التحريض والتضليل أم الحوار؟
23 رمضان 1424

يتابع مواطنو السعودية بكثير من القلق والحيرة تطورات الأزمة الأمنية المتصاعدة التي تواجهها بلادهم للأشهر الستة الماضية، وتزداد صدمتهم وحيرتهم كلما تجددت التفجيرات تتلوها المضايقات الأمنية والاعتقالات، ثم لا تنقطع ولا تتراجع مع المواجهات المتكررة بين قوات الأمن وهذه المجموعات المسلحة المعلن عنها بين وقت وآخر.<BR><BR>وما يزيد المشكلة تعقيداً أمامهم، تضارب المعلومات والتغطيات بين هذا الطرف وذاك إلى حد التعارض التام في التفاصيل. خصوصاً في ظل شعور متزايد بوجود درجة من التعتيم أو على الأقل التوجيه المتقصّد للتغطية الإعلامية لهذه الأحداث، وفي ظل إصرار هذا الإعلام على رؤية واحدة وموقف واحد فقط من هذه الأحداث والمحاصرة والإقصاء لأي رأي مخالف مهما كان صوابه أو رجاحة عقل ومكانة صاحبه؛ مما يدفع ا لناس دفعاً نحو شبكة الإنترنت: وسيلة الإعلام الأوسع تأثيراً في هذا البلد، ويؤدي بهم نحو مزيد من الحيرة والبلبلة.<BR><BR>وعند التأمل فلن يجد مواطنو هذا البلد الحادبين عليه والمتخوفين على مستقبله، ما ينافس الأزمة الأمنية القائمة خطورةً أشد من هذا التوتر والتعنت الإعلامي المصاحب لها.<BR>توتر وتشنج إعلامي بلغ مداه على إثر تفجيرات مجمع المحيا السكني الأخيرة، وأخذ يسوق البلد سوقاً وبشكل سافر لا تردد فيه ولا مواربة نحو ما يريده صنّاع هذا الإعلام وقادته الموجهين له من خلف أو من أمام الكواليس، غير آبهين ولا مكترثين بما يريده أو يراه غيرهم وخصوصاً من الأكثرية المحافظة.<BR>لنعيش أجواء لا تختلف كثيراً عن تلك التي عاشتها الجزائر الجريحة، وذكرتنا بمن تعارف أهل الجزائر حينها على تسميتهم بالاستئصاليين.<BR>حقاً هو الاستئصال والإقصاء بعينه ولا شيء سواه.<BR><BR>وما يضاعف الحيرة ويفاقم الأزمة من هذا الإعلام، مستوى الاحتكار الذي تمارسه هذه الجهات، فلا تكاد تسمع وتشاهد إلا ما يوافق التوجه المطلوب له أن يسود، إلى درجة أنهم أوقفوا تماماً التباين التكتيكي الذي ظهر به هذا الإعلام لفترة قصيرة ماضية، وأطلقوا حملة إعلامية متناغمة ومتناسقة تنطق بموقف واحد ورؤية واحدة بل لا أبالغ إن قلت أفكار وعبارات واحدة، تجدها في الصحف المحلية والمهاجرة كما في القنوات الرسمية وشبه الرسمية وإن كان بنسب متفاوتة ومراعية لطبيعة الشريحة المستهدفة.<BR><BR>والمؤسف أن هذا الجو القسري الذي أخذ يحيط بأي مبادرة نقاش وتحليل أو محاولة فهم، نجح في "إرهاب" الأغلبية، فلا يكاد أحد ينطق إلا بما يوافق ويرضي هذا التوجه، ولا يمكن أن يبدأ الحديث إلا بالبراءة من هذه المجموعات المسلحة وبالتشنيع عليها، فيتبارى الجميع باستخدام أقذع ألفاظ التنكيل والتشويه - وكأننا قد نسينا التوجيه النبوي الكريم بالحذر من الفجور في الخصومة - دون أن تخرج بتوصيف موضوعي محايد للأزمة ولا بحلول عملية واقعية.