نظرة واقعية على تقارير التنمية البشرية العربية
30 محرم 1425

أثارت تقارير التنمية البشرية جدلاً واسعاً بين مختلف أطياف الفكر والسياسة والنخب المنظرة، والقيادات الدينية، والقواعد الشعبية في البلدان العربية، ومما رصده المراقبون فيما يخص تقرير التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002 و2003م أن التقرير الأول قدم كشفا بمعوقات التنمية في البلدان العربية المتخلفة عن بقية دول العالم، وتضمن التقرير الثاني كشفاً بالحلول. </br> والناظر المتبصر في التقريرين يكتشف معضلة ليس لها حل داخلي في البلدان العربية، وإنما يتطلب الأمر تدخلاً خارجياً قد يكون مدمراً ؛ لأنه سيضع البلاد العربية تحت الوصاية الخارجية، وذلك للأسباب التالية: </br> </br> 1- إن الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية هي المسؤولة عن صنع هذا الواقع الفاسد جراء انتشار المحسوبية والفساد المالي، وسيطرة الأحزاب الشمولية التي أفرغت بعض البلدان العربية من القوى الفكرية الخلاقة جراء القمع والديكتاتورية. </br> 2- إن شعوب الدول العربية عاجزة عن القيام بدور الإصلاح ؛لأنها مجردة من جميع الوسائل التي تستدعيها عملية الإصلاح في ظل سيادة الأنظمة العسكرية التي تتعامل مع الشعوب كما تتعامل مع العساكر الأغرار. </br> 3- انعدام الثقة بين الأنظمة الحاكمة والقوى الشعبية في البلدان العربية نتيجة التجارب الماضية التي حولت الفريقين إلى جناحي صراع تناحري يقوم على الشك المتبادل الذي قام على مبدأ "كل مواطن متهم حتى يثبت العكس"، و" كل رجل حكومة متهم حتى تثبت براءته". </br> 4- عدم وجود انتخابات حرة نزيهة تفتح المجال أمام قيادات تشريعية منتخبة . </br>وهذا الواقع العربي المريض يفتح الباب واسعاً أمام الطبيب الغريب الذي قد يستخدم الكي باعتباره آخر الدواء، وربما يستخدم السم أو ما يسمى بالقتل الرحيم الذي أقرته بعض الدول الغربية للتخلص من ذوي العاهات المزمنة. </br>والوضع العربي الراهن هو وضع مأزوم، ومحشور في سياق غير طبيعي من الناحية الفكرية، حيث تفرض عليه مصطلحات لم يساهم في بلورتها، ومن المعلوم أن الفكر الإنساني يتمخض عن مصطلحات تدخل قواميس المعرفة، ثم تنمو بما يرفدها به المفكرون من آراء متنوعة، وتتعرض بعض المصطلحات للابتذال جراء استعمالها في غير محلها الذي وضعت له ابتداء، ومن المصطلحات المحدثة مصطلح "التنمية البشرية" الذي تطور إلى مصطلح "التنمية الإنسانية"، وقد برز المصطلحان بعد صدور التقارير الخاصة بهما ابتداء من عام 1990م، وذلك بعد تبني برنامج الأمم المتحدة للمصطلح، وقد تأخرت بلورة هذين المصطلحين رغم أن التنمية سمة بشرية وإنسانية ملازمة لتطور وتطوير العمران العالمي الذي بدأ منذ بدء الخليقة حيث أوكل الله _سبحانه وتعالى_ مهمة إعمار الأرض إلى آدم _عليه السلام_.<BR>ولكن لنا مآخذ على المصطلحين المتداولين حالياً، وذلك لأنهما يتجاهلان الأسس الروحية والمعنوية التي راعتها الشرائع السماوية، ويقومان على أسس مادية بحتة قوامها أن "البشر هم الثروة الحقيقة للأمم، وأن التنمية البشرية هي عملية توسيع خيارات البشر"؛لأنها تمتد إلى الاستمتاع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان، والمساهمة الفاعلة في النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ولذلك صارت التنمية البشرية توجهاً إنسانياً للتنمية الشاملة المتكاملة، وليست مجرد تنمية موارد بشرية فحسب.<BR>وتقارير التنمية البشرية "الإنسانية" بنت المصطلح على اعتبار أن البشر هم الثروة الحقيقية للأمم، وأن التنمية الإنسانية هي توسيع خيارات البشر، وهذا يعني أهمية مركزية الحرية في جميع مجالات التنمية الإنسانية جراء التلازم بين التنمية والحرية، وقضايا وموضوعات الإنفاق العام على التنمية الإنسانية وعلاقته بالنمو الاقتصادي والاجتماعي، وما يندرج تحت ذلك من قضايا الفقر والبطالة والصحة والتكنولوجيا وغير ذلك من الأمور المؤثرة في مجالات التنمية الإنسانية على أمل التمكن من التوصل إلى مستويات راقية في كافة مجالات تحقيق الرفاه الإنساني، وما يلزم لذلك من الرعاية واكتساب المعرفة والحرية من مصادرها دون إعاقة أو تعطيل.