انقلاب على طريقة الحكومة الجزائرية !
1 جمادى الأول 1427

أخيراً، و بعد العديد من الأخذ و الرد، و حالة من الغموض والاتهامات المتبادلة هنا و هناك، قدم (رئيس الحكومة الجزائري) أحمد أويحي استقالته التي تلقاها الشارع الجزائري بالكثير من الارتياح الذي لا يخلو من تساؤل، ليس لأن أحمد أويحي يشكل التيار " التكنوقراطي" البارع في عملية " التعاطي" مع الانتخابات كما يعرف عنه في الجزائر، بل لأنه فعلاً كان في نظر الكثيرين بمثابة الحجرة التي أعاقت العديد من الحركيات، وبالتالي استقالته عن الهرم السياسي داخل الحكومة بدا للأول وهلة إستراتيجية لا تخلو من دهاء مارسها (الرئيس الجزائري) عبد العزيز بوتفليقة بمعية أهم شخصيات في حزب جبهة التحرير الوطني ( الحزب الحاكم سابقا) لأجل " إعادة رسم" الخارطة السياسية من دون أيدٍ "دخيلة" كما قال البعض ! <BR><font color="#0000ff">رجل المهمات القذرة!</font><BR>الذين تابعوا الحياة السياسية لرئيس الحكومة المستقيل، لا بد أن يربطوه بالمراحل السياسية الداخلية الحساسية و بالانتخابية الكبيرة أيضا، و هذا ليس صدفة بل عن سابق إصرار و تعمد، باعتبار أن أحمد أويحي هو الذي ساهم في صياغة الحزب الوطني الديمقراطي الذي سرعان ما تسلل إلى واجهة الحكم في ظروف اعتبرها الشارع الجزائري مسرحية، بالرغم من أن الرئيس الجزائري نفسه كان ضمن ذلك الحزب باعتبار أنه ترشح إلى الانتخابات الرئاسية داخل تكتل حزبي جمع العديد من الأحزاب التي صاغت ما سمي بمشروع الائتلاف السياسي الجزائري، أشبه ما يكون الأمر بجبهة وطنية، كانت تفتقد في البداية إلى الإقناع، بالرغم من سلطتها الكبيرة التي على أساسها صار الحزب الديمقراطي الجزائري في ظرف شهور حزبا سلطويا قويا سمي مباشرة بحزب الرئيس. لكن الذي بدا غريبا أن تتحول عملية الاقتتال السياسي ضد الرئيس بوتفليقة من قبل حزبه السابق" جبهة التحرير الوطني" الذي كان أمينها السابق " علي بن فليس" من أشد المقربين إلى عبد العزيز بوتفليقة قبل أن يحدث ذلك الطلاق التاريخي على مقربة من الانتخابات الرئاسية الثانية للرئيس الجزائري، و هو الطلاق الذي تسبب في انقسام جبهة التحرير على نفسها و صعود تيار "تجديدي" فيها بقيادة عبد العزيز بلخادم. كل اللعب السياسية التي جرت في الجزائر أجمعت على أن أحمد أويحي هو سيد "الورقات المضروبة" و هي العبارة التي تناقلتها الصحافة الجزائرية للحديث عن التزوير الذي مورس بشكل مكشوف في العديد من المراحل الانتخابية و هو بالذات ما تحدث عنه زعيم حزب جبهة التحرير عبد العزيز بلخادم الذي كان أول المطالبين برأس رئيس الحكومة (صديقه اللدود) ! و لعل الذين سايروا حقبة رئيس الحكومة المستقيل يتذكرون أيضا أنه صاحب عبارة " رجل المهمات القذرة" التي قالها ليصف نفسه إبان العنف المسلح في الجزائر، و لكنها المهمات القذرة فعلا التي تحولت إلى ما يشبه الرسكلة نحو الخلف، نحو الكثير من الإسقاطات التي جعلت الجزائريين قبالة جملة من القرارات الجديدة التي كان يفرضها عليهم "صاحب المهمات القذرة" ابتداء من قوانين الخصخصة التي أحالت الكثير من المؤسسات الكبيرة على الإفلاس، مما جعل العديد من الموظفين يفقدون وظائفهم آليا، و بالتالي جعل الآلاف من العائلات الجزائرية على حافة المجاعة. هي الصورة الأشبه بالصور الكاريكاتورية التي ارتبطت في النهاية برئيس الحكومة المستقيل، الذي برغم العديد من الفضائح المغلفة، استطاع أن يصبح وزيرا للعدل، ثم رئيسا لحكومة قيل عنها "تكنوقراطية"؛ لأنها ضمت العديد من التيارات حتى تلك التي لم تكن في النهاية سوى ظل لنفسها ! لهذا بدت الحكومة في ظروف سياسية استثنائية عاجزة عن أداء ما كان عليها أن تؤديه، بالخصوص إزاء المواطن الذي ظل في كل الأحوال الكرة التي تتقاذفها الأرجل حسب مزاج التشكيلات السياسية التي شكلتها الحكومة من جهة، و من جهة أخرى التشكيلات التي ظلت فاعلة من الخلف، عن بعد وعن قدرة عجيبة على خلط الأوراق ! مع ذلك لم يكن ثمة ما يشير إلى الجفاف السياسي بين رئيس الحكومة المستقيل و الرئيس الجزائري، لكن العديد من الملاحظين يربطون الأمور بعدة أحداث بمن في ذلك زيارة الرئيس الفنزويلي للجزائر قبل أسبوع تقريباً، و بحالة من الغليان الشعبي المحسوس نتيجة الوضع الاجتماعي المزري و التراجع الكبير في القدرات الشرائية للمواطن البسيط ! <BR><font color="#0000ff">الاقتتال السياسي الخفي!