من ثمرات انتفاضة الأقصى
8 رمضان 1427

في يوم الجمعة التاسع والعشرون من سبتمبر عام 2000 وعلى أثر اقتحام سفاح صابرا وشاتيلا آرييل شارون حرم المسجد الأقصى بحماية رسمية من حكومة باراك اندلعت الانتفاضة الثانية التي عرفت بانتفاضه الأقصى وإذا كانت الانتفاضة الأولى قد أحدثت تحولا في إدراكات الجنود "إسرائيليين" نحو اهتزاز ثقتهم في الجيش "الإسرائيلي" وزيادة رغبتهم في الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة- على الأقل الأراضي التي احتلت في 1967م- فما استطاعت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) فعله حتى الآن هو أنها عمقت تلك التوجهات مما جعلها خطوة على طريق دحر المحتل وإن لم تتحول بعد من حركة عصيان مدني إلى حركة تحرير شامل. <BR>تمثل انتفاضة الأقصى وما رافقها من تفاعلات إقليمية ودولية ورأى عام عربي وإسلامي حدا فاصلا بين مرحلتين: مرحلة مرت وكانت أهم معالمها السلام خيارا استراتيجيا وحيدا ومرحلة جديدة شديدة التعقيد تتسم بالتردد بين حدي المقاومة الشاملة واستمرار الانتفاضة وبين السلام تحت شروط أقل إجحافا بالحقوق الفلسطينية ومن الواضح أن الفلسطينيين مثل "الإسرائيليين" مدركون تماما للطابع الحاسم الذي تميزت به انتفاضة الأقصى ودورها في تقرير طبيعية العلاقة بين الدولة الفلسطينية القادمة والدولة "الإسرائيلية" ويؤكد ذلك الإجماع السريع الذي حصل على جانبي الجبهة إجماع فلسطيني عبر عنه الانخراط الواسع لجميع التيارات والقوى الفلسطينية في القتال وإجماع إسرائيلي أزال أي تمايز يذكر في مطالب وأقوال جماعات العمل والليكود والقوميين والدينيين والمستوطنين المتطرفين بل وأدعياء السلام. <BR>وبقيت مشكلة "إسرائيل" إزاء تجدد الانتفاضة إنها تتعامل مع حرب غير نظامية أشبه بحرب العصابات المقرونة بالعصيان المدني الواسع ولها أهداف سياسية وعسكرية وخاصة يصعب إجهاضها كما أن أساليب القتال المتبعة فيها تتسم بالمفاجأة من حيث التوقيت كذلك شن العمليات في أكثر من اتجاه مما يشتت جهود القيادة الإسرائيلية ويستنزف قواها ويبرز ضعف موقف الجيش "الإسرائيلي" من الانتفاضة الفلسطينية مساوئ استخدام القوة في الحروب الثورية وعدم إدراك الفارق بينهما وبين الحروب التقليدية فالحرب من النوع الأخير غالبا ما تكون نتيجتها صفرية وذلك أن كل فريق من المتحاربين له قوة معينة ومحددة وكل نقطة تفوق لطرف من المتحاربين هي بالضرورة نقطة خسارة للطرف الأخر وأما في الحروب الثورية فان اللعبة ليست صفرية النتائج. ذلك لان القوة ليست محددة مسبقا إذ الشعب يغذيها وهو ما يعني قوة مضاعفة مستمرة للحرب الثورية، بل على العكس فقد تؤدي ليس إلى تعويض الخسائر فقط، بل وزيادة قوة الجانب الثوري بشكل مباشر وغير مباشر، أو بكلمات أخري، فان تدمير دبابة للعدو في الحرب التقليدية تعني زيادة مئة دبابة في الجانب الأخر، إلا أن مقتل مئة طفل فلسطيني في حرب ثورية لا تشكل ميزة في الجانب "الإسرائيلي" بل على العكس فان الباعث على القتال في الجانب الفلسطيني يتزايد بسبب اشتعال روح الغضب وفى هذا يقول أحد الخبراء "الإسرائيليين" "أن كل يوم يقتل فيه طفل عربي في المناطق المحتلة هو بمثابة مرحلة أخري في انتصار الانتفاضة". <BR>لكن ثمة نقطة ضعف عانت منها الانتفاضة تتمثل في عدم توفرها على رؤية استراتيجية فلسطينية وعربية -وأساساً مصرية- توجهها وتحدد لها هدفها وتدير الصراع على أساس تقدير موقف صحيح يستطيع أن يلحظ عمق المأزق الإسرائيلي والأمريكي وان يتحسس نقاط قوته هو وان يدرك ما في المعادلة الدولية من اختلالات يمكنه الإفادة منها فالانتفاضة كانت بحاجة إلى أن يحدد لها هدف لا تتراجع عنه وهو دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات واستنقاذ القدس.