<BR><BR>والغريب أنه حين يبادر مجموعة من العلماء والمفكرين بطرح مختلف عن الجو العام السائد، تنبري وبشكل هجومي عنيف حملة إعلامية مركزة تشعرك وبإلحاح بوجود نوع من الحلف الحقيقي والاستراتيجي لكن غير المعلن بين عدد من الأطراف الممسكة بزمام الأمور في البلد والمنتفعة منها أو المستغلة لها لتنفيذ أغراضها وأهدافها، وهي ذاتها التي تحتكر الإعلام وتديره.<BR><BR>والجديد والخطير في هذه الحملة أنها تركت المناوشات حول الحمى والتلميحات البعيدة وبدأت لغة مباشرة وصريحة في النيل من "الإسلام السياسي"، ذلك المصطلح الفضفاض والبوابة الواسعة التي سئم الناس من كثرة تردادها في العديد من الدول العربية المحيطة بنا، والآن تنتقل إلينا ويتم توظيفها للتهجم على كل طرح ورؤية أو نشاط ومشروع أو شخصية ومجموعة ذات توجه إسلامي لا يتوافق مع "التوجه" الذي يراد له أن يسود، وذلك حتى لا يتهموا بمهاجمة الإسلام بذاته – معاذ الله – (...!!) بل المراد هذا النوع من الفهم أو التطبيق للإسلام، لا أقل ولا أكثر...!!.<BR><BR>إذاً الحماس وهذه الأجواء الجديدة ولا شيء غيرهما...!! هما اللذان يدفعان الكتّاب والمتحدثين فضائياً للانفعال والحديث بلهجة تهديد واتهام وتوجيه رسائل أمنية وسياسية أكثر منها فكرية وموضوعية.<BR>ركز أحدهم في إجاباته التي استحوذت على حلقة حوارية فضائية على الرفض وبشدة لمبدأ الحوار مع هؤلاء "القتلة" "المجرمين" وشبه ذلك بالحوار مع تجار المخدرات، فأسقط في يد مناظريه، وتناسوا هم كما تعامى هو عن حملات "لا للمخدرات" التي شغلتنا سنين طويلة، فلا أدري بماذا يصنف تلك الحملات..؟!، وعن المصحات المنتشرة في البلد لعلاج متعاطي المخدرات أو المدمنين عليها الذين يصنفون كالمرضى المحتاجين للعلاج وليس الملاحقة والمواجهات الأمنية المثيرة أو العقوبة التي نجدها تقتصر على المروجين فحسب. <BR>ولا نجد رفضاً لمبدأ الحوار معهم والمناصحة لهم وإقناعهم شرعياً وفكرياً ونفسياً بخطأ طريقهم بل نجد حملات واسعة للتوعية والتوجيه كما ذكرت. وهذا لا ينفي – قطعاً - أن خطر فتنة التطرف والغلو أشد وأنكى من خطر المخدرات، لكن طريق العلاج يبقى واحداً ويتلخص بالعمل الحثيث على اجتثاث كل الحجج والأهواء التي ترتكز عليها هذه التوجهات وبطريقة مقنعة وهادئة. ودون أن نتناسى أو نتجاهل قصداً البحث عن الأسباب، والعمل على إزالتها كذلك، كأحد ركائز العلاج المهمة أيضاً. <BR><BR>والآخر ينطلق من لهجة التهديد و التلويح بالقبضة الحديدية كحل وحيد وأنها ستكون كافية في ردع هؤلاء، عجيب أمركم، ألا تدركون الفارق الكبير بين المجرم الانتهازي الشهواني وبين من تشرب قلبه عقيدةً وقناعةً راسخةً أصبحت تتملكه وتسيره نحو هذه القناعة مهما أوقعته في المزالق والمهلكات.<BR>كيف ستردع بالموت والهلاك مَن يشتري الموت ويسعى إليه سعياً حثيثاً، عجيب هذا المنطق، بل هذا المنطق هو الخطير وهو التحريض والتضليل الحقيقي لا غيره، لأنه يزيد النار اشتعالاً ويوسع الفجوة والهوة ويفاقم من تعنت وعناد وتهوّر هذه المجموعات، ولا يخدم الدولة أبداً في سعيها للقضاء على هذه الفتنة.