الأزهر بين نابليون وشيراك
16 ذو القعدة 1424

ماذا لو منعت كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة وعمان وقطر والبحرين طالبات المدارس الثانوية من ارتداء الحجاب في مدارسهن؟ سؤال افتراضي بعض الشيء لا نريد من ورائه سوى أن نلفت إلى أن سكان تلك الدول مجتمعة يناهز بقليل الأقلية المسلمة في فرنسا، ومن ثم ندرك حجم الفاجعة !! <BR><BR>الفاجعة ـ بالطبع ـ ليس يعكسها الحجم الهائل للمسلمين المقيمين في فرنسا فحسب، وإنما علاوة على ذلك رد الفعل الرسمي الباهت للمؤسسات الدينية في العالم العربي إزاء القرار الفرنسي الجائر ضد الصغيرات من مسلمات فرنسا. <BR>ونعني برد الفعل الباهت ذاك الصادر عن رؤوس المؤسسات الإسلامية العريقة في أكثر من بلد عربي، إذ من الغبن أن نقصد مجمل علماء هذه المؤسسات التي صدر عن معظمهم مواقف مشرفة جليلة برغم كونها لم ترق إلى الفعل المطلوب المقاوم لهذه الحملة الفرنسية الظالمة على الحجاب الإسلامي.<BR>وقد كنا نأمل قبل المسرحية الفاضحة التي جرت وقائعها في عاصمة الكنانة في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي أن يتشكل وفد من علماء الإسلام المحترمين من أكثر من دولة لتقديم الاحتجاج بأقصى درجاته للرئيس الفرنسي شيراك بذات الهمة التي استدعت تشكيل وفد على مستوى عالٍ لمقابلة الملا عمر (زعيم طالبان) قبل نحو ثلاث سنوات لصرفه عن عزمه هدم صنم بوذا، لكننا الآن وبعد تلك المسرحية الفاضحة التي منحت الفرنسيين حق كشف شعور الفتيات المسلمات الصغيرة، واغتيال حيائهن الغض صرنا نستصرخ هؤلاء العلماء آملين منهم الحضور في قلب فرنسا يوم 17/1/2004م استجابة لدعوة العديد من المنظمات الإسلامية في فرنسا على رأسها اتحاد المنظمات الإسلامية وحزب مسلمي فرنسا (الذي ينشط في مدينة ستراسبورج شمال البلاد) لمسلمي فرنسا إلى المشاركة في المظاهرة السلمية المقررة في ذات اليوم احتجاجاً على اعتزام الحكومة الفرنسية حظر الحجاب في المدارس، وذلك للوقوف في صدر المظاهرة العارمة المنتظرة .. أقله للتضامن الوثيق مع محنة فتيات الإسلام في بلاد الغال .. أقله ليأذنوا للعالم أن هذه الأمة لم تعدم رجالها كما لم تودع علماءها. <BR>أو لاً: فإلى التاريخ نرتحل عبر أحقابه إلى زمان نضال العلماء وجهادهم لعلنا نجد فيه سلوى عن مصيبتنا، وأين ؟ في الأزهر عينه يوم كان على رأسه علماء يتصدون لغطرسة "الفرنسيس" وإلحادهم في قلعة العلماء ومدرسة الفداء. <BR>فما بين نابليون وشيراك لم تتغير فرنسا في نظرتها إلى الإسلام وأهله فيما الأزهر بين الشيخين عبد الله الشرقاوي ومحمد سيد طنطاوي هو الذي تغير في نظرته إليها.<BR><BR>فرنسا نابليون هي فرنسا شيراك كلتاهما لم يعترِهما التغيير، فقط أسلحة البغي عليه هي التي أمست أكثر تطوراً ومكرهم صار كبّاراً، وأشد مراساً، وأبلغ تعقيداً وتشابكاً فيما رأس الأزهر قد تخندق في معسكر "الفرنسيس" في وقت لاذت به الفتيات المسلمات فلم يرحمهن. <BR>كان نابليون "غبياً" حين التفت إلى جنوده آمراً أن يضربوا الأزهر بالمدافع يوم ثار الأزهر في وجهه (11 من جمادى الأولى 1213 هـ / 21 من أكتوبر 1798 م) فيما عرف بـ"ثورة القاهرة الأولى"، وأن يجوسوا خلال رحابه العطرة بخيول استبدادهم وصلفهم، وكان الجنود الفرنسيين يتحمسون إلى قرار زعيمهم، فزايدوا على إلحاده بإلقائهم المصاحف على الأرض، ووضعوا أحذيتهم عليها، وبالوا في المكان الطاهر الشريف، ونهبوا كل ما وقعت عليه أيديهم من أموال الطلبة في