<BR>وتدقيق النظر في هذه الحيثيات التي بني عليها المصطلحان يكشف لنا ثغرات واسعة، حيث لا نجد موقعاً للشريعة في أهداف التقارير التي كتبت في مجالات التنمية البشرية الإنسانية، ولذلك نستطيع القول: إن هذين المصطلحين لم يبلغا درجة من درجات الحدود "الجامعة المانعة" التي تجمع مقومات الحد، وتمنع ما ليس منه من الدخول فيه، ولذلك يبقى المصطلحان في الحالة الراهنة مبهمين ينقصهما الوضوح المطلوب لمنع الالتباس، وطالما أن حالة الالتباس قائمة، فإن أبواب التشكيك بما ينطويان عليه تبقى مفتوحة أمام الشك والريبة.<BR>وهذه الحالة الضبابية لم تقتصر على ما وفد إلينا من خارج العالم العربي، بل نجد لها روافد محلية مقلدة للمصطلحات الوافدة، وفي هذا الإطار التحقت الدول العربية بركب تقارير التنمية، إذ أصدرت تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002م للمرة الأولى، وعقدت حوله ندوات عديدة وحوارات وحلقات نقاش تناولت مختلف جوانبه واستنتاجاته، وفي نهاية نوفمبر 2003م صدر التقرير الثاني للتنمية الإنسانية العربية بعنوان: "نحو إقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية" عن برنامج الأمم المتحدة والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وقد ساهمت في إعداد التقرير مجموعة من الباحثين والأكاديميين والكتاب العرب، وكانت المشرفة الرئيسة على التقرير الدكتورة/ ريما خلف (نائبة رئيس الوزراء، ووزيرة الصناعة سابقاً في الأردن)، وبين المشاركين في إعداد التقرير نادر فرجاني، وميلاد حنا، وكلوفيس مقصود، وغيرهم الكثير من الباحثين المعروفين على مستوى الوطن العربي.<BR>والمدقق في سجلات الباحثين في صناعة التقرير يجد غياب قوى الفكر الروحي الشرعي في ظل حضور كثيف لأصحاب التوجهات التغريبية الذين أنتجتهم الأنظمة العربية المعارضة للتوجهات الشرعية الحقيقية.<BR>والأنظمة العربية تتحمل مسؤولية استبعاد علماء التشريع، حيث قصرت نشاطاتهم على حيز ضيق يقتصر على تبرير مخالفات الأنظمة الحاكمة للأحكام الشرعية، ومنعتهم من المجاهرة بآرائهم المؤيدة لحقوق المرأة الشرعية، وحريتها وتوسيع نطاق قدرتها على المعرفة، واعتبرت الأنظمة العربية أن دور الفقهاء ليس له علاقة بالسياسة وإدارة الحكم، ودعوى فصل الدين عن الدولة تشكل سداً منيعاً في وجه المجتهدين، وتتذرع الأنظمة بأن إفساح المجال أمام رجال الدين سيؤدي إلى سيطرتهم على الحكم، وتعزيز مواقع الإرهاب المزعوم.<BR>ولدى رصد ظاهرة تقارير التنمية البشرية نجد أنها حظيت باهتمام عالمي أسفر عن الكثير من الدراسات النقدية السلبية والإيجابية، وتفاوتت الرؤية الفكرية من بلد إلى آخر لأسباب اقتصادية أو دينية أو جغرافية أو سياسية، وخرجت بعض البلدان والمنظمات الإقليمية بتقارير موازية أو معارضة للتقارير الصادرة عن الأمم المتحدة، وقد ترتب على نشر تقارير التنمية البشرية العالمية إصدار أكثر من 260 تقريراً وطنيا للتنمية البشرية في أكثر من 120 بلداً، وأصبحت التقارير مستودعات للبيانات المبتكرة وأدوات لمناصرة قضايا التنمية. <BR>مشكلة المشاكل في البلدان العربية أننا نسير بوتيرة بطيئة، والعالم يواكب عصر السرعة، ويستفيد من الثورة التكنولوجية، ولذا فقد سبقتنا الأمم، ومن المعلوم أن اللاحق يتحمل غبار السابق في ميادين السباق، ولكي يتخلص من الغبار عليه أن يتولى زمام المبادرة، ويتقدم في ميادين السباق، ونحن إما أن نتقدم بجهودنا العامة المشتركة، وإما أن نقبل ما يفرضه علينا الآخرون، والحياة صراع مستمر بين الخير والشر، والخلاص مرتبط بالعدل والعلم "من كل أحد لكل أحد في كل زمان ومكان" حسبما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية الذي توفي عام 728هـ.<BR>وعلينا أن نوسع دائرة أهل الحل والعقد بشكل شرعي، وأن نخرج من حلقة أولي الأمر الضيقة المنافية للشريعة التي أفسحت المجال لجميع القوى الفعالة في المجتمع، فقد رأى الإمام ابن تيمية أن أهل الحل والعقد هم الذين أشار إليهم القرآن بـ "أولي الأمر" في قول الله _تعالى_: "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (النساء: من الآية59)،. ورأى ابن تيمية: أنهم "الأمراء نواب ذي السلطان، والقضاة، وأمراء الأجناد، وولاة الأموال، والكتاب، والسعاة على الخراج والصدقات"، أي أنهم يشملون كل من يلي أمراً من أمور المسلمين، وهذا المفهوم هو ما نحتاجه اليوم لكي نتحرر من مفهوم "الصفوة النخبوية"، وننتقل إلى التسلسل في الولاية كي نتمكن من وضع القرار بمفهومه الشامل في كل جانب من جوانب الدولة المعاصرة، وهذا هو الضمان الوحيد لكي نتحرر من المصطلحات الوافدة، والحلول الجاهزة لمشاكلنا التي نحن أخبر بها من غيرنا.<BR><br>