لقطات من ثورة رهبان بورما..
17 رمضان 1428

حتى بين أطلال الشيوعية يهب أتباع بوذا، ويثور رهبانه وعبدته، يسيرون كما عهدناهم حفاة يلبسون ثياب الزهد والتقشف.. هم الآخرون قد ثاروا في وجهها بملابسهم البرتقالية، فكأنها ثورة برتقالية بوذية جديدة تخلف ثورة الليبراليين الأوكرانيين قبل سنوات.. جميعهم في وجه بقايا الشيوعية ورواسبها الجامدة؛ فبعداً لمذهب سياسي بائس لا يكف عن التصادم مع كل التوجهات والأديان والمذاهب الدينية والسياسية، ولا ينتهي عند عبدة الأوثان.

 

الآلاف خرجوا يؤمهم الرهبان يرفعون مطالب اجتماعية للحاكم العسكري في رانجون العاصمة بورما (ميانمار)، ثم تقمعهم السلطات، فتقتل رجلا وتعتقل آخر وتصيب العشرات في مشهد تنساب منه العديد من المعاني الموحية.. ربما أكثر ما قد توحيه صورة المظاهرات وردود الأفعال عليها، هو قضية مبدئية تستأهل التوقف عندها ملياً، وهي دائرة حول مفهوم "النضال الديني" ومشروعيته، إذ إنه ما من أحد ـ فيما بلغني ـ لا في عالم العربي أو الغربي أو الشرقي احتج لدى الرهبان عن عملهم بالسياسة وتبنيهم مطالب اجتماعية تمس حياة الشعب البورمي واقتصاده، ولا أحد طالبهم بأن يقصروا مشاعرهم على داخل معابدهم، حيث مفهوم العلمانية لدى الكثيرين يقضي بانفصام شخصي يستلزمه هذا الملبس الذي يرتديه الرهبان، يحول بينهم والتفاعل مع تطلعات شعوبهم وأمانيهم، ويستبقيهم أعجاز نخل خاوية، أماكنهم لا يبرحوها، وأفئدتهم هواء، وخطابهم ركود.

 

لا أحد طالبهم، أو أنكر خروجهم، أو أملى عليهم ما يقولون خارج معابدهم فضلاً عن أن يطالبوهم بها داخلها. قد كان ملبس الرهبان اللافت قميناً بأن تتحدث "النخبة" عن ثيوقراطيتهم، واستعدادهم لـ"القفز" على المبادئ، والتنكر لإرادات شعبهم، واستغلالهم المصاعب التي تواجه أبناء بلدهم من فقر وبطالة وجهل في التمهيد لـ"الاستيلاء" على السلطة.. لكن "النخبة" ذهلت عن المشهد فلم تره كما ينبغي!

 

ثُم..
إن الرهبان انطلقوا بالآلاف، وهذا ثاني ما يسترعي الانتباه ويحول دون النظر إليه كمشهد عفوي تنادى إليه الرهبان فجأة دونما تنسيق أو توجيه، اللافت إذن أن لهذه الجموع محركاً "دينياً" ـ إن جاز التعبير ـ وقيادة دينية يأتمرون بها، وهذا بحد ذاته مبعث إلى التساؤل: أتكون لهؤلاء الرهبان في ظل هذا الحكم الطاغي حظوظ من الحرية في اختيار قيادتهم الدينية المستقلة، بل يكون لهم الحق في تنظيم صفوفهم والتراص خلف راهب واحد أو "مرجعية خاصة"، ولا يُمنح العلماء المسلمون في بلدانهم حق التمتع بجزء من هذه الاستقلالية وهذا الحضور؟! فأي حكم يرزح تحته العلماء المسلمون إذن؟! بل أي طغيان ذاك الذي يتسلل إلى خلوات الصالحين فيفرض عليهم ما عليهم أن يقولوه للناس في أمور دينهم ؟! إنه استبداد يخجل منه حتى حكام رانجون..

