سبيل الإصلاح
1 ربيع الثاني 1424

<font color="#800000">تعليق المحرر: هذه المادة تمثل حلقة من حلقات زاوية : صناعـة الحيـاة للكاتب الفاضل في جريدة المدينة وقد منعت من النشر مؤخراً ( في يوم 21/3/1424 هـ). وقد وصلتنا من عدد من محبي ومتابعي زاوية الدكتور (*) ولأهميتها نتيح لها فرصة النشر في موقعنا دون أي تعديل. </font> </br> </br>يحتاج المرء إلى وقفة صادقة مع النفس ليراجع فيها مسيرته متأملاً ما كان عليه ومستشرفاً مستقبله ليقوِّم حاضره باتجاه ذلك المستقبل بكل ما يحمله من آمال ووعود وإن كان هذا حال الفرد وما يحسن عليه القيام به فإن هذه المراجعة أولى بالمجتمع والوطن والأمة جمعاء، فإن توافقت الأهداف والوسائل تحقق الانسجام في نسيج المجتمع والوطن بين أفراده ومختلف عناصره. </br> </br>وإن كان نقد الذات ومراجعتها مطلوب بين الفينة والأخرى وعند المفاصل بين المرحلة والتي تليها، تكون هذه المراجعة ويكون هذا التقويم أوجب لدى حدوث طارئ من شأنه أن يؤثر سلباً أو إيجاباً على مبادئ المجتمع ومسيرته وأهدافه ناهيك عن تلاحم وانسجام نسيجه. </br> </br>وبالرغم من مصابنا على مستوى الوطن من أحداث التفجيرات في الرياض وما شاكلها على مستوى الأمة كأحداث الدار البيضاء، فإن هذا الحدث يجب ألا ينجح في حصرنا على معطياته والوقاية من نتائجه فحسب بل الأولى والأجدر أن تعالج الأمة الأسباب علاجاً جذرياً وقائياً لا أن تعالج النتائج فحسب. وقد ذهب البعض منا إلى حد بعيد وتشنج غير مبرر داعياً لحلول استئصالية رافضاً للحوار المعالج للأسباب وجذور المشكلة التي أدت إلى هذه النتائج. إن من شأن أولئك الذين تبنوا مقاومة النتائج دون سبر الأعماق لمعرفة الأسباب أن يُأصِّلوا الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد فيوجه أصبع الاتهام إلى فئة دون غيرها ويصور المخالفين في الرأي على أنهم من نفس المدرسة الفكرية التي أدت إلى هذه النتائج. والحقيقة أن مثل هذه الظروف بالرغم من حساسيتها ودقتها تقتضي منا صدق النصيحة لأولى الأمر وأصحاب القرار تبياناً للحقائق وإسهاماً في اكتشاف الأسباب والشروع في علاجها. وقد يذهب البعض إلى أن حساسية الموقف تجعل هذه المصارحة غير ملائمة ولكنها النصيحة والأمانة التي أوجبها الله عز وجل على أفراد هذه الأمة تجاه إخوانهم ومجتمعهم وولاة أمورهم. </br> </br>إن المتأمل لأحداث الرياض يدرك أن الفكر الكامن وراء هذه الأحداث فكر تكوَّن في معزل بعيد عن التلاقح الفكري المفترض وجوده داخل المجتمع وقد ساد عليه نمط الفكر الأحادي واحتكار الحقيقة وتفرده بمعرفة مقاصد الشرع. وطالما ظل هذا الفكر منعزلاً منبوذاً يقبع بعيداً عن ضوء الشمس ستتفاقم آثاره ولن يكون لأي عمل استئصالي مضاد أي نجاح يذكر في احتواء هذا الفكر أو التخفيف من غلوائه وإعادة تأهيل أفراده ليكونوا جزءاً من عناصر الصلاح والخير في المجتمع. </br> </br> إن ما ابتليت به الأمة لا يعدوا كونه حصيلة عقود متعاقبة من الانحراف عن تعاليم هذا الدين والقيم الاجتماعية السليمة في جميع مناحي الحياة. ومن بعض المعطيات الرئيسية التي أسهمت وتسهم في تسبيب هذه النتائج المؤلمة: - </br> أولاً: غياب آلية المشاركة الفعلية للأفراد في صياغة مراد المجتمع وتحقيق متطلباته، وقد ظلت آراء الأفراد لا تجد طريقها لبلوغ أهدافها من خلال الوسائل السلمية في ظل غياب هذه الآليات الحيوية للمجتمع. </br> ثاني هذه المعطيات: حقيقة مؤلمة يجب أن نواجهها بصدق وهي المفارقة الاقتصادية الضخمة بين طبقات المجتمع وحلول معايير جديدة للرقي والنجاح ترتبط ارتباطاً وثيقاً في إظهارها بالكماليات والترف، وطالما تأصل هذا المفهوم سعى الأفراد إلى توسيع هذه الهوة من خلال الإمعان في التميز المرتبط