مشروع "الشرق الأوسط الكبير": مقدمات.. وتساؤلات
13 محرم 1425

تتركز الأضواء في هذه الأيام على المشروع السياسي والاستراتيجي والأمني الموسوم بـ"الشرق الأوسط الكبير"، الذي بشر به (رجل الحرب) الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في وقت شديد الحرج بالنسبة إليه، حيث يتعرض هو وإدارته القائمة على "الحروب الاستباقية" لأقسى الانتقادات داخلياً وعالمياً، سواء بسبب هشاشة الحجج المعلنة لاحتلال أفغانستان والعراق، أو بسبب عدم الصدقية في تحقيق وعودهم الانتخابية للشعب الأمريكي، ما أدى إلى انهيار شعبية الرئيس بوش إلى ما دون 50% وفق آخر استطلاعات الرأي العام هناك، خلافاًَ لما كان الأمر عليه بعد أحداث سبتمبر 2001م وما استتبعها من تكاتف قوي للشعب الأمريكي والتفاف حول زعامته السياسية. <BR>والواقع إن مصادر الشكوك في "مبادرة الشرق الأوسط الكبير" كثيرة وأكبر من الحجم الجغرافي لهذه المنطقة الشاسعة، الواسعة.. الضاربة الجذور في أعماق التاريخ والحضارة. <BR><BR>ويمكن إيجاز منابع الشكوك الأساسية بالنقاط الآتية: ‏<BR>- إن مصطلح "الشرق الأوسط" تعبير استراتيجي، جغرافي، استعماري المنشأ، لا يشير إلى وحدة جغرافية قائمة بذاتها، تتسم بالتجانس، بل هو مجرد مفهوم مصطنع، مفروض سياسياً وثقافياً وإعلامياً، والهدف من استنباطه معالجة مصالح القوى العظمى التي روجت له في كل من بلدان: تركيا، اليونان، قبرص، سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق، مصر، السودان، ليبيا، السعودية، الكويت، اليمن، عُمان، البحرين، قطر، محمية عدن (آنذاك)، إمارات الخليج، ثم تنامت الأحداث واتسعت الدائرة ليضموا إليها كلاً من تونس والجزائر والمغرب، ومن ثم أفغانستان وإيران وباكستان لاعتبارات ثقافية ودينية من جهة، فضلاً عن العامل الجيوسياسي من جهة أخرى.<BR>- بذلت عشرات المحاولات لتحديد المنطقة التي يشار إليها بهذا المصطلح استناداً إلى عناصر جغرافية وديمغرافية (بشرية) وثقافية وإيديولوجية، لكنها لم ترتق إلى المستوى العلمي والواقعي بسبب تضارب الأهداف والمنطلقات الإيديولوجية وغموض الدلالات، واضطراب الصياغات.. إلا أن الباحثين الغربيين الذين تصدوا لهذه الإشكالية ركزوا في معظمهم على وضع "إسرائيل" في "دول القلب"، التي تضم تبعاً لتقسيماتهم: الأردن، إسرائيل ، سوريا، لبنان، العراق، مصر. ‏<BR><BR> - رغم وجود الجامعة العربية منذ أكثر من نصف قرن، إلا أن التعامل مع العرب من جانب الغرب (أوروبا وأمريكا) كان دائماً على أساس "شرق أوسطي"، الأمر الذي جعل العرب يخضعون لمفهوم "الشرق أوسطية" منذ الحرب العالمية الثانية، بصورة أو بأخرى ،‏ ولا نجافي الحقيقة إذا ما أكدنا أن "النظام الشرق أوسطي" يشكل الضد لأية منظومة عربية متكاملة، سواء في المجال السياسي أم الاقتصادي أم الثقافي، ومما يؤكد هذا الاتجاه ما كشفته وثيقة أمريكية كانت صدرت في عام 1979م، وهي من وضع عدة وزارات وجامعات ومعاهد بحثية كبرى، تدور حول تصور للشرق الأوسط، يهدف إلى إقامة تعاون "بين دول المنطقة" يقف في مواجهة فكرة القومية العربية، ويتولى الدعوة لهذا المشروع، طبقاً للخطة الأمريكية، مجموعة "مختارة" من المثقفين العرب، وفي الجانب التنفيذي تطرح الوثيقة صيغة تفرض "إسرائيل" كشريك فعال في كل موارد "الشرق الأوسط" مع دوله وشعوبه.