حكاية أم لكل الفلسطينيين
21 ذو القعدة 1424

مترجم - خاص بـ"المسلم"<BR>عن مجلة Prospect - عدد ديسمبر 2003م<BR><BR> في طريق عودتي إلى مكتبي بالقدس المحتلة في الثانية عشرة ظهراً، حيث كانت معظم المحال التجارية تغلق أبوابها، والأطفال في طريقهم للعودة من مدارسهم، وجدت عند المنعطف سيارتين عسكريتين بهما سبعة من جنود الاحتلال المدججين بالسلاح، كان بين أيديهم طفل معاق عقلياً، وكانوا يهزونه بعنف باتجاه الحائط ، وهم يصرخون في وجهه بلغة عربية ركيكة، أن لابد له أن يعترف بإلقائه الحجارة عليهم، ولأنه معاق كان الطفل لا يملك سوى البكاء المكتوم، فقد كان من الواضح أنه لا يستطيع الكلام.<BR><BR>في هذه الأثناء تجمعت نسوة الحي ومشت إحداهن بهدوء نحو الجنود، كان من الواضح أنها تجيد الإنجليزية.<BR>- لماذا تزعجون هذا الصغير، ألا ترون أنه معاق ولا يستطيع الكلام؟!... أخذت المرأة تكرر نفس المعنى بأكثر من طريقة لكن مع ظهور ابتسامة سخرية على وجهها في كل مرة تكرر فيها كلامها. ثم دخلت بقية النسوة دائرة الحوار بعد أن سرت بينهن همهمة التعليقات، وانهمرت الأسئلة على الجنود: "ما الذي تخافون عليه من طفل معاق؟ أليس عندك أطفال؟ هل تحب أن يعامل ابنك هكذا؟ أليس في صدوركم قلب يشعر حتى بالأطفال؟ ألا تعتقدون أننا بشر مثلكم؟". <BR>مع مرور الوقت أدار الجنود ظهورهم خجلاً - أو ربما خوفاً - وكأنهم ينأون بأنفسهم عما يحدث ، وهز البعض الآخر كتفيه عندما وجهت له النسوة الحديث وكأنه ينفي أية علاقة له بما يحدث.<BR><BR>كانت صورة المرأة - الأم وهي تحاول إنقاذ صبي يبن أيدي جنود الاحتلال المدججين بأعتى الأسلحة من الصور اليومية المتكررة للمرأة الفلسطينية أثناء الانتفاضة الأولى، ولهذا عرفت امرأة مثل أم كامل بـ "أم كل الفلسطينيين" ، كانت "أم كامل" ومثلها الكثيرات، تتدخل يوميا في مشاهد الضرب وتكسير العظام التي كانت ظاهرة من معالم انتفاضة عام 1987م.<BR><BR>وعادة ما تتدخل الأمهات في مثل هذه المشاهد بأكثر من طريقة. فأحياناً يقرعن الجنود، وأحياناً أخرى يرجمنهم بسيل من الشتائم، ومرات عديدة يوبخنهم، عاملات في كل الأحوال على هز مشاعرهم وتأكيد إحساسهم بالخجل مما يقومون به، مثل هذا النوع من التدخل من قبل الأمهات كان في هذه الأثناء يؤدي إلى عدة أشياء، منها أنها تشتت الانتباه مما قد يمكن الطفل من الهرب، كما أن الضوضاء والارتباك الذي عادة ما يصاحب حلقات النقاش هذه، غالباً ما يثير اهتمام مجموعات أكبر من المارين والسكان القريبين من موقع الضرب ليتحلقوا حول الجنود وهو يحاولون التدخل أيضاً. لكن الأهم من كل هذا، أن الأمهات يقرعن الجنود ويسبغن عليهم كل الصفات التي تدعوهم للخجل من أنفسهم، ويكشفن عن قيمهم الإنسانية المهترأة في مشهد درامي محكي أمام الجميع.<BR><BR>لذا فالأم الفلسطينية ليست شاهداً صامتاً، فقد تحولت هذه الشهادة إلى دور سياسي، فإذا ما زار المدن والقرى الفلسطينية أحد من الصحفيين أو الإعلاميين، فإن مثل هؤلاء النسوة ممن يغامرن بأمنهن لإنقاذ الأطفال، عادة ما يدعين ليقدمن ما عندهن من حكايات حول المعاناة والألم.<BR><BR>لقد تحول دور النساء اللاتي يتحلقن في مثل هذه المواجهات إلى عنصر ضاغط لنزع فتيل عنف الاحتلال وإرهابه، من خلال استخدامهن للسخرية والاستهزاء بالجنود، فعدم التوازن الصارخ في ميزان القوى المادية بين الطرفين يدعو للسخرية التي يجد فيها الفلسطينيون وسيلة لإعادة بناء منظومة القوى المعنوية لديهم، وهذه العملية يمارسها الرجال والنساء على حد سواء.<BR><br>