<BR>ومع هذا يدّعي أن الفطرة والبديهية السياسية تقتضي هذا النوع من المواجهة، ولا أدري أين يذهب من أرباب السياسة العالمية - فيما عدا الامريكية منها – المتواترة بالتأكيد على خطورة الاقتصار على المعالجة الأمنية ، وها نحن نسمع وزير الخارجية الفرنسي مؤخرا يرد وبكل تلقائية على الصلف الامريكي حول أزمة العراق بقوله : ( إنه لا يوجد حل امنى للارهاب بل حل سياسي واجتماعي ) . أم ترى هؤلاء لا يفهمون الفطرة السياسية ! !<BR><BR>ثم يتساءل بتحريض وتلميح أو تصريح مقصود عمن أدخلوا قضية الجهاد الأفغاني إلى غرف النوم وأخرجوا آخر قرشٍ من الجيوب، أين هم الآن من أزمتنا القائمة. فيطول عجبي، هل يقصد أن الدولة عاجزة وهي بحاجة للمال والرجال، لا أظنه كذلك. أم يدعو للصراع الداخلي بين المجتمع وهؤلاء التفجيريين بعيداً عن سلطة الدولة والأجهزة الأمنية، أرجو ألا يكون كذلك.<BR><BR>وهنا لا بد من تكرار التأكيد على الاختلاف النوعي لهذه المجموعات العقدية المسلحة والمشترية للموت عن غيرها ممن وقع في نفس الأسلوب في بلاد عربية أخرى، وينبني الاختلاف على جوانب عدّة، أهمها حالة الإحباط والذل والفشل التي تعيشها الأمة في مواجهة غطرسة وطغيان الأعداء، والتي تأتي في ظل منامات ورؤى وبشارات عجيبة، فتعصف بالنفوس وتقحمها في هذا المستوى من التفكير والممارسة، وتضحِّي بكل شيء من حولها بحثاً عن الخلاص. ويزيد من خطورة هذا العامل النفسي، التدخل الاستخباراتي الذي بدأت تتكاثر القرائن على وجود أصابعه الخفية التي تستغل هذه الظروف وهذه العناصر بكل مكر ودهاء. فلا مقارنة بين هذه الظروف وغيرها. وهؤلاء لا يمكن إقناعهم إلا بالدليل الشرعي والفكري المنطقي الذي يبين لهم خطأ طريقهم، وليس بالحل الأمني فقط وذلك لأن هذا النوع من الحل لوحده، بكل بساطة يوفر حجةً ومرتكزاً لهم في عملياتهم، مهما اختلف معهم الآخرون في ذلك.<BR><BR>ثم تأتي الخطورة والمزلق حين يتناول العديد من الكتّاب وبكل تشنج الموقف من دعاة الحوار مع المقتنعين بالنهج المسلح والعمليات العسكرية التفجيرية للحل، إذ يدفعهم النزاع والمخاصمة لهذه المجموعة الداعية للحوار والتوجه الذي تمثله بعمومه، يدفعهم الاختلاف معها لإقحامها في صف هؤلاء التفجيرين الإرهابيين بكل علانية وصراحة، فيتحدثون عن بساط الإرهاب وأوله وأوسطه وآخره، وعن دولة داخل الدولة، وعن مشروع سياسي معلن للتنظيم العسكري المجهول الهوية والأطراف وعن استغلال غير نزيه للأحداث وبحث عن دور مفقود أو انتهازية وترويج للنفس، وعن المستغلين "لعباءة الدعوة" والجماعات المسيَّسة، التي جعلت المجتمع كله موضع اتهام.