 

ثُم..
حقيقة الظلم هذه التي ربما لا يشعر سكان القصور وجنرالات "الثكنات الوطنية" (أو الأوطان سابقاً) أنها ستحجب الهواء حتى عن أولئك الرهبان في صوامعهم وخلواتهم ومعابدهم؛ يخرجون يتنسمونه خارجها، ويظن معه المخمليون أنهم ينثرون الظلم على وجوه شعوبهم ولا يغرقونهم فيه.. إنه ذاك العسف الذي يشي للرهبان بأنهم ينحنون للجنرالات وهم في معابدهم يخالون أنهم ينحنون لبوذا! إن الظلم إذا ما استشرى في مجتمع فلا سالمَ منه ولا نجاة؛ وذاك معنى يلقيه الرهبان من معابدهم في وجه كل غطريس يستخف بآلام شعبه ويحول بين بني وطنه وتنسم رياح العدالة والحرية.

 

ثُم..
سرني أن يدان النظام الديكتاتوري في رانجون، وتفرض عليه عقوبات، ولو كانت شكلية، من أجل أن يلجم خطام شطحاته التسلطية، ويمنح الرهبان وقوى المعارضة بعضاً من مطالبهم، وسرني أن تثار القضية في الأمم المتحدة ولو كان من تولى كبر إثارتها وطالب بفرض عقوبات على نظام رانجون هو نظام لا يقل عنه فظاظة وظلماً وقهراً، فواشنطن التي أثارت القضية وألزمت نفسها بعقوبات ضد بورما هي تدرك أن لهذه القضية صدى دعائياً تطرحه بثمن بخس لا يكلفها الكثير، ولم يكُ غريباً أن تثير الولايات المتحدة نقع هذه القضية في محفل أممي، بيد أن اللافت أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن حين أرغى وأزبد أثناء خطابه في الأمم المتحدة أول من أمس حين قتل معارض بوذي واحد (قبل أن يزداد العدد بعد ذلك)، تجاهل عن عمد أن والده وسلفه في الحزب الجمهوري، لم يحرك ساكناً عندما تم تهجير نحو نصف مليون من قومية الروهنجيا (مسلمي أراكان) البورمية في العام 1991 إلى بنجلاديش التي بدورها أطلقت على معسكرات اللاجئين النار قبل عامين..

 

إن مقتل معارض لا يكافئ تهجير هذا العدد المهول من ديارهم، واستبقاء الآخرين (نحو 12 مليوناً) في حياة تأنفها الدواب، حيث تتم الزيارات بين الأقارب بعد استئذان السلطات، ويعمل الشيوخ والعلماء في شق الطرق، وتنتزع جنسية الملايين، ويعمل الشباب بالسخرة في الحقول.

 

ثُم..

تساوق الإعلام في العالم كله مع تلك السياسة العرجاء والتي تزامنت في المرتين (العام 1991 و2007) مع دعوات تتحدث عن ضرورة نشر الحرية والديمقراطية، وتنادي من واشنطن بالدعوة لكسب "معركة القلوب والعقول"، عبر تجاهل متعمد للجريمة السابقة، لأن عدسة السياسة قد ركزت على تلك الحالية، استنقاذاً لما تبقي من مبررات "السياسة الدولية" العرجاء.

 

إن مئات الألوف مروا عبر الحدود إلى بنجلاديش لم يرهم أحد، ومعارض واحد تم قتله في العاصمة البورمية رانجون سمع به الناس جميعاً!

 

ثُم..

أي الإجراءين كان أولى بالاهتمام من "المجتمع" الدولي: نسف تمثال بوذا في ولاية باميان بأفغانستان عام 2001 إبان حكم طالبان، أم إهانة آلاف الرهبان البوذيين وجرح العشرات منهم؟! هل صارت الآثار في عرف "المجتمع الدولي" أعز من الإنسان ذاته؟! إنها في الحقيقة معانٍ تتناسل من رحم قضية ومضت لفترة وبطريقها للعودة إلى دائرة الظلام والنسيان مجدداً.. نعم، فأي قيمة ـ مقارنة بدارفور ـ لحادثة كتلك تشي بجملة من الاضطهادات الاجتماعية والعرقية والدينية التي كانت خصبة لرِيّ غربي، لو أنها كانت ذات قيمة في تقديره وحساباته، ولحق لها أن تثير نقع "الأقليات" وحقوقهم، ولنشط لها ألف مؤتمر ومئات الندوات وعشرات التصريحات.. لكنها في النهاية "بورما"!