، وخروجاً من معترك هذا التباين وتداعياته التأريخية والثقافية والعقدية في بلاد المسلمين وبلاد تلك المدارس الحديثة، رفع أصحاب هذا التوجه شعار الخروج عن الثوابت الشرعية والاجتماعية ونادوا صراحة أو من طرف خفي باللحوق بركب الحضارة الغربية أو الشرقية بعيداً عن العقيدة الإسلامية والثوابت الاجتماعية الخاصة، بل زاد الأمر سوءاً ذلك الإصرار الشديد أن الإسلام لا يحمل مشروعاً تربوياً ونفسياً واجتماعياً يفي بمتطلبات العصر الحديث، ومثل هذا الاتجاه قليل في المؤسسات التربوية سواء أكان مسيساً أم غير مسيس، إلا أنه يجد دعماً غير محدود من مؤسسات التغريب والاحتلال في البلاد الإسلامية، ويكفي في رد هذا التوجه تصور خطره على العباد والبلاد.

الاتجاه الثاني:
اتجاه مضطرب يرى إمكانية الجمع بين مناهج المدرسة الحديثة الفكرية والتربوية والنفسية والاجتماعية وبين العقيدة الإسلامية والثوابت الاجتماعية الخاصة، فلا يرى بأساً أن يكون المستهدف شيوعياً مسلماً، أو علمانياً مسلماً، أو وجودياً مؤمناً، ومن لديه أدنى بصيرة يعلم أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، والإسلام والإلحاد نقيضان، لا يجتمعان ولا يرتفعان فبقاء أحدهما ذهاب للآخر، ومثل هذا التوجه قليل جداً، لا يكاد يجد له قبولاً إلا في البلاد الإسلامية الناطقة بغير اللغة العربية.

الاتجاه الثالث:
اتجاه رأى تبايناً بن المدرسة الحديثة في الفكر والتربية وعلم النفس والاجتماع، وبين المدرسة الإسلامية، إلا أن درجة الرؤية غير كافية لتحديد معالم المدرستين وطرائقهما، فلما أخذ في نقد المدرسة الحديثة لم يجد من المعرفة بأصول الخطاب الشرعي الفكري والتربوي والنفسي والاجتماعي الذي حصله ما يكفيه للنقد والتأسيس والبناء في تلك العلوم برؤية إسلامية مستقيمة ناهيك عن تأثره بالموروثات الثقافية البيئية الإسلامية والمذهبية التي شكلت شخصيته العلمية الإسلامية، ومن هذه المقومات الخليط جاء نتاجه العلمي خليط مشوش، فزاد الأمر سوءاً بمفارقة الأصول ومباينة المعقول إذ ما بني على ضعيف فهو ضعيف، وما بني على باطل فهو باطل، على تفاوت بين تلك الشخصيات ونتاجها العلمي.

وبالنظر السديد يجد البصير بعلوم الشريعة إعراضاً أو معارضة للكتاب والسنة النبوية في تأصيل هذه العلوم والاستدلال عليها وإعمالها، يتمثل ذلك الإعراض أو الاعتراض في أمرين:
الأمر الأول: تفرد تلك العلوم بخطاب خل من النصوص الشرعية تماماً.
الأمر الثاني: خطاب يستخدم نصوصاً غير ثابتة، أو ثابتة لا تدل على المقصود، أو ثابتة حرف تفسيرها على غير وجهتها الصحيحة، أو يستدل على مفردة بدليل واحد معارض بأدلة أقوى منه غابت عنه، أو باستدلال بالعموم في موطن الخصوص، أو بترجيح ولم تكن لديه آلة الترجيح إذ من الأدلة ما هو ضعيف، وما هو منسوخ، وما هو محكم وما هو متشابه إلى غير ذلك من مباحث الأدلة والتي محلها أصول الفقه وعلوم القرآن ومصطلح الحديث ، وقريباً من ذلك الذين يدرسون التربية أو علم النفس أو علم الاجتماع عبر شخصية علمية إسلامية قديماً أو حديثاً ، ينطبق على خطابها التربوي أو النفسي أو الاجتماعي قريباً من هذا الخطاب الثاني الذي نتحدث عنه الآن.

وختاماً أهمس في آذان الغيورين من علماء التربية والنفس والاجتماع أنا نعيش الآن أزمة في تدريس هذه العلوم حيث إنها تدرس الآن على النحو الآتي:
الأول: تدريس هذه العلوم بدون نقد لها، ومن باب أولى دون بديل للمعارض منها لخصوصية الأمة الإسلامية.
الثاني: تدريس تلك العلوم مع نقدها، ولكن ببديل ضعيف لا تطمئن إليه النفوس.

وحتى نبين ملامح المدرسة الإسلامية لعلم التربية والنفس والاجتماع، وتأصيل قواعدها، في مقررات ممنهجة تتفوق على غيرها، يجب أن نكون على قدر كبير من العلم بالكتاب العزيز والسنة النبوية واللغة العربية وعلومها بعيداً عن الإعراض أو الاعتراض مع اليقين التام بأن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة كافية في التربية وعلم النفس والاجتماع لمن عرفها حق المعرفة واستطاع صاغتها في قواعد كلية تستنبط منها أحكام تفصيلية مع الإفادة من الوسائل المباحة التي أنتجتها الإنسانية.
هذا والله المستعان أن يلهم الجميع تعظيم قدر الكتاب العزيز والسنة النبوية ، والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.