من يصنع التكفير؟! آخر الحلقات أم أولها؟!
19 ذو القعدة 1424

<font color="#0000FF">"المسلم": قام الكاتب بإرسال هذا المقال إلى جريدة الوطن ثلاث مرات متتالية على مدى عشرة أيام حرصاً منه على نشر التعقيب في نفس الوسيلة التي نشرت المقال الأساسي، ولكنه حينما لم تُنشر المادة وجد الكاتب نفسه مضطراً إلى نشرها في موقعنا. </font><BR>لا أزال أذكر وبالتفصيل مواقف متعددة بيني وبين أحد أقاربي المسنين، إذ كان _رحمه الله، وأحسن في جنان الخلد مثواه_ يكثر من مناقشتي في كثير من المسائل الفقهية الاجتهادية، لمجرد أنني ومع بدايات دراستي الجامعية تأثرت بمسيرة الدعوة الإصلاحية في البلد.</br>وفي كل مرة كان ينتهي الحوار بيننا بانفعال وحِدَّةٍ منه، يختمها بتشنيع علَيّ وعلى أمثالي؛ لأننا فقط نُحْرج جيله ومن معه في اختياراتهم الفقهية التي عاشوا عليها لسنين طويلة، فكنت أحاول الاعتذار بأنني لا أتقصد الانتقاد لهذه الاختيارات أو التطاول عليها، إنما كان الشيخ المسن هو من يحتد ويغضب لمجرد أن يراني أتخذ اختيارات فقهية أخرى، بل كان أحياناً يقول وبعبارة مباشرة: إن الدراسة العلمية الفقهية لا ينبغي أن تتعمق، ولا ينبغي أن تدخل في التفاصيل أو التطبيقات على واقع الناس اليوم؛ لأنها ببساطة تقيم الحجة عليهم، وقد لا يطيقون الالتزام بالأحكام الصحيحة.<BR><BR>هذا المنطق الذي كان يسود بين طبقة كبار السن ومحدودي التعليم في المرحلة السابقة لا تخفى غرابته ولا خطورته؛ لأنه ببساطة يؤدي إلى تعطيل دور ورسالة الدين وتكبيل ميراث النبوة، وتحجيم أثره المطلوب في تجديد ما اندرس من الشريعة في حياة الناس والمجتمعات حتى تبقى الرسالة الخاتمة حية ومشتهرة ومتّبَعة.<BR>ذلك المشهد الأسري - بحواراته الحادة - المتكرر الوقوع في عدة أسر داخل المجتمع في مرحلة ماضية، توسع فيما يبدو مؤخراً حتى بدأ يشمل المشهد الاجتماعي بأَسْره، وبدأ يظهر على وسائل الإعلام بصورة لا تقل حدةً ولا تشنجاً.<BR><BR>لا أدري لماذا تذكرت مواقفي مع قريبي المسن هذا، حين قرأت مقالة الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي في جريدة الوطن ليوم الثلاثاء السابع لذي القعدة لعام 1424هـ، والتي سلّط فيها الضوء بطريقته الخاصة على حوار كان الدكتور ناصر العمر أجراه مع موقع العصر الإلكتروني. <BR><BR>تمحورت فكرة مقالة الأستاذ العتيبي على قضية شبيهة بموقف قريبي المسن، مؤداها مطالبة الدكتور العمر بالتوقف عن الحديث بصراحة ووضوح ومباشرة عن ظاهرة "المنافقين" في المجتمع، وعن إثارة التساؤل عن رصيدهم من العلم والتجربة والعطاء ومن الأعمال والأقوال الإيمانية الظاهرة التي تشتهر بين الناس، وألا يدخل الدين ومصطلحاته في أتون المعركة الفكرية والسياسية.<BR>ولماذا هذه المطالبة بالتوقف؟! ببساطة لأن الوضوح قد يدفع بعض الشباب البسطاء لإساءة فهم الحديث ثم الوقوع في حبائل التفجيريين في المجتمع.<BR>ألا ترون معي أن الذي يطالب به الأستاذ العتيبي - دون قصد طبعاً – سيؤول بنا إلى تعطيل الفهم الصحيح للمصطلحات الشرعية وتطبيقاتها على الواقع، فقط لأنها تحرجنا وتكشف عيوبنا، وقد تدفع البعض للتهور.<BR>يعني: رجاءً لا تحرجونا ولا تكشفوا عيوبنا و"خلّونا على عمانا"، ودعوا المنافقين يخرقون في السفينة؛ لأن الحديث عنهم يثير أزمة، وقد يدفع لمواجهات.<BR>عجيب هذا المنطق الذي لا يختلف عن منطق الجيل السابق، لكن المفارقة أن الذي يحمله الآن هم من جيل الشباب، وممن تلقى تعليماً عصرياً وشرعياً في ذات الوقت، لكنه يلتقي مع جيل الكبار السابق المحدود التعليم، في قضية الحرج من الالتزام العملي الظاهر باختيارات فقهية يسندها الدليل أو من الشرح التفصيلي لحقيقة المفاهيم والمصطلحات الشرعية وربطها تطبيقياً بالواقع.