‏<BR> <BR>- بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية و"حلف وارسو" اختل التوازن الاستراتيجي في العالم، وتحولت الولايات المتحدة إلى القوة المقررة، وصبت المتغيرات والتفاعلات المستجدة في مصلحة التفرد الأمريكي، ومن ثم جعل الدول العربية أكثر قابلية للابتزاز والإرغام في الالتزام بالتوجهات الأمريكية وبتوقيع اتفاقيات السلام مع "إسرائيل"، وحددت إدارة كلينتون رؤيتها للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة على الأسس الآتية:<BR> ‏ أ. احتواء مزدوج لكل من إيران والعراق. ‏ ب. الالتزام بالحفاظ على تفوق "إسرائيل" النوعي. ‏ ج. تعزيز تطوير المنطقة باتجاه "الديمقراطية". د. تعزيز اتفاقيات السلام العربية - الإسرائيلية، بما يبقي "إسرائيل" قوية وشريكاً أساسياً لأمريكا في المنطقة. ‏<BR><BR>- روجت "إسرائيل" للنظام "الشرق أوسطي من خلال مستويين، أحدهما: فكري، والآخر رسمي، وربما كان الأب الشرعي للفكرة هو تيودور هرتزل، الذي طرح فكرة إنشاء "كومنولث شرق أوسطي"، وكان المنظر الصهيوني جابوتنسكي من أوائل الزعماء الصهاينة الذين نادوا بفكرة "المشروعات الكونفدرالية" لمنطقة "الشرق الأوسط"، ‏ ولا يتسع المجال لجرد الأفكار والتصورات الصهيونية بخصوص "الشرق أوسطية"، بدءاً من أطروحات بن غوريون، وأرنست برجمان، وشيفر، وديفيد هوروفيتز، مروراً بكراس "الشرق الأوسط عام 2000م"، الذي وضعته مجموعة أكاديميين صهاينة، وصولاً إلى كتاب شيمون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"، في أبعاده السياسية والسياحية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وجملة المشاريع التي تضمنها في إطار ما سماه "التعاون الإقليمي لتنمية البنية الأساسية لدول المنطقة". ‏<BR><BR>- بعد احتلال أفغانستان والعراق، اشتدت هجمة المبادرات على المنطقة، دون أن يكون للعرب والمسلمين دور في صياغتها أو توجهاتها، بل تم تجاهل المبادرة العربية للسلام، التي تبنتها قمة بيروت العربية، وبدأت الأحاديث والخطابات والتصريحات الأمريكية تتضخم حول "دمقرطة المنطقة"، ثم تنامت لتصل إلى مستوى التهديدات المباشرة بفرض الديمقراطية وأنماط الحكم، بما يتفق مع الرؤية الأمريكية للمحافظين الجدد حول "استئصال جذور الإرهاب"، و"خلق البيئة الديمقراطية الملائمة لمسارات التنمية الأساسية: الاقتصادية والتكنولوجية والإعلامية". ‏ <BR>- " الشرق الأوسط الكبير" مشروع قررت مرتكزاته ومنطلقاته وأهدافه الأساسية الولايات المتحدة بالتنسيق والتشاور والتفاهم مع كل من "إسرائيل" والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وستناقش تفصيلاته في ثلاث قمم تنعقد في شهر يونيو القادم تباعاً، هي قمة الدول الصناعية الثماني في"سي آيلاند" (أتلانتا) في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي في بروكسل (بلجيكا)، و"الناتو" في استنبول ،‏ وقد حددت واشنطن حيزه الجغرافي