كلمة في التكفير
1 جمادى الثانية 1424

الحمد لله الذي خلق الخلائق فمنهم كافر ومنهم مؤمن والله بما يعملون بصير، والصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، أما بعد:<BR> فإن مما لاشك فيه أن من أجمع أهل العلم على كفره وجب تكفيره، وهذه نقطة اتفاق بين أهل الإسلام. <BR>ومما لا جدال فيه كذلك أن هناك مُعينين ممن ينتسبون إلى الإسلام هم كفار، وربما ظهر كفرهم لأناس دون آخرين، فربما علم البعض بأن المعين فلان انتفت عنه الموانع وتوافرت فيه الشروط، فمثل هذا يلزمه إنزال الحكم على المعين، وإن لم يجمع الناس على تكفيره. بخلاف غيره الذي لم يظهر له ما ظهر للأول، فالأخير الواجب عليه استصحاب الأصل (الإسلام) فلا يقول بخروجه مما دخل فيه يقيناً إلاّ بيقين آخر.<BR>ولكن محل الخلاف: إذا كان زيد يكفر فلاناً، فهل يعني هذا أنه كافر؟ فضلاً عن هل يجب علي أن أكفره لتكفير فلان؟<BR>ومن هنا يحسن التنبيه على أمر يخطئ البعض في فهمه وهو الناقض الثالث من نواقض الإيمان الذي ذكره العلم الإمام محمد بن عبدالوهاب: (من لم يكفر المشركين ..)، فيطبقه على غير وجهه حاضاً به على التكفير، وللتنبيه على هذا ينبغي أن نراعي ما يلي:<BR>- أن القاعدة تقول: (من لم يكفر الكافر) فلزم إثبات كفره أولاً قبل الكلام عمن يكفره أو لا يكفره، وإثبات حكم الكفر له شقان، الأول: إثبات أن الفعل الذي بدر من المعين كفر أكبر، ومن جملة الأخطاء في هذا والتي يتمسك بها من يجنح إلى التكفير، أنه يأتي بأفعال كفرية في القرآن فيحمل عليها صورة أخرى لا يسلم له بأنها مما كفر القرآن صاحبه، ومثاله: إنزال آيات التولي المكفر على من ألان الكلام أثناء حوار المشركين، فبعضهم يزعم أن هذا الفعل تولي مكفر بغض النظر عن قصد فاعله وسياق كلامه، فهذا خطأ في الحكم على الفعل بأنه كفر ليس من جهة أن التولي ليس بكفر، ولكن من جهة حملهم لمظاهر على التولي المكفر ولا يسلم بحملهم لها عليه، كما أن الخطأ قد يقع في جعل الفعل نفسه كفراً أكبر وهو ليس كذلك.<BR>الشق الآخر هو إقامة الحجة على المعين بإزالة الموانع بأصولها الأربع: الجهل، التأول، الإكراه، الخطأ.<BR>- ثم بعد ذلك يحسن التنبيه إلى أن ما يجب على طالب العلم هو أن يكفر من ثبت كفره أصلاً، كاليهود والنصارى، ومن ظهر أمرهم كالمرتدين الذين الذين صرحوا بمخالفة الدين، وليس طالب العلم مطالباً أو مكلفاً بإثبات كفر كل من بدر منه فعل أو قول كفري، فلإثبات هذا لابد أن يبحث في الموانع وينظر في الشروط إن كان الفعل مما يستوجب ذلك، وهذا الأمر يحتاج إلى جهد، فالحكم لا يكون مبنياً على مجرد كلمة بدرت أو فعل صدر، بل لابد أن يُنظر هل لهذا القائل ما يفسر كلامه أو يبينه أو يصرفه عن وجهه إلى وجه آخر، وأضرب مثلاً يوضح هذا، صدرت كلمة من أحد قادة الإسلاميين من العقلانيين في بعض البلاد ظاهرها أن (النصارى مؤمنون)! فطار الناس بهذه الكلمة ما بين جاهل متعصب مؤيد لايدري ما يقول، وآخر مكفر مطالب بإقامة حد الردة.<BR>فكلمت في ذلك أحد المشايخ من أهل العلم والفضل الذين يعتنون بأقوال ذلك الرجل، فقال لي: أنا كنت ضمن الحضور في المؤتمر الذي ذكر فيه هذه الكلمة، فقام شخص، فقال: كيف تقول: إن النصارى مؤمنون، والله يقول: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة..." وجعل يذكر له من نحو هذه الآية.<BR>فقال له المتحدث: يا أخي أنا لا أتحدث عن الإيمان الذي يدخل الجنة وينجي من النار، وإنما أعني أنهم مؤمنون بوجود الله، بخلاف الشيوعيين.<BR>ثم قال لي الشيخ: هذا لا يعني أن الرجل لم يخطئ في هذه العبارة، بل هي خطأ بين كبير، ولكن لا أستطيع أن أحكم عليه بالكفر بعد أن صرح بمراده هذا خاصة وأن السياق يحتمله.