<BR>إن استنزاف الكيان الصهيوني لا يحتاج إلى حرب شاملة من طرف الدول العربية بقدر ما يتطلب دعما كاملا للمقاومة ضدها. وهو وضع يمكنه فرض الهزيمة الشاملة عليها وشطبها من معادلة المنطقة تماما. أما وان الواقع القطري وأحلام الدولة لدي قيادة السلطة الفلسطينية ما زالت تتحكم بالوضع، فان الحل الآخر وهو حدود 1967 تكون محطة باتجاه مزيد من حصار الدولة العبرية وإنهائها لاحقا بدل فتح العواصم لغزوها السياسي والاقتصادي. <BR>لقد كانت <font color="#ff0000">أول ثمرات</font> انتفاضة الأقصى وأهمها هو التحول من بعض أشكال النضال الفلسطيني السلمي إلى تبني بعض أشكال العمل المسلح ونقل عملياتها الهجومية إلى المناطق الفلسطينية التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية الكاملة وسقوط عدد من الجنود المستوطنين وذلك عملا باتجاه إستراتيجية التحرير الكامل في إطار "توسيع الانتفاضة جغرافيا وتعقيدها عسكريا" وكما قال أحد المشاركين في انتفاضة الأقصى: "ليس أمامنا الأخيار واحد ونحن نعمل على قاعدة حساب التكلفة ولنريهم أن تكلفة الاحتلال باهظة جدا بحيث لا يستطيعون تحملها" <BR>ولعل هذه كانت <font color="#ff0000">الثمرة الثانية</font> وهي الحفاظ على استمرار توازن الرعب وتعميقها فبرغم آلة البطش الصهيونية، والتي عملت بكل طاقتها لهدم البنية التحتية واغتيال المجاهدين والقادة، وبرغم كل إجراءات أمنهم، إلا أن المجاهدين في الانتفاضة ضربوا العمق الصهيوني أكثر من مرة، وبشدة أرهبت الصهاينة وأقضت مضاجع قادتهم العسكريين والسياسيين، كما يسجل لانتفاضة الأقصى مجموعة من العمليات النوعية والبطولية على صعيد الأفراد والتنظيمات.<BR>وهو ما جعل كثير من المستوطنين يعيشون حالة خوف أكثر عمقا وتأثيرا لكونها تستدعي مشهد الجنوب اللبناني والنعوش العائدة منه إلى الأمهات اللواتي تحولن إلى حزب فاعل في الساحة السياسية "الإسرائيلية" حتى وصل الأمر بمحلل عسكري معروف مثل زئيف شيف حد اعتبار "الأمة" "الإسرائيلية" في "حالة حرب" محذرا من أن "أمة في حالة حرب" لا يمكنها أن تدار من قبل "منظمات الأمهات" في تحذير واضح من تكرار تجربة لبنان ولعل أهم معالم هذه الرؤية هو العمل على تطوير الانتفاضة باعتبارها إذانا باندلاع معركة تقرير مصير الدولة الفلسطينية والعمل على أساس الاندفاع بها بصرف النظر عن أي شيء آخر لتكون بالفعل حرب الاستقلال الفلسطينية وهذا يعني أن تفكر بالاستمرارية والوحدة والتنسيق وتكثيف العمليات التي تستهدف ضرب معنويات جيش الاحتلال حتى تفرض انسحابه من الأراضي الفلسطينية تماما كما حصل في جنوب لبنان عام 2000. <BR>ومن الواضح تماما لكل من يتابع أنباء فلسطين أن الشعب الفلسطيني لا يريد العودة إلى محنة المفاوضات وهو مستعد لتحمل نتائج اختياراته بل هو سعيد بان يقنع الإسرائيليين بان لدية هو أيضا إرادة لا تلين وان تمسكه بحقوقه التاريخية ليس اقل قوة من تمسك الإسرائيليين بأوهامهم الاستيطانية والتوارتية وإستراتيجية التحرير هذه أكثر واقعية وأينع ثمارا من سنوات التسوية العجاف. <BR>أما كونها أكثر واقعية فلتبنيها النموذج الانتفاضي الشعبي حيث المشاركة النضالية تتسع للكل وليس فقط للتنظيمات (سواء فتح أو حماس أو الجهاد) بل هو مشروع كل فلسطيني بصرف النظر عن انتمائه الفكري إضافة إلى توسيع دوائر الانتفاض <BR>أما كونها أينع ثمارا فلأن ثمرة المقاومة والواقعة في قلب ميزان قوى مختل بشكل فاضح تنبع بالضبط من هذا الميزان حيث لم يعد هناك عمليا ما يمكن أن يخسره الفلسطينيون جراء أي ثورة أو انتفاضة يقومون بها بل أن الخسارة في الطرف الأخر تكون أكثر إيلاما معنويا وسياسيا حتى لو أظهرت الأرقام بونا شاسعا في الناتج الإحصائي لخسارة الطرفين وبالتالي فهي أدعي للضغط عليه لانتزاع الحقوق.