أكاذيب الإعمار في العراق
22 جمادى الأول 1424

بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط بغداد وتشريع الاحتلال الأمريكي للعراق، لا يبدو في الأفق-القريب- أي بادرة نحو إعادة بناء العراق اقتصادياً، بل دخلت البلاد في دوامة من العنف وعدم الاستقرار، مما ينذر باحتمالات استمرار الأوضاع في التدهور نتيجة لانشغال إدارة الاحتلال بمطاردة فلول المقاومة العراقية وإهمالها للشأن العراقي الداخلي، وتطايرت في الهواء تلك الشعارات والوعود البراقة التي روجت لها الولايات المتحدة عند تجهيزها للحرب على العراق والتي جاءت الديمقراطية وإعادة الإعمار في مقدمة سنامها.</br> ومن أجل التعرف على طبيعة الأوضاع في العراق وما آلت إليه في ظل الاحتلال الأمريكي له يجدر التعرض للنقاط التالية:</br> <font color="#0000FF" size="4"> الوضع تحت الاحتلال </font></br> يمكن القول: إن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق تمر بمدة عصيبة نتيجة لعدم وجود اهتمام أمريكي كاف بها، وذلك نظراً لانشغال إدارة الاحتلال بقيادة بول بريمر بتهيئة الأوضاع السياسية هناك، وبغض النظر عن المعوقات السياسية التي قد تعرقل الشروع في عمليات إعادة الإعمار –وهي كثيرة بطبيعة الحال- تجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من المعوقات الاقتصادية التي تجعل من مهمة إعادة الإعمار حلم صعب المنال، بل وتدفع بالشكوك نحو مدى صدق الولايات المتحدة في تحسين أحوال العراقيين. <BR>فمنذ أن تولى بريمر السلطة في العراق خلفاً للأمريكي الليكودي جاي جارنر، وهو يطلق تصريحات براقة حول اهتمامه بمسألة إعادة الإعمار، وهو يتحدث أكثر مما يفعل فالأوضاع ساءت أكثر مما كانت عليه إبان النظام العراقي البائد، وذلك نظراً لعاملين، هما:</br> · استمرار أعمال السلب والنهب والتخريب سواء بأيدي قوات الاحتلال الأمريكي أم بأيدي الفئات العراقية الضالة.</br> · استمرار حالات الفوضى التي تسود المدن العراقية بين الحين والآخر، والتي تنجم عن هجمات المقاومة العراقية.</br> وبغض النظر عن العقود والأرقام الخيالية الخاصة بالتعاقد مع شركات مختلفة من المفترض أن تتولى عمليات إعادة الإعمار، تظل الأوضاع الحقيقية خير شاهد على التضليل والخداع فيما يتعلق بحقيقة إعادة الإعمار في العراق، ويجعل التشكيك في مدى جدية الولايات المتحدة في تحسين أحوال العراقيين عما كانت عليه قبل 19 مارس الماضي أمراً طبيعياً.<BR> وعلى الصعيد الميداني فما زال الشعب العراقي يعتمد في جزء كبير من حياته اليومية على المساعدات والإعانات الإنسانية، والتي تواجه صعوبات أيضاً نظراً لانخفاض معدلات الأمن والطمأنينة لدى القائمين عليها، وكان حجم المساعدات الإنسانية الدولية التي تم جمعها لحساب العراق قد بلغت 1.7 مليار دولار تتوزع ما بين أموال ومواد غذائية وأدوية، في حين أن الاحتياجات المعيشية المطلوبة لا تقل عن 2.2 مليار دولار وفقاً لما أعلنته الأمم المتحدة في مارس الماضي.<BR> <BR><font color="#0000FF" size="4"> حقيقة الإعمار </font><BR> يبدو الفشل الأمريكي في إدارة دفة الأمور في العراق واضحاً فيما يخص إعادة الإعمار، وقد أصابت مجلة الإيكونومست المتخصصة كبد الحقيقة حين أشارت إلي أن "عملية إعمار العراق سوف تكون أصعب بكثير من الحرب عليه"، كما بات الفراغ الأمني الذي نجم عن انهيار السلطة في بغداد هو الهاجس الأساسي في تعطيل جهود الإعمار، فحتى هذه اللحظة لم تنجح الولايات المتحدة في توفير الأمن والأمان اللذين تشدقت بهما إبان حملتها على العراق، بل وأكد العديد من خبراء هيئات المعونة الإنسانية في العراق على أن جهود إعادة الإعمار ترتطم بالتسيب الأمني الواضح في المدن العراقية.