بالترف والكماليات وصولاً إلى التمرد على القواعد والأعراف الاجتماعية والخلقية والدينية فانقسم المجتمع إلى فئة النجاح والتمكن وفئة الفشل والتبعية. وهذا الانقسام قد خرج عن المفارقة الطبيعية بين أفراد المجتمع من حيث القدرة المالية فأناط بالقدرات المالية عوامل النجاح والمكانة الاجتماعية بل والموجه المؤسس لكل تعديل أو خروج عن الأعراف والثوابت. وقد كان في الماضي يوجد بيننا الفقير والغني إلا أن هذه المفارقة لم تكن يوماً عاملاً من عوامل الطبقية الاجتماعية بل إن المعايير التي قعَّدها الشرع والأعراف التي استلهمت تلك المعايير أناطت المكانة الاجتماعية بدرجة مساهمة الفرد في الارتقاء بهذا المجتمع وصلاحه وتحقيق مراد الله سبحانه وتعالى فيه، فعظم آنذاك شأن العلماء والمجاهدين والدعاة والساعين في حاجة الناس والمتصدقين في سبيل الله وأصحاب الأوقاف الخيرية من مدارس ومكتبات ومستشفيات وآبار وكسوة وطعام وغذاء. أما اليوم فأصحاب الريادة الاجتماعية هم أصحاب القدرات المالية الساعين وراء الكماليات والترف، وكان أثر ذلك أن خبا صوت المؤثر الحقيقي في هذه الأمة واستعيض عنه بمؤثرات دخيلة لا تحمل أي قيم إصلاحية ولا تجعل نصب عينيها صالح الأمة ومقاصد الشرع وكأننا بذلك نكرر مأساة أوروبا وطبقيتها المقيتة ونكرس الكره والازدراء بين طبقات المجتمع بحسب التصنيف المادي كل في موقعه. </br> ثالث هذه المعطيات: هو فقدان ركائز العدالة الاجتماعية كالمساواة والحرية وإنصاف الحقوق فنتج عن ذلك ظواهر غير صحية تفت في عضد المجتمع منها التمييز الطبقي في الحقوق والواجبات واختلال قيم المساواة بين أفراد المجتمع فيما يتعلق بالفرص الاقتصادية والوظيفية وغيرها من مواطن الخلل الأخرى. ويضاف إلى ما تقدم التمييز بين أفراد المجتمع تمييزاً جغرافياً وتمييزاً فكرياً وتمييزاً مذهبياً، وهذا مما يأصل مبدأ عدم الانسجام الاجتماعي والاختلاف في منحاه السلبي. <BR>يجب على مجتمعنا أن يعي بأن اختلاف المشارب الناجم عن الاختلاف الفكري أو المذهبي أو الجغرافي وما يتولد عنه من اختلاف في الأعراف والتقاليد واللهجات يمكنه أن يكون إثراءً حقيقياً للمجتمع وحافزاً على الانفتاح وتقبل الآخر وتفهم وجهات النظر والأفكار المختلفة. </br> </br> ويتحمل العبء الرئيسي في كل ما تقدم قادة المجتمع من ساسة وعلماء ومفكرين، إذ من شأن القيادة أن تسوس الناس نحو مقاصد الشريعة واضعة الأهداف ومتيحة الفرص ومعبدة السبل. ولكي تتحلى هذه القيادة بالمصداقية، يجب أن تكون أول من يخضع نفسه لمعايير المساواة والعدالة الاجتماعية، كما يجب على القيادات أن تتخلى عن مصلحتها الذاتية جاعلة نصب أعينها مصلحة المجتمع والدين والمحافظة على الأسس المرتبطة بهما من قيم ومعايير سبق ذكرها وذلك من خلال آليات حرية المنابر وتلاقح الأفكار وحق كل فرد في المجتمع وكل فكر فيه أن يُطرح على العلن تحت ضوء الشمس لكي تقارع الحجة بالحجة ويقارع الفكر بالفكر، ولكي تكون المحصلة النهائية مجتمعاً ذا ثراء فكري يستفيد من أوجه الاختلاف استفادة إيجابية صحية. <BR>أما اليوم فما نراه من دعوات على صفحات الجرائد، تعتبر في حد ذاتها نموذجاً مضافاً من نماذج الفكر الاستئصالي ورفض الآخر مما يمعن في تفاقم هذا الإشكال الفكري والاجتماعي بدلاً من السعي إلى حله حلاً جذرياً سليماً. فلا يجب أن نعالج مخلفات الماضي بمعطيات ذلك الماضي ووسائله التي كانت أساس الاختلاف في الرأي وسبباً رئيساً في النتائج المؤسفة الظاهرة على ساحة الأحداث اليوم. <BR><center> والله من وراء القصد </center><BR><BR><BR>-------------------<BR>(*) د. باسم عبد الله عالِم ، محامِ ومستشار قانوني وصاحب زاوية صناعة الحياة في جريدة المدينة السعودية.<BR><br>