<BR><font color="#ff0000">الثمرة الثالثة</font> لانتفاضة الأقصى هي فرض الخيار الإسلامي على الساحة الفلسطينية ليس على مستوى الشارع بل على مستوى السلطة والبنية الحكومية أو ما يمكن تسميته بالنظام السياسي الفلسطيني – رغم تحفظ الكاتب على مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية وتوليها رئاسة الحكومة لأن مرجعية ذلك كله هي اتفاقات أسلو التي ترفضها حماس جملة وتفصيلا- <BR>لقد حاولت انتفاضة الأقصى أن تحلق بجناحين أما الأول فهو الإصلاح الداخلي ومحاربة الفساد على صعيد السلطة، أما الثاني فكان محاولة إلزام المفاوضين بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني وعدم التنازل عنها، واحسب أن الالتفاف الفلسطيني حول من رفع شعار الإصلاح الداخلي والثبات على الحقوق هو من أوصل حماس لرئاسة الحكومة <BR><font color="#ff0000">الثمرة الرابعة</font> من ثمار انتفاضة الأقصى هي تصاعدت شعبية التيار المقاوم وتراجع نفوذ التيار المساوم في أوساط الفلسطينيين عموما وانحصار أنصار التيار الثاني في أوساط أصحاب الامتيازات الشخصية التي ازدهرت خلال حقبة مسيرة سلام اوسلو وثمارها المرة، وما فوز حماس في الانتخابات التشريعية السابقة إلا إحدى ثمرات الانتفاضة كدلالة على اختيار الشعب الفلسطيني لمن يرفع رايات المقاومة. <BR>لكن تبقى قضية الحصار الاقتصادي والمالي والسياسي المفروض على الشعب الفلسطيني منذ تولي حماس السلطة وقد طالت بآثارها الشعب كله تحت الاحتلال في الضفة والقطاع، وربما كان البحث عما يسمى حكومة وحدة وطنية شكل من أشكال التفاف التيار المساوم على اختيار الشعب من اجل استعادة المساعدات المالية المشروطة؟ ولكن أحسب أن الأمل ضعيف بأن يحقق التيار المساوم ما عجز عن تحقيقه منذ ورط الشعب الفلسطيني في متاهة مسيرة أوسلو أو عقود الإذعان واتفاقات الإملاء كما كان يسميها الدكتور أحمد صدقي الدجاني _عليه رحمة الله_. <BR>لقد ظل مطلوبا "إسرائيلياً" من الفلسطينيين أن يتنازلوا عن القدس وحق اللاجئين في العودة ومصادرة 60 في المئة من الضفة الغربية. كما أصبح مطلوبا سلطويا من تيار المقاومة أن يعلن اعترافه بكل اتفاقات قادة التيار المساوم مع إسرائيل ويقدم لها ما سبق وأن قدموه وكل ذلك مقابل فك الحصار عن الشعب الفلسطيني وربما لن يتم فك الحصار حتى لو قام قادة التيار المساوم بتخطي حكومة تيار المقاومة وشكلوا ما يسمونه حكومة وحدة وطنية تشرع في تقديم المبادرات حيث يبقى جواب إسرائيل وأمريكا والغرب كله دعوتهم إلى تجريد التيار المقاوم من أسلحته قبل أن يقبل التعامل معهم. فالحصار جزء من المعركة التي تستهدف رأس التيار المقاوم وسلطته الشرعية المستمدة من إرادة الشعب.<BR><font color="#0000FF"> وأخيرا أحسب أنه من المهم التأكيد على أمرين: </font><BR><font color="#ff0000">أما أولهما: </font> فهو أن هذه الأجواء التي تعيشها القضية الفلسطينية اليوم هي أجواء انتفاضة ثالثة تكون رؤيتها أكثر وضوحا وأكثر عمقا وأكثر حسما في سبيل تحرير فلسطين <BR><font color="#ff0000">أما الأمر الثاني: </font> فهو التأكيد على مقولة: أن تحرير كامل فلسطين أكثر واقعية من الاعتراف "بإسرائيل".<BR><br>