لماذا رفض الفرنسيون الدستور الأوروبي الموحّد؟!
23 ربيع الثاني 1426

تعكس نتائج الاستفتاء الفرنسي حول الدستور الأوروبي الموحّد حجم الإحباط الذي ألمّ بالفرنسيين من مشروع أوروبا الموحدّة ولأجل ذلك صوّتت الأغلبية الفرنسية بلا للدستور الأوروبي الموحّد الأمر الذي سيعرقل التكامل الأوروبي على الصعيد السياسي والاقتصادي باعتبار أنّ فرنسا تشكّل قطب الرحى في المجموعة الأوروبية وتتمتّع بثقل سياسي كبير داخل المجموعة بل تعد أهم لاعب ومهندس في الاتحاد الأوروبي.<BR><BR>والأكثر من ذلك فإنّ الدستور الأوروبي يحمل لمسات فرنسية واضحة. والفرنسيون الذين رفضوا الدستور الأوروبي الموحّد هم أنفسهم من قبل بمشروع الاتحاد الأوروبي والعملة الموحدّة في وقت سابق – اليورو-، فماذا حدث حتى يخرج الفرنسيون عن هذا المسار وينزلون من قطار الوحدة الأوروبية ويتركون رئيسهم جاك شيراك لا يعرف أي قبلة سيولّيها وجهه!<BR><BR>الواقع أنّ الفرنسيين الذين أعطوا صوتهم في البداية للعملة الأوروبية الموحدة ومشروع الاتحاد الأوروبي بشكل عام كانوا يتوقعون أن يؤدي ذلك إلى مساعدتهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً واستراتيجياً، وأن يعالج كل مشكلاتهم التي ظلوا يتخبطون فيها منذ عقدين تقريباً.<BR><BR>والذي حدث فعلياً أنّ ذلك زاد في مراكمة مشاكلهم، فالبطالة تفاقمت والغلاء الفاحش تزايد بشكل مدهش مع بداية استخدامهم للعملة الأوروبية الموحدة وفقد اقتصادهم العديد من الأسواق في الداخل والخارج بحكم تحرير الحدود في وجه كل البضائع الأوروبية.<BR><BR>وأدرك الفرنسيون أنّ حكومتهم باتت تحمل الهمّ الأوروبي أكثر من الهمّ الفرنسي الداخلي، وباتوا مستاءين من السعي الحثيث من حكومتهم لمعالجة ملفات الاتحاد الأوروبي على ملفات الداخل الفرنسي، بالإضافة إلى ذلك فإنّ كل الأحلام والوعود والرؤى المستقبلية البراقة واللامعة والتي تحدث عنها (الرئيس الفرنسي) جاك شيراك ومهندسو الوحدة الأوروبية في فرنسا قبل انضمام فرنسا إلى العملة الأوروبية الموحدة اليورو قد تبخرّت ولم يتحقق منها شيء على الإطلاق.<BR><BR>وعندها بدأ الفرنسيون الذين يشعرون بكثير من الاعتزاز بثقافتهم وفكرهم وحضارتهم وشعرهم أنّهم يفقدون شيئاً فشيئاً هذه الخصوصية الفرنسية، ولذلك نما لديهم الوعي الوطني مجدداً وقرروا العودة إلى جغرافيتهم وتسييجها من الخارج الأوروبي حتى لو كان هذا الخارج يشبههم في بعض أو في كثير من التفاصيل.<BR><BR>بالإضافة إلى ذلك فقد أصبح الفرنسيون ينظرون بكثير من الاستياء والتقزز إلى الجرائم المنظمّة من قبل السطو المنظّم وتجارة الرقيق الأبيض وما إلى ذلك من الجرائم التي حملها رعايا دول أوروبا الشرقية سابقاً والذين باتوا لا يحتاجون إلى تأشيرة لدخول فرنسا، وهناك وجدوا المناخ مواتياً لاقتراف ما تعودوا عليه في بلادهم من جرائم كبيرة، وهو الأمر الذي جعل الفرنسيين يحنون إلى المرحلة الماضية عندما كانت فرنسا محرومة على هؤلاء وغيرهم. <BR><BR>كما