<BR><BR>هذا الكلام الجديد على أسماعنا في هذا البلد وتجاه هذه المجموعة العلمية والإصلاحية تحديداً، عجيب أن يمر هكذا وبشكل متكرر ومتقصد. ولا أجد أعجب من هذا الاتهام المباشر والصريح والخطير، إلا ضعف وخفوت صوت الجهة المتهمة وموقفها المرتبك من هذه النغمة الإعلامية الجديدة وما تروج له من وضعية جديدة، وما بعدها قد لا يقل فداحة وخطراً.<BR>والمشكلة أن تكرار وانتشار وتوسع هذه النبرة الجديدة في التعاطي داخل البلد يقنعنا أكثر وأكثر بالحلف غير المعلن الذي تحدثنا عنه ويذكرنا بالاستئصاليين في التجربة الجزائرية، ويكفي أن تقرأ الافتتاحية اليومية لجريدة الرياض والمعبرة عن توجهها ليوم السبت 20/9/1424هـ، لتعرف أن القضية الآن ليست حماساً غير مقصود من إعلامي أو كاتب.<BR><BR>وهذا يدفعني لأن أطلق عتاباً علنياً ومباشراً لعلمائنا ومفكرينا أنهم هم بذاتهم يتحملون قدراً من المسؤولية عما وصلنا إليه الآن وبدأنا نواجهه صباح مساء من هذا الحلف غير المعلن واختراقاته الإعلامية والاجتماعية والسياسية المتتالية، والتي لا نملك إزاءها إلا ردود الأفعال الانفعالية والوقتية لا غير. إنهم يتحملون المسؤولية إذ استسلموا لهذا الاحتكار الإعلامي وغير الإعلامي لسنين طويلة، وهانحن نقبل على مرحلة اضطرابات تحتاج سرعة البيان ودقة ووحدة الموقف، فضلاً عن مرحلة انتخابات ومشاركات سياسية قادمة دون أن يكون لهم ولمن يمثلونهم من الأغلبية المحافظة وسيلة إعلامية سيارة واحدة تخصهم، ودون أن يكون لهم وجاهة اعتبارية حقيقية تمنع هؤلاء من التطاول عليهم وبمثل هذه الصفاقة وعلى الهواء مباشرةً.<BR> وبغير هذا المستوى من التوازن فستستمر الأزمة، وسيسلمون الناس للحيرة بين تطرف البغاة التفجيريين وتطرف "المارينز العرب" كما سماهم أحد الكتّاب المعتدلين.<BR>وما لم يتكاتفوا وتتوحد جهودهم وإن اختلفت اجتهاداتهم وما لم يَدَعوا عنهم التردد والمجاملات أو الارتجال والتبعثر فإنهم سيجدون من هذه المفاجئات الكثير. وإنهم ما لم يطالبوا بحقهم ودورهم بكل إلحاح وما لم يطرحوا برنامجهم وقضيتهم بكل وضوح ويعلنوا مواقفهم بأساليب إعلامية حقيقية وبمهارة سياسية متقنة، فإن الذي نخشاه ونسأل الله ألا يقع أن الأحداث والأيام ستتجاوزهم.<BR><BR>وأخيراً أقولها بكل صراحة : إن هذا الحلف الإعلامي وغير الإعلامي ومن يسيره ويقف وراءه، وحملتهم المطلقة دون مساءلة أو مراجعة، يجرمون بحق البلد ولا يرأفون به، يسيئون إليه ولا يحسنون، بل إنهم يحرضون على تكرار هذه العمليات الإرهابية، لأنهم رغم كونهم مجرد أقلية إلا أنهم بسبب نفوذهم الإعلامي اصبحوا الآن يستعدون الأكثرية المحافظة بطبعها على علمائهم ومفكريهم الإسلاميين الذين وثقوا بهم طويلاً ، ويهدفون بذلك الوصول للوضعية التي يتطلعون لها منذ زمن بعيد وكانت تكتنزها قلوبهم ومجالسهم والآن حان وقت طرحها وبكل علانية.<BR>فليس أقل من أن تنادي الأكثرية المكلومة بهؤلاء بتحقيق التوازن المطلوب وبإلحاح في هذه الفترة العصيبة، وذلك بكبح جماحهم وإلزامهم بالكف عن تصفية الحسابات والاستعداء المتعمد، فليس هذا وقته ونحن نواجه أزمة أمنية.<BR><br>