<BR> وهو ما جعل المسؤولين الـ500 الموجودين في مكتب "مساعدة وإعادة إعمار العراق" والذين يتخذون من القصر الجمهوري مقرا لهم، يضعون الهاجس الأمني على رأس أولوياتهم، وتشير إحصائيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أنه حتى أواخر مايو الماضي كان قد تم توقيف أكثر من ألفي شخص في جرائم تتعلق بنهب المال العام في بغداد منذ سقوطها في العاشر من إبريل الماضي، وذلك في دليل واضح على الانفلات الأمني في العراق.<BR> كما أعلنت منظمة أطباء بلا حدود عن تذمرها من عدم قدرة قوات الاحتلال على إرساء الأمن، وذلك على الرغم من انتشار أكثر من 140 ألف جندي في البلاد، بينهم 12 ألف في بغداد وحدها من المتوقع أن يرتفع إلى 15 ألف على أقل تقدير في ظل ازدياد معدلات التسيب الأمني الواضح هناك، في حين عبرت منظمة الصحة العالمية عن انزعاجها من عمليات النهب والسلب التي حدثت للمستشفيات العراقية، وهو ما يتطلب معه توفير أكثر من 20 مليون دولار شهرياً لإعادة تأهيل النظام الصحي في العراق.<BR> كما أنه منذ أن تولت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية "US Aid" شؤون الإعمار في العراق وفقاً لقرار الاحتلال رقم 1483، والذي انتزعته الولايات المتحدة من مجلس الأمن تحت مسمع ومرأى من العالم كله، والغموض هو سيد الموقف فيما يخص عمليات إعادة الإعمار في العراق، وحتى الآن لم تشرع الوكالة في بدء تقديم العون والمساعدات للعائلات العراقية، سوى إعلانها عن تخصيص 35 مليون دولار لخمس من وكالات الإغاثة لبدء بعض المشاريع الاجتماعية في العراق المتعلقة بتوفير الاحتياجات الأساسية للشعب العراقي، فضلاً عن النظرة العنصرية التي تتعامل بها الوكالة مع طوائف المجتمع العراقي الذي ينقسم ما بين سنة وشيعة وأكراد.<BR> وعلي الرغم من إنشاء "مجلس الحكم" العراقي -الأمريكي- كأول هيئة تنفيذية عراقية، إلا أنه من غير المتوقع أن ينجح في القيام بمهام الإعمار، وذلك إما لانشغاله بأمور سياسية بحتة تتعلق بطبيعة التفاعلات السياسية في المرحلة القادمة، وإما لعدم توافر الامكانات المادية والفنية اللازمة للشروع في عمليات إعادة الإعمار.<BR><BR><font color="#0000FF" size="4"> مؤشرات الفشل الأمريكي في إعادة الإعمار </font><BR> يمكن التعرف على دلائل ومؤشرات الفشل الأمريكي في إعادة إعمار العراق من خلال توضيح ما يجري على أرض الواقع، وذلك من منطلق المقارنة عبر محورين، هما:<BR>· ما وعدت بتحقيقه الإدارة الأمريكية قبيل استلامها لدفة الأمور في العراق.<BR>· ما كانت عليه الأوضاع قبل احتلال العراق بما هي عليه الآن.<BR><BR>وفي هذا السياق يتضح الآتي:<BR>- مازال مسلسل التدهور في تقديم الخدمات الأساسية مستمراً دون إحراز أي تقدم يذكر، ولا زالت المرافق الأساسية العراقية تعاني من إهمال شديد وفي حاجة لمبالغ هائلة لإصلاحها، فعلي سبيل المثال يحتاج قطاع الكهرباء في العراق إلى استثمارات تبلغ خمسة مليارات دولار على خمس سنوات لتأمين الحاجات المتزايدة في البلاد، وقطاع الكهرباء هو واحد من القطاعات التي عانى كثيراً من الإهمال، وفي هذا السياق صرح خبراء الطاقة بأن العراق يحتاج إلى توليد طاقة إضافية من الكهرباء تتراوح ما بين 10 ـ 15 ألف ميغاوات حتى عام 2015 لتلبية النقص الكبير في هذا المورد الحيوي.<BR>- على الرغم من إعلان الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر مراراً وتكراراً أن الاقتصاد العراقي يشكل أولوية مطلقة في قائمة اهتماماته، إلا أن الواقع يشير إلي عكس ذلك، فلا زال القطاع المصرفي العراقي يعاني من أعمال السلب والنهب التي جرت عقب سقوط بغداد، ولا زالت البنوك العراقية مرفوعة من الخدمة وهو ما ينعكس بالضرورة على المناخ العام للاستثمارات في العراق، ولعل جُل ما ابتدعه بريمر في هذا الشأن هو إصدار عملة عراقية جديدة لتحل محل العملة المتداولة حالياً التي تحمل صورة الرئيس العراقي المخلوع "صدام حسين"، وسيبدأ العمل بها في منتصف أكتوبر القادم، وهو ما رحب به البنك الدولي في لافتة غريبة للاهتمام بالشكليات دون جوهر الأمور.