المقاومة العراقية: هل هي استراحة محارب؟
12 محرم 1429

في حوار له مع جريدة الحياة اللندنية قبل أيام قليلة، اعتبر الشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق، أن ما بات يعرف بمجالس (الصحوة): "أسوء من تنظيم القاعدة"، و أضاف: "إذا كانت ’القاعدة‘ مارست أعمالاً مرفوضة مع أبناء المنطقة التي كانت توجد فيها، وإذا كانت فرضت إرادتها وقتلت الكثير من أبنائها، فالمجالس اليوم تمارس بعض هذه الأعمال، أعمال الابتزاز والتخويف، أي بمعنى إما أن تكون معنا وإلا فأنتم مع ’القاعدة‘، وهناك فئات سياسية سنية متورّطة، ممن هم في داخل العملية السياسية".<BR>لم يعد جديدا القول أن الوضع الأمني في العراق تحسن كثيرا فلقد انحسر العنف هناك إلى مستويات قياسية منذ بداية الخريف الماضي إلى درجة صار الرئيس بوش و طاقمه يعتبرها إنجازا تاريخيا حتى أن الجنرال ديفيد بتريوس صار حاليا بطلا قوميا في الولايات المتحدة و هذا يعني أنه يتوجه ربما إلى أن يصير رئيسا مستقبليا لأميركا فلا شك أنه سيكون في حال بلغت الإستراتيجية العسكرية الحالية في العراق مداها تحت إشراف هذا العسكري المنحدر من أصول هولندية و الذي أتم 55 عاما من العمر في شهر نوفمبر الماضي، المرشح الرئاسي الأقوى في انتخابات العام 2012 خصوصا إذا ما تمكن الجمهوريون من استقطابه ليعودوا عبره إلى البيت الأبيض تماما كما عادوا مع بطل الحرب العالمية الثانية الجنرال دوايت أيزنهاور في انتخابات 1952 بعد عشرين سنة كاملة من حكم الديمقراطيين آنذاك.<BR>واقع الحال يقول أن العنف تراجع و أن عمليات المقاومة انحسرت بشكل كبير فلم تعد الخسائر الأميركية في العراق عبئا ثقيلا على الإدارة البيضاوية بدليل أن كل مراقب لخطابات المرشحين في سباقات الفرز الحالية مع هذه الانتخابات التمهيدية في الولايات المتحدة، سوف يلحظ أن الشق الأكبر من حديث هؤلاء بات يركز على الهم الاقتصادي و تردي الظروف المعيشية لعدد كبير من الأميركيين إلى حد لم يعد الملف العراقي معه هما كبيرا كما كان عليه قبل شهور قليلة فقط حتى أن المرشح الجمهوري السناتور جون ماكين على سبيل المثال، الذي عرف بأنه واحد من أكثر معارضي هذه الحرب، صار حاليا لا يفوت فرصة إلا ليذكر خلالها أمام أنصاره في التجمعات الدعائية التي ينظمها عبر الولايات، أنه برغم معارضته للحرب، إلا أنه كان قد صوت لصالح إستراتيجية ’الاندفاع‘ حينما جرى طرحها أمام الكونغرس.<BR>فهل يتيح لنا هذا الكلام القول أن أميركا انتصرت في العراق و أن المشروع المقاوم هناك قد اندحر بما أن أكثر المنتسبين إلى تلك المجالس هم من قدامى المقاومين الذين فضلوا تغيير اتجاه بنادقهم صوب عناصر تنظيم القاعدة؟ <BR>طيب: لا خلاف في أن هذا التنظيم قد ارتكب في العراق من الموبقات و الجرائم ما لا يخفى على أحد و أن ’جهاد‘ عناصره اقتصر في أغلبه على الطابع الطائفي مما يعني أن محاربته و التصدي له هو أمر مشروع و لكن مهلا، هل يطالب الذين يتصدون لمن يعبث بأعراضهم و مصائرهم مقابلا ماديا بل و تسليحا أيضا من الأميركان؟ و الأخطر من ذلك، هل كان هؤلاء المقاومون المنقلبون مجرد مرتزقة أيضا بمعنى أنهم لم يكونوا مختلفين كثيرا عن أفراد شركة بلاك ووتر مثلا و بالتالي فهم كانوا مستعدين لأن يحاربوا في أي اتجاه و فقط لحساب من يدفع أكثر؟<BR>هنا تكمن الإشكالية التي يندر التطرق إليها و يتغاضى الكثيرون عن مجرد التفكير فيها لأن ما تعيشه الأرض العراقية منذ شهور حاليا لا يطمئن كثيرا و الحديث هنا ليس مقصودا منه هذا الاستقرار الأمني النسبي المسجل فلا أحد يملك عقلا سويا، يحب أن يستمر ذلك الاقتتال العنيف و تلك الصور المروعة التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية لأكثر من خمسين شهرا. إن المقصود فقط هو محاولة لفهم حقيقة هذه التطورات و هل هي فعلا علامة الانتصار الأميركي و دليل هزيمة المقاومة !<BR>على حسب المراسل الصحفي البريطاني جوناثان ستيل فإن كل ما يساق من كلام و دعاوى، لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في الأعين حيث أن أميركا في تقديره لم تحقق شيئا حتى مع تراجع العنف و تحسن الوضع الأمني لأن الأحقاد الطائفية، التي هي في نظره أكبر عوامل قيام ما يعرف بمجالس الصحوة، ما تزال عند أعلى مستوياتها بمعنى أن كل متطلبات اشتعال المواجهة مجددا بين السنة و الشيعة في العراق لـمّا تتراجع حيث يقول في هذا الصدد: "بالرغم من أن زعماء هؤلاء (يقصد عناصر الصحوة) يتسلحون من الأميركيين و يأخذون المال منهم على فرض مواجهة القاعدة، إلا أنهم أيضا يحرسون مناطقهم من هجمات الشيعة بمعنى أن الأميركيين يساعدون بشكل مؤقت في تخفيف العنف و لكن تكتيكاتهم قد تساعد في تعزيز و بناء مليشيات سنية للهجوم مستقبلا على الشيعة" !