أنت هنا

معرض الكتاب.. ومسألة الانفتاح
17 صفر 1429

مفهوم الانفتاح مرتبط في العمق بمفهوم الحرية فهو شكل من أشكالها على مستوى العلاقات والحرية هي ظاهرة إنسانية اجتماعية تخضع للعديد من المعايير في تعريفها وحدها ومجالاتها وكل ما يرتبط بها, وباختصار هي مفهوم مطاطي يتسع وينكمش تبعا للرؤى والفلسفات التي تختلف في تعريفها ,وهي التي تمثل المدارس المختلفة في العلوم الإنسانية ,لكن مع الاختلاف في إيجاد تعريف للحرية هناك اتفاق عام يجمع كل تلك المدارس مفاده أنه لا يمكن أن تكون هناك حرية مطلقة للإنسان .وهذا الاتفاق سببه ارتباط الإنسان الاجتماعي والذي يترتب عليه الحاجة إلى إيجاد أرضية فيها حدود دنيا للحفاظ على الحقوق الفردية والجماعية على السواء وهو ما يعني "التقييد" وإلغاء "مفهوم الحرية المطلقة" على مستوى "الفرد" لصالح الحفاظ على "حقوق الكل" وكذلك "التقييد" على مستوى "الكل "للحفاظ على حقوق "الفرد" فالاتفاق الجماعي مثلا على قوانين ومواثيق محددة للمعاملات هي قيد للحرية الفردية وكذلك الإيمان الجماعي بعقيدة معينة .

وبغض النظر عن التحليل النظري لاستحالة الحرية المطلقة أو (الانفتاح المطلق) فالاتفاق العملي على وجود حدود الانفتاح بما يتفق مع الثوابت العقدية والثقافية والقانونية للشعوب حاصل على مر التاريخ إلى يومنا هذا حتى قبل وجود الفلسفات والنظريات التي تطرقت لهذا الموضوع .

فالحرية والتقييد مدارهما إذن على التشريع سواء كان مصدر هذا التشريع قانوني وضعي أم شرعي أو ميثاق متفق عليه أو أي شكل من أشكال التشريع وهو ما يعني أن الإنسان الحر (المنفتح) مقيد بتشريع يؤطر سلوكه : منعا وتوجيها وترخيصا وإذنا!! ويمكن أن نطلق على هذا الشكل من التأطير: التكليف!! كما هو في الاصطلاح الفقهي.

والحضارات جميعها تقوم على أساس (التشريع) الذي ينبثق منه التكليف لكل فرد ينتمي لتك الحضارات فالإنسان الحر ( الحضاري) في كل الحضارات -على أقل تقدير - مكلف بضبط سلوكه وفق التشريع الذي يخدم الحقوق الجماعية في النسق الاجتماعي العام وقد يضاف إلى ذلك تكاليف فردية أخرى تتعلق بالجانب العقدي الإيماني (كالصلاة والزكاة والصيام ) كما هو الشأن في الأديان السماوية السابقة وخاتمها الإسلام.

فالانفتاح الذي هو شكل من أشكال الحرية إذن هو سلوك إنساني مؤطر في –أقل أحواله- بتكليف تفرضه الطبيعة الاجتماعية للحياة البشرية ومؤطر في عامة أحواله بالقناعات الفكرية والثوابت الدينية والعقدية وهذا ما يطلق عليه "الانفتاح الحضاري" أي المحكوم بالنظم والقناعات التي تمثل معيارا للحضارة في نظر أصحابها.

هذا من حيث التحليل العام لمسألة الانفتاح على ضوء مقررات العلوم الإنسانية وتبقى مسألة الانفتاح في الإسلام تخضع للمعايير نفسها على ضوء التشريع الإسلامي فيكون حكمه تبعا لمقصوده وقل فيه ما تقول في النكاح !!! تجري عليه الأحكام التكليفية الخمسة : الوجوب والتحريم والكراهة والإباحة والاستحباب .

وإذا أسقطنا هذا المفهوم (الانفتاح) على معرض الرياض الدولي للكتاب وتتبعنا رؤية من يقول بضرورة (إلغاء الرقابة ) و(المصادرة) و(المنع) لكتب (الآخر) إعمالا لمبدأ (الانفتاح) فسنجد في هذه الدعوة (المتمردة) إلغاءا سافرا لمفهوم (الحضارة) بتسنين مبدأ إلغاء مفهوم "التشريع " من المجتمع السعودي برمته على اعتبار أنه لا يمكن تصور وجود مجتمع متحضر مفتقر إلى التشريع سواء على مستوى التنظير أو التنفيذ. وإذا كانت صورة الانفتاح هذه صورة من صور (إلغاء العمل بالتشريع) فيكون دعاته من "الليبراليين " و "الحداثيين" ومن جرى مجراهم أعداء للحضارة أو بتعبير أبلغ:(غير حضاريين). إذ إذا جاز أن لا يكون على معرض الكتاب "رقابة " و"منع" و"مصادرة" فلماذا الرقابة حاصلة الموارد التجارية لمنع المخدرات والأسلحة والسلع المغشوشة وكذلك على المواقع الإباحية وغيرها على الإنترنت إلى ما هنالك من الممنوعات . أليس منشأ الرقابة والمنع هنا هو إعمال التشريع القاضي بالحفاظ على الأمن القومي والمصالح العليا للمجتمع .