<BR>- ما زال ملف الديون العراقية عالقاً حتى الآن، وذلك على الرغم من عمليات إعادة الجدولة التي أعلن عنها نادي باريس، ومن الجدير بالذكر أن إجمالي ديون العراق لأعضاء النادي تقدر بـ21.18 مليار دولار من حوالي 120 مليار دولار هي إجمالي الديون العراقية، وتعد ديون أعضاء نادي باريس جميعها تقريباً من الديون المتأخرة، كما أنها شاملة لعملية إعادة الجدولة المطبقة على الديون المتراكمة من الحقبة السوفيتية، وذلك طبقا لمنهاجية عمل النادي، وتعد اليابان الدائن الأكبر للعراق، حيث تبلغ مستحقاتها لديه نحو 4.108 مليار دولار, تليها روسيا مع 3.450 مليار دولار, ثم فرنسا مع 2.993 مليار دولار, فألمانيا 2.403 مليار دولار, والولايات المتحدة 1.726 مليار دولار، ولعل ذلك قد يمثل خطوة أولى سواء لخفض ديون العراق الضخمة أو إعادة جدولتها، مع الأخذ في الاعتبار أن بيانات نادي باريس لا تشمل قطاعات مهمة من الدين العراقي منها الجزء المستحق لدول الخليج، والذي يقدر بنحو 35 مليار دولار، وذلك انتظاراً لما إذا كان يعد مساعدات أم قروضا، كذلك لا تشمل هذه البيانات الديون التجارية التي يجري تداولها حاليا في السوق بما يتراوح بين 25 و30 في المائة من قيمتها الاسمية، وفوق كل ذلك يظل الوضع في العراق عنصراً حاسماً في هذا الملف الشائك، ويعتمد ذلك على ما إذا كانت هنا إدارة مدنية معترف بها من الأمم المتحدة تحل محل الاحتلال الأمريكي، ويكون لها سلطة إعادة التفاوض على الدين العراقي.<BR>- ما زالت مرافق الصحة والتعليم تعاني من القصور الشديد نتيجة لخلل الأوضاع، وعدم وجود ضوابط إدارية بعدما عمت الفوضى جميع أرجاء البلاد، مع العلم أن أنظمة الصحة ‏‏والتعليم في العراق تحتاج ما بين مليارين إلى ثلاثة مليارات دولار سنويا لإعادة ‏‏تأهيلها وفقاً لما أعلنه البنك الدولي.‏ - مازال القطاع النفطي العراقي يعاني من تدهور شديد وصل في بعض الأحيان إلى درجة استيراد العراق للبنزين من الدول المجاورة وعلى رأسها الكويت، كما أن المنشآت النفطية العراقية لم يتم إصلاحها حتى الآن على الرغم من أهميتها في توفير الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، وعلى الرغم من الإعلان مراراً عن استئناف الصادرات النفطية العراقية، إلا أن هذا لم يحدث حتى الآن، ومن غير المتوقع أن يتم ذلك في المدى القريب، وينتج العراق حالياً نحو800 ألف برميل يومياً من النفط، وهو ما يقل كثيرا عن المستوى المستهدف، يستهلك منها 400 ألف برميل يومياً من هذا الإنتاج، وكان العراق ينوي استئناف تصدير نحو مليون برميل يومياً في منتصف يوليو وهو من الصعب تصوره في ظل التدهور الحالي للبنية التحتية النفطية في العراق، ولعل ما يثير الاستغراب في هذا الأمر أن إدارة الاحتلال الأمريكي أعلنت مراراً وتكراراً أن عائدات النفط العراقي ستكون ملكاً للشعب العراقي ذاته، بينما هي في واقع الأمر تقوم حالياً برهن كميات كبيرة من النفط العراقي لصالح شركات نفطية، وذلك بحجة توفير أموال لتغطية تكاليف عملية الإعمار.<BR>وخلاصة القول: إنه على الرغم من الإعلان بين الفينة والأخرى عن قيام واشنطن بهندسة وتخطيط عمليات الإعمار في العراق إلا أن الواقع يشهد عكس ذلك، وليس من المستبعد أن تهتم إدارة الاحتلال بترتيب أمور الحكم فقط في العراق دون الاهتمام بملف إعادة الإعمار، وهو ما قد ينبئ بأن يلقى العراقيون مصير إخوانهم في أفغانستان الذين يعانون حالياً من غدر الصديق الأمريكي الذي أذاقهم السم في العسل.<BR><BR>----------<BR>خليل العناني: خبير مصري في شؤون الاقتصاد السياسي <BR><br>