<BR><BR>ألا تتفق معي أستاذ عبد الله أن تلك الأسئلة التي برزت في ذهن الشاب "المتدين" محمد ونقلتها مشكوراً بكل أمانة، هي أسئلة طبيعية مشروعة؟! أليس من حقه أن يعلم أن هذا القرآن وآياته والسنة وأحاديثها وسيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ وصحابته، تمثل بالنسبة لنا مرجعية ثابتة إلى قيام الساعة؟! و أليس من حقه أن يعلم ويفهم تطبيقاتها الواقعية حتى يهتدي بها في مسيرته وتفاعله مع مجتمعه المحيط به؟!<BR>أنا أجزم أنك ستتفق معي بحق في كل ذلك، لكنك تعترض على طريقة العرض المختصرة التي قد يساء فهمها.<BR>وهنا لا أعتقد أن أحداً يختلف معك في ذلك.<BR>ولنفترض جدلاً أن عبارات الدكتور العمر كانت كذلك، ولنتجاوز تقصُّدك لفقرة واحدة مبتورة من السياق العام.<BR>لكن دعنا نتساءل وبشيء من التجرد والأمانة التي أحوج ما نكون إليها في هذه المرحلة بعيداً عن التراشق والتجاذب.<BR>صناعة التكفير الذي عنونت للمقال بها، أتراها حلقة واحدة أم عدة حلقات في سلسلة طويلة مترابطة؟<BR>وهل يا ترى حجم الارتكاز والانطلاق في بناء هذه السلسلة يقع على حلقة في وسطها، وربما في آخرها أم على حلقاتها الأولى؟<BR>لعلك تدرك ما أرمي إليه...!!.<BR><BR>ولعلك تتفق معي أن الشريعة المطهرة جاءت بالعدل والواقعية، والمسؤولية تقع على من وقع في مظاهر النفاق، وعلى من سمح بارتفاع نجمها، لا على من تحدث عنها تعميماً لا تصريحاً، وأعاد التذكير بهذه الحقيقة الشرعية التي لا يمكن إنكار وجودها، أما سوء فهم وتطبيق الشباب فيمكن علاج ذلك بتوسيع تواصلهم مع العلماء، وتفعيل أدوارهم، وتنويع أنشطتهم ومؤسساتهم. <BR>وهذا يعيدنا إلى دور العالِم في المجتمع، هل دوره الحقيقي والشرعي من الممكن أن يختزل إلى مجرد كلام عام بين وقت وآخر أم أنه يحاصر في حدود معينة ترسمها له ليس فقط السلطة المحيطة به، بل حتى الفئات الفكرية والمذهبية المعاصرة له.<BR>يبدو لي أن من حق العالِم أن يتحدث عن النفاق؛ لأنه حقيقة واقعية وشرعية، وله أن يتحدث عنه بوضوح وبتحديد، لكن دون ذكر الأسماء كما هو المنهج النبوي.<BR>وهذا ما فعله الدكتور العمر، والمسؤولية في ظني لا تقع عليه، بل تقع في الأساس على ظاهرة النفاق التي استفحلت وأصبحت بالفعل ظاهرة، أما الأسماء التي أوردتها أخي الكريم، فهي من الإقحام الذي يذهب بنا عن جدية وموضوعية الحوار.<BR>وأخيراً أحسب أن الحكم على منهج أحد في أسلوبه التربوي والتعليمي لا يمكن أن يتم من خلال عبارات مختزلة، بل من خلال إنتاجه ومسيرته كلها.<BR><BR>وبالمناسبة فإن الكثير من متابعي الدكتور العمر أو غيره من إخوانه العلماء والدعاة المستقلين، ليرون في مسيرتهم العلمية والدعوية ثباتاً وانسجاماً وترابطاً في المواقف والاجتهادات، كما يصرون وبشيء من التحدي على صعوبة أن تجد ممن تورط في الأعمال التفجيرية أحداً من طلابهم القريبين منهم. <BR>أخيراً لا يفوتني أن أشكر للأستاذ العتيبي وضوحه وصراحته في تحميل الجميع مسؤولية صناعة العنف في بداية المقال، لكن أرجو أن يقبل مني دعوته للتأمل في أي الأطراف يتم تسليط الأضواء والمكبِّرات عليها، لكشف أو تضخيم مسؤوليتها.<BR>وأن يتساءل معي ألا يمكن أن يدفعنا هذا إلى الدوران في نفس النفق المظلم بدلاً من الخروج منه.<BR>وهل من الإجحاف في شيء لو طالبنا بتسليط متساوٍ للأضواء، وبتصوير موضوعي بعيد عن التكبير أو التضخيم لواقع كل الأطراف، ليعرف كل طرف مسؤوليته ويطالَب بالتغيير.<BR><br>