من أقصى شمال أفريقيا وصولاً إلى عمق آسيا، حيث يشمل المغرب ثم يمتد شرقاً إلى الجزائر، ومصر، وبلاد الشام، والعراق، والخليج، والجزيرة العربية، وإيران، وتركيا، وأفغانستان، وجمهوريات آسيا الوسطى، وباكستان، وإندونيسيا.. أي أنه يشمل العالم الإسلامي كله تقريباً. <BR><BR> - إن أخطر نقطة مثيرة للشكوك والتساؤلات في أهداف مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، تتمثل في تجاهله المتعمد لجوهر المشكلة ومنبع التفجرات في المنطقة، وهي القضية الفلسطينية، الناتجة عن زرع الغرب للكيان الصهيوني في أرض فلسطين العربية الإسلامية، والتهجير الجماعي لملايين الفلسطينيين، ورفض "إسرائيل" الالتزام بأي من قرارات الشرعية الدولية، سواء المتصلة بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، أو ما يتعلق منها بانسحاب قوات الاحتلال الصهيوني من الأراضي العربية المحتلة، والعودة إلى حدود الرابع من يونيو 1967م، إضافة إلى اعتداءات "إسرائيل" الدائمة على البلدان العربية، وامتلاكها ترسانة ضخمة من أسلحة التدمير الشامل، وفي مقدمتها الأسلحة النووية، وتهديداتها المستمرة لهذا البلد أو ذاك، ورفضها التوقيع على اتفاقية حظر الأسلحة النووية أسوة بدول المنطقة، فليس من المعقول والممكن إقامة منظومة واسعة في التكامل الاقتصادي والعلمي من دون حقوق الشعب العربي الفلسطيني، التي كفلتها المواثيق الدولية، ومن دون حل عادل وشامل ومتوازن للصراع العربي - الإسرائيلي. <BR> - لم يستشر أهل "الشرق الأوسط الكبير" حكاماً ومحكومين، ولم يؤخذ بالحسبان تاريخ الشعوب وثقافاتها وتقاليدها وواقعها وتنوعها الحضاري والسياسي والديمغرافي والاقتصادي ، ورغم تبجح واضعي "المشروع" بديمقراطيتهم واحترامهم لآراء الشعوب وثقافاتها وتوجهاتها، إلا أنهم نصبوا أنفسهم "رعاة" يسوقون الناس بالعصي والصواريخ _إن لزم الأمر_ إلى "جنات الديمقراطية" الموعودة، وإخضاع مجتمعات "الشرق الأوسط الكبير" إلى "إعادة التربية"، أو لـ "عمليات جراحية" عاجلة لتخليصها من "جينات" الكرامة والتمسك بالقيم التراثية والدينية والروحية، التي لا تتلاءم مع خطط "الشرق الأوسط الكبير" وأهدافه العظيمة! ‏<BR><BR> - ما تقدم يشير إلى أن العرب والمسلمين مدعوون اليوم للنهوض وتجاوز أوضاعهم المتخلفة، التي ركزت عليها التقارير الدولية المتخصصة، والتي تشكل إحدى الذرائع المعلنة لتدخل الاستعمار الجديد، والبحث عن حلول عملية تحافظ على الهوية الوطنية والتراث القومي، وتماسك شعوب المنطقة في وجه المخططات التفكيكية المرسومة في مراكز الأبحاث السياسية والاستراتيجية، ودوائر المصالح الاحتكارية الكبرى.. ومن ثم تجاوز أساليب الشجب والاستنكار إلى البحث والتحليل ودراسة "المشاريع" و"المبادرات" المطروحة لمعرفة عناصرها البنيوية ونقاط ضعفها وقوتها، والمباشرة بوضع استراتيجية عملية بديلة، من شأنها القيام بإصلاحات ذاتية شاملة، وبالنهوض المجتمعي.. الذي يمكن أن يحول "الشرق الأوسط الكبير" إلى درع حضاري صلب، وليس إلى جسد جغرافي - اقتصادي، شديد الهشاشة والضعف، والقابلية للاختراق والتحطيم والتمزيق. ‏<BR><br>