وهنا يجب التشديد في سؤال من يطالب بإلغاء تلك الرقابة عن المعرض إعمالا لمبدأ الانفتاح: عن أي انفتاح تتحدثون؟ وما هي حدود هذا الانفتاح الذي تروجون له ؟ هل السماح بعرض كتب تسب الله ورسوله من الانفتاح الذي تقصدون؟ أم الكتب التي تدعو للإلحاد البواح من الانفتاح الذي تتطلعون إليه؟ هل السماح بعرض الكتب التي تدعو إلى الانحلال الخلقي بكل أشكاله هو الانفتاح الذي ترغبونه؟

إن الأسئلة حول معنى الانفتاح في هذا الصدد تطول ولكن السؤال الجامع الذي يجمعها هو : هل ترون بضرورة الانفتاح وعرض كل شيء حتى لو كانت المعروضات في دعوة واضحة لهدم الثوابت الدينية (المطلقة) التي يجمع علماء لمسلمين عليها؟

إذا كان الجواب لا فما معنى أن تعرض كتب الإلحاد (كمذكرات ) "كارل ماركس" و"لنين" وفيها الحجاج الفلسفي والتحليل لمقولة: (لا إله والحياة مادة) ومقولة " الدين أفيون الشعوب " أي مخدر الشعوب. وزد عليها الكتب المروجة للحلول والاتحاد والتشيع والرفض والخروج والتطور الدارويني والانحلال .وما إلى هنالك من أشكال الكفر والبدع الكفرية الصريحة. وكلها تعرض تحت مسمى فلسفي أو ثقافي أو (فكر إسلامي) أو حتى أدبي .

إن الحديث هنا ليس عن كتب تعريفية أو تحليلية نقدية لتلك المعروضات إن الحديث هنا عن كتب "ترويجية" دعائية تهدف للتأطير والإقناع وتعمد إلى تشويه الثوابت الإسلامية والقيم والأخلاق , ما يعني أن نقد عرض هذه الكتب وما في حكمها ليس دعوة إلى "القطيعة الإبيستيمولوجية " مع الآخر والصد عن معرفة ما يدور في رأسه وفلسفته وعقيدته وسياسته واقتصاده وقناعاته كلها وإنما هو دعوة لعرض (قناعاته بأسلوب دعائي مشحون بالتلبيس والكذب والتدليس الذي لا يميزه إلا القلة القليلة من رواد المعرض .

وما من شك أن إدارة معرض الكتاب تعي جيدا أن المعروضات لا يمكن أن تتجاوز سقف النظم "التشريع" مهما كانت دعوى الانفتاح . ولذلك نجد في لوائحها ورقة تحت مسمى "مخالفات المعرض" التي لا يسمح بها ومن ضمنها بندان مهمان ضمن المخالفات وهما:
- عرض أو بيع أية مادة ثقافية غير واردة في دليل المعرض.
-عرض أو بيع الكتب والمواد الثقافية غير المجازة من وزارة الثقافة والإعلام.

فالبند الأول: يعني أن ما يعرض في معرض الكتاب قد خضع للرقابة (على ذمة إدارة المعرض) وتم الترخيص بعرضه. (أي لا يخالف الثوابت الدينية والوطنية للمملكة). وهو ما يعني أيضا أن ما هو معروض ويخالف الثوابت الدينية والوطنية ) كان الأولى مصادرته ومنعه بل ومعاقبة من عرضه.

وكذلك البند الثاني : يعني أن المفترض هو عرض ما تمت إجازته من قبل وزارة الثقافة والإعلام وما عدا ذلك فيجب مصادرته ومحاسبة المخالفين.

وهذا كله يعني أن الحاجة إلى تفعيل الرقابة قبل بدأ المعرض والصرامة في التعامل مع المخالفين والتفاعل السريع مع شكوى وبيانات الغيورين وفق برنامج حد أدنى للحفاظ على ثوابت الأمة السعودية . هو مطلب تمس إليه الحاجة في وقت أشهرت فيها قوى الاستعمار سلاح الانفتاح كخطوة أولى أساسية للاختراق شعوب المنطقة "والمملكة خاصة" ليس على مستوى معرض الكتاب فقط بل على مستويات عدة إعلامية وثقافية واجتماعية الهدف من ذلك كله إيجاد حالة من التناقضات الفكرية والاجتماعية والسياسية يسهل معها "التفريق" و"التفتيت" فالاحتلال العسكري.