أروقة الأزهر، وقبضوا على عدد من مشايخ الأزهر المتهمين بالتحريض على الثورة، وأعدموا بعضهم داخل المسجد وخارجه. <BR><BR>(ينقل المؤرخ الجبرتي عن أحد شهود المذبحة ، وكان يقيم على مقربة من الأزهر الشريف، قوله :"وبعد هجعة الليل دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا في الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم ممانع كالشياطين، أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخل طائفة من باب البرقية، ومشوا إلى الغورية، وكرّوا ورجعوا، وترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين، وتراسلوا إرسالاً، ركباناً ورجالاً، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر، وقد راكبوا الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرّقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع، والودائع والمخبات بالدواليب والخزانات، ورشقوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها... وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه".)<BR>كان الجنود الفرنسيون في غاية الحماسة وهم يلحدون في أزهر العلم والعلماء، مثلما أضحى أحفادهم يتمتعون بالحماسة ذاتها وهم يؤيدون شيراك في مسعاه الخبيث، كما لم يؤيدوه في سياسة خارجية أو داخلية قط ، وكان نابليون ـ كما قلنا ـ غبياً؛ لأنه أقدم على مواجهة الإسلام دون مواربة، وكان بإمكانه أن يستحضر "شيخاً بلاستيكياً" لم يجر الدم في عروقه ليفتيه بأن الأزهر "منطقة سياحية دولية" يمكن للغادي والرائح التمتع بأبنيتها الأثرية، ولا يجوز للمسلمين أن يستأثروا بها ولا بأسفارها وفتاواها التي تصدر عنها !! <BR><BR>كانت تجربة نابليون بعدُ حديثة مع الإسلام لم تصقلها القرون ، ولهذا فقد وقع في هذا الخطأ الذي سرعان ما حاول استدراكه باستقطاب بعض "العلماء" لكن بعد فوات الأوان ؛ إذ كان العلماء المخلصون حديثي عهد بجهاد ونضال وفداء يستبقون الخطا إلى الردى غضبة لدين الله ، فما استقر بهم الحال حتى غدوا ثائرين في سبيل الله مشعلين ثورة القاهرة الثانية في 16 من شوال 1214هـ / 20 من مارس 1800م لمدة 33 يوماً، واستمر جهادهم ونضالهم حتى أجلوا الفرنسيين عن ديارهم في 19 من صفر 1216 / 2 من يوليو 1801م ، ولفظوا من بعد شيوخ الاحتلال الذين صارت عمائمهم أغلى من ذواتهم. <BR>كانت محنة الأزهر على فداحتها ـ حين أهريقت دماء علمائه وطلابه في ساحته وأروقته الطيبة ـ أقل من محنته اليوم، ولئن كان علماؤه قد عازتهم الثورة الأولى والثانية ليحرروه، فما أحوج علماءه اليوم إلى "ثورة الأزهر الثالثة" لينفضوا عنه غبار الهيمنة الخارجية والداخلية. <BR>أزهرنا الشريف الحبيب منبت العلماء ومنار العلم بحاجة إلى المجاهدين الشيخ سلمان الجوسقي شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوي، والشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ إسماعيل البراوي، والشيخ بدر المقدسي رواد الثورة الأبرار الذين قادوا الأُلى ناضلوا وجاهدوا حتى يصدر الأزهر عن دين الله، وحتى يحفظوا له استقلاليته وبهاءه .. أزهرنا في حاجة إلى مثل هؤلاء القائمين لله الذين رووا أروقته الطاهرة بدمائهم الزكية (عدا الشيخ المجاهد المقدسي الذي أفلح بالفرار من الإعدام إلى الشام) ليلفظوا عن منبره المناكيد الذين "يحرفون الكلم عن مواضعه"، ويبثوا الأمل في ريادته للأمة المكلومة من جديد "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".<BR><br>