الفتنة: رسم خارطة عراق ما بعد الانسحاب
30 محرم 1427

البادي من ظاهر الأحداث الأخيرة في العراق،أن ما جرى كان توتراً بين السنة والشيعة أو فتنة حسب وصف آخر، وأن التوتر أو الفتنة -أياً كان التوصيف -نجمت عن عملية تفجير لمواقع مقدسة لدى الشيعة سببت حالة انفجارية شعبية مثلت ذروة لردود الفعل السابقة التي جرت من قبل بسبب العمليات التي وقعت خلال الاحتفالات والمهرجانات الخاصة بالشيعة منذ بداية الاحتلال وحتى لحظة التفجير الأخيرة.<BR>وفى تفسير ما يجرى، فإن هناك من رآها جرت بأيدي "البعثيين والتكفيرين" كما أشار مقتدى الصدر، وهناك من رأى أن المستفيد منها وبالترتيب هم الأمريكيون والتكفيريون والصهاينة حسب ترتيب حسن نصر الله (زعيم حزب الله)، وهناك من رآها محاولة إيرانية لتوتير الأجواء في العراق لحشد الشيعة إلى صفها على الصعيد العملي باعتبارها مصدر الحماية لهم من الآخرين، وهناك على الجانب الأخر من رآها عملية دبرتها قوات الاحتلال وأجهزتها المتخصصة في مثل هذه الأعمال القذرة ،كما أن ثمة من رآها رد من بعض الإسلاميين على الدور الذي لعبته وتلعبه بعض الرموز الشيعية في التعاون مع الاحتلال وفى تقديم الغطاء السياسي والإعلامي والشعبي له ،ومن تسهيل سياسي له في اعتداءاته على السنة والمقاومة، كما اعتبرها آخرون رد على التصفيات التي تقوم بها فرق الموت التي تشكلت في وزارة الداخلية "العراقية" من قوات بدر وغيرها من الميليشيات الشيعية .<BR>غير أن البعد الغائب ،هو أن ما جرى استهدف رسماً لخارطة القوى والعلاقات والتوترات والأحداث في العراق ما بعد الانسحاب وأن الأحداث جاءت كمحاولة لتحديد أنماط الاصطفافات والصراعات في عراق ما بعد الاحتلال خلال وجود الاحتلال وتحت سيطرته وإشرافه حتى إذا ما انسحبت القوات العسكرية لا تتغير الخرائط السياسية وإنما تظل ضمن أهداف الاحتلال حتى مع الانسحاب .وهو ما يمكن فهمه من الإجابة عن السؤال الغائب في التحليلات الجارية، وهو: لماذا جرى ما جرى في هذا التوقيت بالذات ؟<BR>المتابع للأحداث في المرحلة الأخيرة يمكنه ببساطة ووضوح أن يرى ثلاثة خطوط في أحداث ما قبل التفجير الذي تبعه عمليات قتل عشوائية إجرامية وتدمير مساجد واستيلاء على بعض آخر .كان الخط الأول في تطور الأحداث هو خط التصعيد الإيراني ضد بريطانيا وأمريكا من خلال العراق وبشكل خاص من خلال جنوب العراق ،حيث شهدت الأيام السابقة لعملية التفجير ولأول مرة مطالبة إيرانية على لسان وزير الخارجية بسحب القوات البريطانية من جنوب العراق باعتبارها مسؤولة عن عمليات التفجير التي جرت في إيران وكذا شهدت هذه المدة تحليلات موسعة حول ما ينتظر القوات الأمريكية من متاعب إذا جرت مواجهة مع إيران قبل الانسحاب ،وهنا جاء التفجير والفتنة كمحاولة لإدخال الشيعة في صراع داخلي مع السنة لإضعاف مساهمتهم في حل مشكلة النظام الإيراني مع الغرب حول البرنامج النووي الإيراني أو لإضعاف استخدام إيران لهذه الورقة، والخط الثاني في تطور الأحداث يتعلق باشتداد الصراع بين الفئات المتعاونة مع الاحتلال على تشكيل الحكومة العراقية الدائمة التعاون مع الاحتلال، وهنا جاء التفجير لتقليل حالة التفجر حول تشكيل الحكومة من جانب ولترتيب علاقات القوى في داخلها وفق ما يراه "المستعمر" الذي يستهدف بإلحاح إشراك بعض الممثلين الشكليين والضعفاء باسم السنة لشق وحدتهم ولتوسيع قاعدة المتعاونين مع الاحتلال .