أنّ الفرنسيين كثيراً ما يذكرون عهود الفرنك الفرنسي بكثير من الحنين والاشتياق، ويقولون: إنّ اليورو جلب معه الفقر والغلاء إلى فرنسا، حيث ارتفعت أسعار البضائع بشكل مدهش الأمر الذي قضّ مضاجع الفرنسيين الذين يفكرون في قطعة اللحم وليس في كسرة الخبز عادة. <BR><BR>وحسب الشارع الفرنسي فإنّ فرنسا لا يمكنها أن تحمل الهم الأوروبي على كتفها، ولا يمكنها أن تضيف إلى أعبائها الداخلية أعباء القارة الشقراء، وقد سجلّ هذا الشارع انصراف حكومته عنه إلى هموم أخرى لا تعني الفرنسي وتحديداً في لقمته، حيث تعد مناط حياته، فعندما كان هذا الفرنسي يعتقد أنّ مشروع الاتحاد الأوروبي سيعضد لقمته ويحميها صوتّ بنعم لصالح هذا المشروع، وعندما اهتزّ اعتقاده هذا بما أعقب دخول فرنسا في العملة الموحدة اليورو بدأ اعتقاده يهتز، ولذلك راح هذا الفرنسي يحن إلى المرحلة السابقة إلى مرحلة فرنسا بدون أوروبا. <BR><BR>بالإضافة إلى ذلك فإنّ النزعة الوطنية طغت بشكل كبير في فرنسا وقد غذّاها العديد من المثقفين والمفكرين والسياسيين الذين راحوا يتحدثون عن الغول الأمريكي والتابع البريطاني له، وبالتالي الغول الأنجلوسكسوني، وعن الهتلرية الصناعية والاقتصادية الجديدة في ألمانيا هذا وغيره ولدّ ما يسمى بالأصولية الفرنسية أو العودة إلى أحضان الثقافة والحضارة الفرنسية التي يجب أن تكون بمثابة السيّاج الذي يحمي فرنسا من الذوبان في العولمة الزاحفة وتوابعها. <BR><BR>والفرنسيون برفضهم للدستور الأوروبي الموحّد إنما رفضوا الروح والدينامو الذي سيقوم عليها الاتحاد الأوروبي وبرفضهم وجهوا ضربة قاصمة لهذا الاتحاد الأوروبي، وبالتالي لسياسة (رئيس بلادهم الديغولي) جاك شيراك الذي ربط مسلكيته السياسية وأداءه السياسي بمشروع الاتحاد الأوروبي، حيث ما فتئ ينظّر له وكان من أشدّ المتحمسين للدستور الأوروبي الموحّد القائم على الخصوصية لأوروبية دون الأخذ بعين الاعتبار الأقليات المسلمة في الغرب. <BR><BR>وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المسلمين الفرنسيين لعبوا دوراً كبيراً أيضاً في رفض هذا الدستور الأوروبي الموحدّ الذي تجاهلهم وتجاهل وجودهم وثقافتهم بل تجاهل وجود ثلاثين مليون مسلماً في الغرب.<BR>وتعد نتيجة الاستفتاء الفرنسي أكبر امتحان لـ(الرئيس الفرنسي) جاك شيراك، والذي دعاه شعبه وخلال رسالة واضحة إلى الإهتمام به وبمشاكله الاقتصادية والاجتماعية والكفّ عن لعب دور الديناصور في أوروبا. <BR><BR>وعلى الرغم من أن (الرئيس الفرنسي) جاك شيراك أعلن أنّه سوف لن يحيد عن التزاماته الأوروبية إلاّ أنّه وبالتأكيد لا يمكنه أن يمضي في هذه الالتزامات بنفس الحماس والانطلاق الذي كان عليه قبل الاستفتاء، حيث دعا شعبه في كلمة تلفزيونية إلى التصويت بقوّة لصالح الدستور الأوروبي الموحّد، وذهب إلى حدّ ربط مستقبل فرنسا بمستقبل أوروبا، لكنّ الشارع الفرنسي ردّ عليه بأنّ فرنسا للفرنسيين ومستقبل فرنسا يبدأ من فرنسا وليس من أوروبا.<BR><br>