</font><BR>لم يعد خفيا على أحد ما تناقلته الصحف الجزائرية عن العلاقة التي كانت بين رئيس الحكومة المستقيل و الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ربما لأن أثناء قرار بوتفليقة الترشح للرئاسة وجد من يقف ضد قراره، و كان حزب جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم في السابق) من أشد المعارضين لترشحه بخلق حملة إعلامية ضخمة ضده، ربما كانت لتلك الحملة ثمارها العكسية التي جلبت أحمد أويحي إلى السطح من جديد حين بدا هو نفسه من أكثر الراغبين في دعم عبد العزيز بوتفليقة في ترشحه للانتخابات الرئاسية، و هو ما صنع منه " الجوكر القوي" في ظروف من التجاذب و الاقتتال السياسي الخفي.. تلك الحقيقة التي يعرفها الجميع لم ترد على السؤال المهم : لماذا ضحى بوتفليقة بالرجل الذي سانده في ترشحه للانتخابات؟ ولعله من الصعب بمكان إبعاد الإجابة عن واقع ما يدور في كواليس الحكم في الجزائر، والذي يقوم أساسا على مبدأ المصلحة والمصلحة المضادة، و لهذا كانت المصلحة المضادة تقتضي الضغط الكبير الذي مارسته الأحزاب الفاعلة لأجل حجب الثقة عن رئيس الحكومة الذي كان واثقا من إمكانياته أكثر من اللازم بالخصوص وأن ورقة " المصالحة الوطنية" كانت في النهاية الورقة التي سعى إلى اللعب بها باعتبار أنه (أي أحمد أويحي) كان من الذين تعاملوا بحذر شديد مع قانون الوئام المدني، و لم يكن مقتنعا بأن العفو عن الإسلاميين سيكون حلا ناجعا من الحلول السياسية في البلاد، هذا لأن أويحي في النهاية جزء من آلية سياسية اعتبرت كغيرها من الآليات أن المصلحة تكمن في البقاء، حتى لو كان البقاء على حساب الشعب كله، على حساب كرامته و كبريائه و إحساسه بالخيانة قبالة كل هذا الكم الهائل من الهموم و من المتاعب التي يواجهها يوميا. <BR><font color="#0000ff"> الاستقالة: ثقافة سياسية لا تعني الابتعاد! </font><BR>استقالة أحمد أويحي لا تعني أنه ابتعد عن الحكم، فالرجل استقال عدة مرات و عاد عدة مرات إلى الضوء والسلطة من أبوابها الواسعة. بيد أنه لم يكن يفهم الجزائريون ماهية الاستقالة لأنها في النهاية لا تعني نهاية سياسية، بل "عطلة" لأجل عودة جديدة. وهو ما ظل يحدث منذ الاستقلال. قضية الحكم في الجزائر لا تختلف عن دول أخرى، عن الدول الشمولية سواء العربية أو دول العالم الثالث. إنها قضية "إرث" سرعان ما يصبح إرثا أسريا قد يتحول إلى الأبناء بموجب اتفاقيات لا يحضرها الشعب، بل تكون عادة إجبارية على الشعب، و هي التجارب كثيرة في العالم الثالث و الحال أنه في الجزائر، ثمة خلط للكثير من الرؤى التي لم تعد تعطي الانطباع أن الرئيس هو الحاكم الوحيد للبلاد؛ لأن ثمة حكم الأحزاب الـ"عنكبوتية" المعروفة، و ثمة أيضا الحكم العسكري الذي يدير مقاليد الحكم أيضا و هو الذي يتبنى العديد من القرارات المفاجئة أحيانا والصارمة في أحيان أخرى، مثلما يتبنى المناورات التي كانت تنتهي إلى ردات فعل وصلت بعضها إلى العنف الشديد، ولعل فترة الحرب الأهلية الجزائرية أقرب صورة لتلك المناورات العسكرية الداخلية التي توحي أن الحاكم في البلاد ليس الرئيس، بل العسكر.. والجزائر الذي تحكمها سياسيات عسكرية مغلفة بالقرارات المدنية، هي نفسها التي تبدو اليوم على مقربة من الفوضى، ليس لأن رئيس الحكومة استقال، بل لأن الذين "يطبخون" في الخفاء هم الذين يبحثون عن مصالحهم مرة أخرى، يريدون كسب مزيد من المقاعد في البرلمان، ويريدون إن تكون لهم حصة الأسد في خيرات البلاد على حساب بقية الشعب. فقد وصل سعر البترول إلى 70 دولار و لم يتغير سعر الإنسان في البلاد، ظل في الحضيض، ظل الشعب على حافة المجاعة والتسيب السياسي والاجتماعي حد الكارثة، ليس لأن العنف المسلح أكل الأخضر و اليابس فحسب، بل لأن الذين يريدون أكل ما تبقى من القحط هم أولئك الذين ينطلقون من نفس الخطاب السياسي القديم الجديد الذي يتكلم باسم الوطن والشعب والأمة بصيغة الغائب! " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".<BR><br>