غير أن الخط الثالث في تطور الأحداث والاهم كان تمثل في تراجع التأييد في أوساط جماهير السنة العرب لفكرة التعامل مع الوضع الراهن من خلال العملية السياسية ،بعدما زورت الانتخابات وظهر خطأ من فكروا في اللحاق بها، وهنا جاء التفجير مرتبطاً وعلى الفور بالهجوم الإجرامي على منزل الشيخ المجاهد حارث الضاري (رئيس هيئة علماء المسلمين) باعتبار الهيئة كانت العنوان العلني الرافض لدخول مساومات سوق النخاسة في العملية السياسية وحتى لا تصب توترات المرحلة كلها في صالح الموقف المقاوم .<BR>ولفهم تأثير خطوط تطور الأحداث تلك على صناعة هذا الحدث ،يجب أن نتذكر الخطوط والاتفاقات الاستراتيجية التي حكمت الأحداث منذ التحضير لغزو العراق واحتلاله وما بعد الاحتلال ،وكذا ما آل إليه وضع الاحتلال الآن ،حتى نتمكن من وضع الحدث ضمن خطوط الاتفاق والصراع الثابتة وبين الاحتمالات المستقبلية .على صعيد الخطوط الثابتة للصراع يجب أن ندرك أبعاد حالة التوافق والاتفاق الإيراني الأمريكي على تغيير نظام الحكم في العراق ، والمعادلة التي حكمت الأوضاع على الأرض في العراق ما بعد الاحتلال من إعطاء الشيعة والأكراد المشروعية للاحتلال والتعاون معه ضد "سيطرة السنة على الحكم " وضد المقاومة الوطنية -التي تسعى إلى نظام حكم إسلامي وطني –وذلك في مقابل تسليم الأمريكان الحكم لهم .وعلى مستويات الاتجاهات المستقبلية فيجب أن نضع في الاعتبار، أن مشروع الاحتلال فشل وأن القوات في طريقها للرحيل من العراق .<BR>وفى ضوء الخطوط الثلاثة لحالة الصراع الراهن أو للأحداث التي جرت قبل الحدث وأصبحت خلفيات له وبالرجوع إلى الأسس التي جرى على أساسها مشروع الاحتلال والحلفاء، وكذا بالنظر إلى قرب انسحاب قوات الاحتلال، فإن الحدث جاء أمريكياً ضمن خطة استراتيجية لـ "تأديب " للسنة الذين يتطلعون إلى حكم العراق بعد انسحاب قوات الاحتلال كما جاء كمحاولة جديدة لحرف جهود المقاومة العراقية ودفعها للانزلاق في صراع داخلي أو للتحول إلى ميليشيا طائفية بدلاً من كونها مقاومة وطنية إسلامية في مواجهة الاحتلال وحتى لا تكون القوة الجاهزة للسيطرة على الأرض والسلطة ما بعد الانسحاب، وذلك من خلال استدعاء لقوة الشيعة المتعاونة مع الاحتلال في الضغط على السنة شعبيا و عسكريا وعلى الأرض كقوة مضافة إلى قوة وقوات جهاز الدولة العميل ،كما جاء الحدث لتحويل الرموز الشيعية المتعاونة منذ بداية ترتيب مشروع الاحتلال في الخارج إلى رموز شعبية على حساب قوى أخرى رفضت التعاون مع الاحتلال، كما أن الحدث جاء أمريكياً وعلى المستوى التكتيكي استدعاءً للسنة لإحداث التغيير المطلوب في أوساط الشيعة من صرفهم عن المساهمة في معركة إيران من خلال ارض العراق أو لدفعهم إلى الصراع الداخلي، وهو ما استفز إيران والقوى المرتبطة بها، وجعلها تسعى إلى تضخيم الحدث وتوسيع ردود الفعل عليه (كما جرى في حشد حزب الله لأنصاره وجماهيره في بيروت للرد على الحادث )،إذ أدركت إيران مغزى ما يجرى كما هي أدركت أن الحادث يستهدف في ثناياه تقليلاً لنفوذ المرتبطين بإيران في لعبة الحكم في العراق، كما صعدت إيران موقفها ودورها في الحدث كضربة استباقية للتطورات والتغيرات المتوقعة عند انسحاب القوات الأمريكية حتى لا يعود العراق مرة أخرى إلى مواقفه السابقة حسب المقولة الإيرانية لن نسمح بعودة العراق إلى ما كان عليه الحال من قبل .