<BR>وهكذا قد ترد كلمة في موضع إذا عزلت يكون ظاهرها كفر، ولكن مراد صاحبها بعيد كل البعد عن هذا الكفر، يُعرف ذلك بتتبع أقواله وما قرره في سائر مؤلفاته، وربما بقراءة الصفحات قبلها وبعدها، فينبغي التنبيه على أنه لابد قبل الحكم من تتبع أقوال المحكوم عليه لعل له ما يفسر قوله أو يبينه أو يصرفه عن وجهه الظاهر.<BR>ولعل من أمثلة هذا، ما صنعه ابن القيم مع أبي إسماعيل الهروي في المنازل، ومن قبله ما صنعه قرينه الذهبي مع البسطامي، بل وصنعه شيخهما شيخ الإسلام مع أبي يزيد، فلم يحكم على ظاهر العبارات لعلمه بما يأولها من كلامه أو لعوارض أخرى يراها صارفة.<BR>وليس هذا من التساهل الذي يزعمه البعض، ولذلك نجد شيخ الإسلام لا يقدم هذه الأعذار عند الحكم على ابن عربي مثلاً، والفرق بينه وبين أبي يزيد، هو أنه عرف منهجهما واستقرأ أقوالهما فجزم بما أراده كل منهما، ومن ثم تباين حكمه عليهما.<BR>وعلى الطرف الآخر تجد قوماً يتمسكون بعبارة أو كلمة، ويذرون سائر الكلام المتصل أو المنفصل، ومن هذا القبيل ما يتمسك به البعض في الحكم على الأستاذ (سيد قطب) لاختزالهم عبارة ظاهرها باطل، ونسيان سائر كلامه الذي قرر فيه خلاف ذلك الظاهر.<BR>وعلى العموم إذا كان كلام اللطيف الخبير يجري عليه ما يجرى على كل كلام جاء بلغة العرب من إطلاق وتقييد، وإجمال وتبيين، وتعميم وتخصيص، فإن كلام المخلوق بذلك أولى لما فيه من نقص وقصور، قد يقول القول بجهل ثم ينسخه بآخر إذا حدث له علم، وقد يسيء التعبير فيوضحه في مكان آخر، ولذلك كان من الباطل زعم بعضهم: أن كلام البشر ليس بقرآن ليقال نسخ، أو قيد، أو...، فـ(ليس بقرآن) حق ولكن انتقل به إلى باطل، فإن ما جاء بلغة العرب تدخل عليه عوارض الألفاظ والمعاني التي يعرفها العرب، سواء أكان قرآناً أو كلاماً آخراً.<BR>ثم إن هذه المقدمة التي يستدل بها البعض عليهم لا لهم، فبما أنه ليس بقرآن، فهو أولى بالنسخ والتغيير والتبديل والتقييد والتبيين، وذلك لجهل المخلوق وقلة علمه، بخلاف الخالق وإن كان مجيء النسخ في كلام الشارع لحكم أخرى عظيمة، ومن جملة الأسباب التي حدت ببعض أهل البدع إلى إنكار النسخ هو كونه ناشئ عند المخلوق لضعف في العلم أو بداء قد يطرأ له، فقاسوا الخلق بالخالق أولاً ثم نفوا ما تهيؤوه ثانياً. <BR>- ومما يحسن التنبيه عليه أيضاً أنه ليس لزاماً علي أن أكفر من تكفر أو يكفره فلان أو أن أبحث في كفره أصلاً، وأذكر أن بعضهم كلمني بحوار دار بينه وبين غيره في كفر معين من المنتسبين إلى هذا الدين، فقال له:<BR>§ أنت تكفره، فهل تقول بوجوب تقليدك في تكفيره؟<BR>§ قال: لا ولكن يحب أن تنظر في أقواله وتحكم عليه.<BR>§ فرد عليه: ما أعرفه أن الذي يجب علي أن أفعله هو أن أتعلم ما تجب علي معرفته من علم الشرع، فالذي ينبغي هو النظر في كلام الله وكلام رسوله_ صلى الله عليه وسلم_، ولم يكلفني الشارع بالجلوس على منصة عالية ومن ثم الحكم على فلان أو علان، ولا أظن أن معك دليل يلزم بالنظر في أقوال البشر ومن ثم الحكم عليهم!<BR>قال: ثم ذكرت له أن كثيراً من الناس يترك تعلم ما يجب عليه لينشغل ببحث ما لا يسأل عنه.<BR>ثم قال له: أنا معك إذا تعلمنا كل ما يجب علينا ولم يبق إلاّ ما لا يجب فلا مانع أن نبحث هذه المسألة!<BR>- قال ثم قلت له: أنت تكفر فلانا،ً فهل قرأت جل ما كتب وقال؟ فقال: لا، فقلت: فكيف تكفره، فقال لي فلان –من أهل العلم الثقات-: كفره.<BR>قال فقلت له: ماذا تقول في أبي حنيفة؟<BR>فقال: من الأئمة الكبار المعروفين.<BR>فقلت له: أثر عن الثوري والحميدي تكفيره!<BR>سكت.. قال فقلت: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون".<BR><BR><BR><br>