اتفاق ( نيفاشا ) و السلام المر
10 شعبان 1424

بعد جهود مضنية ومفاوضات ماراثونية استمرت لأكثر من ثلاثة أسابيع بين (النائب الأول لرئيس الجمهورية السودانية) علي عثمان محمد طه، وزعيم التمرد في الجنوب جون قرنق وفريقيهما تمكن الطرفان بمساندة خارجية تمثلت في "شركاء الإيقاد" ومن خلفهم الولايات المتحدة الأمريكية من توقيع اتفاق إطاري للترتيبات الأمنية والعسكرية بنيفاشا الكينية في الثامن والعشرين من رجب (الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي )، مع تحديد موعد لمواصلة المفاوضات فيما تبقى من مسائل في السادس من أكتوبر الحاري.<BR><BR>أهم نقاط الاتفاق:<BR>جاء الاتفاق في ثمانية بنود، تحدث البند الأول منها عن وضع القوتين المسلحتين: الجيش السوداني وجيش المتمردين، وبقائهما منفصلتين في المدة الانتقالية، و اعتبارهما نواة للجيش السوداني في المستقبل، كما يتحدث البند الثاني عن وقف إطلاق النار من تاريخ توقيع اتفاق السلام الشامل بمراقبة دولية، ويرتب البند الثالث إعادة انتشار القوات المسلحة؛ بمعنى سحب الجيش السوداني من الجنوب، ليحل محله جيش المتمردين، وتحدث البند الرابع عن الوحدات المشتركة والمدمجة بين الجيشين وتوزيعها على جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والخرطوم بنسب محددة ، بينما يرتب البند الخامس للقيادة المشتركة للقوات، ويتحدث البند السادس عن العقيدة العسكرية المشتركة للقوتين، وينظم البند السابع وضع المجموعات المسلحة الأخرى في السودان، وينظر البند الثامن في الأجهزة الأمنية القومية والشرطة.<BR><BR>قراءة حول الاتفاق:<BR>وأول ما يلاحظ على الاتفاق اعتبار جيش عصابات المتمردين الجنوبيين جيشاً نظامياً، يعامل على قدم المساواة مع الجيش الوطني السوداني، وهذه مفارقة كبرى لواقع الأمر وحقائق الأشياء، فلا يمكن أبداً مساواة مجموعةٍ من المتمردين الهائمين في الغابات والمنافي بجيش عريق كالجيش السوداني، ولا مجال للمقارنة بينهما عدداً وإعداداً وتاريخاً ودوراً، وإغفال هذه الحقيقة يؤدي إلى اختلال الأمور مستقبلاً، خاصة وأن الاتفاق يتحدث عن تشكيل القوات المسلحة القادمة من الجيش السوداني الحالي وجيش المتمردين، واختلاف التدريب والإعداد مع اختلاف الدور والمهمة ينشئ تكويناً مشوهاً ويمنح من لا يستحقون مراتب أعلى وفرصاً أوفر.<BR>والترتيب الدقيق لمرحلة الانفصال يظهر في الاتفاق بجلاء عند الحديث عن إعادة الانتشار بالنسبة للقوتين، مما يعني انسحاب الجيش السوداني من الجنوب وتسليم مواقعه للمتمردين، خلال سنتين ونصف - كحد أقصى – من بداية المدة الانتقالية البالغ مداها ست سنوات، مما يعني أن جيش المتمردين سيظل مسيطراً على الأوضاع الأمنية والعسكرية بالجنوب - منفرداً - لحوالي أربع سنوات لا يدري أحد ماذا يفعل خلالها أو بعدها، وبمنطق الأشياء هل يرتضي قوم انفردوا بالسيطرة على الجنوب أن يشاركهم غيرهم - طواعية - في اقتسام النفوذ والسيطرة ؟ وإذا وضعنا في الاعتبار التدخل الخارجي السافر الذي وضح بجلاء خلال وقبل المفاوضات الأخيرة؛ لأمكننا تخيل سيناريو نتيجة الاستفتاء منذ الآن.<BR>يتحدث الاتفاق كذلك عن قوات مدمجة بقيادة مشتركة تتوزع على جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والخرطوم. وهكذا تكتمل حلقات المؤامرة: جيشان منفصلان في وطن واحد، وجيش ثالث رمزي في مناطق رمزية، فماذا بقي لإعلان الانفصال سوى تدفق الأموال لتعمير الجنوب، طمعاً في سلام لا يأتي وجرياً وراء سراب لا يروي، ليصبح تعمير الجنوب بمثابة العقوبة لأهل السودان جميعاً عن حرب جرت في الجنوب لينفصل بعدها مستكملاً مقومات الدولة بأموال الشمال وربما بعض العرب.<BR>وأخطر ما في الاتفاق الحديث عن عقيدة عسكرية مشتركة بين قوات المتمردين والجيش السوداني، ثم فرض هذه العقيدة على جيش السودان إذا جاء الاستفتاء لمصلحة الوحدة!! على أن تتطور هذه العقيدة خلال عام واحد من بداية المدة الانتقالية وتفرض على الجيوش الثلاثة: الجيش السوداني في الشمال وجيش المتمردين في الجنوب والقوات المشتركة بين الجيشين!!<BR>والمعروف أن الجيش السوداني خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة قد توجه أمره على وجهة مستقيمة، إذ زاد التوجه الديني بين أفراده وضباطه، بل صار ضباطه يحفظون سوراً من القرآن كالأنفال والتوبة والحشر عبر دورات مستمرة، وأصبح نداؤه الدائم: "الله أكبر"، كما أدخلت العديد من الأناشيد الحماسية [الجلالات] الإسلامية مما رفع روحه المعنوية وزاد مقدراته القتالية.<BR>وتقفز هنا عدة أسئلة: ما طبيعة هذه العقيدة المشتركة؟ وما نصيب الإسلام منها؟ ولماذا تفرض على الجيش السوداني حتى قبل بدء الاستفتاء؟ وإذا لم يأتِ الاستفتاء بالوحدة، هل يغيّر الجيش السوداني عقيدته التي اعتنقها لمدة استمرت حوالي خمس سنوات؟ وهل أمر العقيدة العسكرية بهذه الدرجة من الخفة القابلة للتلاعب؟!<BR>إن ترتيبات الانفصال واستعداداته تبدو واضحة من ثنايا الاتفاق، وكل ما في الأمر أن الشمال مجبر على تعمير الجنوب والمساعدة في تأسيس البنية الأساسية للدولة القادمة، وأن الوحدة التي يلوحون بسرابها سيكون ثمنها غالٍ ومراً، وأي ثمن أغلى وأمر من تخلي الإنسان عن عقيدته العسكرية إرضاء لمجموعة من المتمردين؟!<BR><BR>وأخيراً:<BR>أخشى بعد كل ذلك أن يمتطي المتمرد "قرنق" صهوة سيارة رئاسية ميمماً صوب المتمة - مدينة شمالية تسكنها قبيلة الجعليين الذين اشتهروا بالشجاعة والكرم -؛ ليحتسي القهوة وفاءً لنذر قديم لم يستطع أداءه بالحرب.<BR><br>