أي: أن الحدث كان الجوهر فيه هو صراع ضد قوة السنة العرب، وبشكل خاص كان محاولة جدية لدفع المقاومة الموجهة ضد الأمريكيين إلى الحالة الداخلية، واستدعاءً للقوى العراقية بعضها ضد بعض لتتشكل على أرض الواقع خارطة ومعالم قوة القوى السياسية في العراق وتحت سيطرة الاحتلال وقبل انسحابه، ليأتي الانسحاب ليس فقط تحت غطاء "الحرب الأهلية" ولكن أيضاً لتكون مرحلة ما بعد الانسحاب محققة لأهداف استراتيجية الاحتلال نفسها ولكن بطرق وآليات أخرى .<BR><font color="#0000ff">رد المقاومة </font><BR>إذا كان المتوقع أن تصدر المخابرات الأمريكية بيانا تنسب فيه عملية المرقد لقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين كما حدث من قبل عدة مرات، فإن ما يجب التنبيه إليه هو أن الفاعل أعلن عن نفسه قبل وقوع الحدث وفى أثناء وقوعه وبعد وقوعه أيضاً .<BR>الفاعل صرح قبل يوم واحد من أحداث الفتنة بأنه لن يسمح بأن يتولى وزارتي الداخلية والدفاع أحد من الطائفيين ،(راجع التحليل المتميز للأستاذ أمير سعيد في "المسلم" تحت عنوان "حبكة غير فنية لتفجير القبة الذهبية") فيما اعتبر تمهيداً للفتنة في تكرار لسيناريو التمهيد للحدث من قبل قوات الاحتلال ،إذ سبقت عمليات التفجيرات الأولى في مدينتي النجف وكربلاء خلال الاحتفالات الأولى ما بعد الاحتلال ،إعلان قوات الاحتلال عن بيان (مزور) ادعت انه موجه من أبو مصعب الزرقاوي يحض على قتل الشيعة خلال الاحتفالات .<BR>ولذلك جاء رد المقاومة الجهادية العراقية على جريمة الفتنة في العراق، فورياً وإن كان تاه في زحمة الأحداث التي جرت خلالها تصفيات استشهد فيها العشرات من العراقيين .الرد جاء بقتل 7 جنود أمريكيين في يوم واحد هو يوم الفتنة –حسب ما اعترفت به قوات الاحتلال-بما جاء تأكيداً أن لا علاقة بالمقاومة العراقية بإحداث الفتنة، والأهم أن المقاومة لم تشارك في أحداث الفتنة ولو شاركت لرأينا الدماء بحوراً وذلك في استمرار لخطها الذي حددته وظهر جلياً خلال كل الانتخابات الهزلية، إذ امتنعت المقاومة عن مهاجمة المقار الانتخابية حتى لا تقتل أبرياء حتى ولو كانوا مخدوعين، رغم فهمها ورفضها لكل العملية الأمريكية ،إذ عدتها محاولات لتشكيل قاعدة سياسية للجماعات المتعاونة مع الاحتلال .<BR>لكن الخطير في كل ما جرى أيضاً هو أن الأمريكيين حددوا دور قواتهم الجديد في المرحلة القادمة من خلال الحدث، إذ هم من وقفوا حاجزاً بين القوى المعتدية على منزل الشيخ المجاهد حارث الضارى والقوة الرمزية المدافعة عنه-كما أشار الدكتور مثنى حارث الضاري في حديث هاتفي مع الجزيرة القطرية- من أن القوات الأمريكية هي التي حالت بين استمرار المعارك أو بالنظر لما قاله جون أبو زيد عن عدم مشاركة قوات الاحتلال في الأحداث وتأكيده أن العراق بعيد عن الحرب الأهلية حتى يخفى دور قوات الاحتلال .<BR>وهنا فإن الحدث كان استراتيجيا عمل موجه ضد المقاومة والسنة العرب ،وتكتيكياً هو استهدف تعديل التوازنات بين القوى الشيعية لصالح الأكثر ارتباطاً بقوى الاحتلال وضد الأكثر ارتباطاً بإيران،كما هو بالإجمال حدد خارطة الصراع في المرحلة القادمة والدور الجديد للقوات الأمريكية فيه . <BR><BR><br>