<BR>ثم إن فكرة المجالس هذه بالمناسبة، ليست إبداعا أميركيا صرفا فلقد عرفت أميركا اللاتينية مثلا خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي قيام ميليشيات على هذه الشاكلة لأجل محاربة الثوار اليساريين في أكثر من دولة هناك فضلا على أن التجربة الفرنسية في حرب التحرير الجزائرية أيضا شهدت تجربة من هذا النوع حيث قامت فرنسا بتجنيد أعداد كبيرة من الجزائريين بقصد مواجهة الثورة و يعرف هؤلاء تاريخيا باسم ’الحركى‘ أو ’القومية‘ حيث ارتكبوا الفظائع ضد المدنيين في القرى التي كانت تمثل مراكز إمداد للمجاهدين الجزائريين إلى درجة أنني شخصيا سمعت من بعض الذين عاشوا تلك المآسي، كيف أن هؤلاء كانوا يفضلون الوقوع في يد الفرنسيين على أن يقعوا تحت رحمة هؤلاء المأجورين!<BR>المهم أن الشطار من بين هؤلاء هربوا مع المستعمر مباشرة بعد خروجه في حين أن كثيرين منهم بقي في الجزائر إلى حد أن كثيرين منهم أيضا تعرضوا للانتقام مما لا يسع المجال لذكره و معنى هذا الكلام أنه لا شيء يمنع من أن تتكرر الحكاية و يعيش العراق بعد خروج الأميركيين، عاجلا أم آجلا، صورا من ذات الصنف خصوصا و أننا جميعا مجتمعات شرقية ما تزال دماء الثأر و تصفية الحساب بشكل سريع، تحتل ركنا ركينا من جسدها.<BR>لا شك أيضا أن أكثر عبء القتال الدائر في العراق الحالي يتحمله هؤلاء فهم من الصنف الذي في وسع أميركا ألا تكترث بعدد الخسائر وسطه على عكس جنودها و بالتالي فإن أكثر عناصر الصحوة حاليا يتولون، تحت شعار محاربة القاعدة، مقاتلة كل الذين يؤمنون بالعمل المقاوم لأميركا في الأنبار و في غير الأنبار فلا شيء يمنع إمبراطوريات الإعلام الهائلة التي تملكها الولايات المتحدة من أن تضع كل الذين يقتلهم هؤلاء، في نفس السلة مع تنظيم القاعدة !<BR>مع ذلك فإن هذا أيضا لا يمنعنا من ملاحظة تفصيل آخر غاية في الأهمية ملخصه أن كثيرين من المقاومين يكونون ربما قد قرروا تجميد نشاطهم على أمل إعطاء العملية السياسية متسعا من هامش التحرك و المناورة فالمقاومة أولا و أخيرا، لا تنحصر فقط عند الشق العسكري خاصة و أن تاريخ الأمم يعلمنا أن الذين يجنون ثمار الثورة و العمل العسكري، هم عادة أولئك الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة.<BR>و مؤخرا فقط، اعترف الجنرال الأميركي مايكل هيرتلنغ قائد قوات الاحتلال في شمال العراق بارتفاع عدد العمليات الكبيرة التي يشنها تنظيم القاعدة في العراق و هذا الكلام مثلما هو واضح، يتناقض كليا مع التصريحات التي يدلي بها شخص كموفق الربيعي مثلا الذي شغل رسميا منصب مستشار الأمن القومي في العراق المحرر بوشيا، حول: "قرب الاحتفال بالانتصار بشكل نهائي على هذا التنظيم الإسلامي المتطرف" فالجنرال هيرتلنغ قال انه رغم تراجع عدد العمليات في العراق بشكل عام، فإن أعدادها في محافظات مثل ديالى، ارتفعت بشكل لافت للنظر هذا التصريح يدحض حالة التفاؤل التي سادت في الأشهر القليلة الماضية لدى الاحتلال نتيجة نجاح ما يسمى (قوات الصحوة) في إخراج عناصر تابعة للقاعدة من عدة مناطق داخل بغداد علي وجه الخصوص.<BR>إن أكبر دليل على الفشل الأميركي في المنطقة بوجه عام هو بلا شك هذه الزيارة التي قام بها الرئيس بوش فالرجل رغم عنجهيته و عقليته ’الكاوبويجية‘ لم يستطع حتى أن يملك شجاعة الإعلان إذا ما كان سيتسلل خلسة كحالة تسللات غيره من المسئولين الغربيين إلى العراق و بالتالي، و حتى لا ننخدع كثيرا بما تسوقه البروباغندا الأميركية فإنه مطلوب منا أن نقرأ ما بين سطور الأحداث و ما وراء الأخبار لأن الهزيمة البينة لحقت بالمشروع الأميركي و كفى بالمقاومة فخرا في أفغانستان و العراق و فلسطين و لبنان أنها كسرت شوكة خطابات المحافظين الجدد التي أطلقوها في البداية قبل أن يتراجعوا عنها حاليا حتى أنهم يعتبرون مجرد تراجع الاقتتال في العراق نصرا مؤزرا بمعنى أن أقصى ما يتمنونه حاليا لا يعدو أن يكون الأمل في رؤية العراق و قد عاد إلى مستواه و إلى ما كان عليه أمنيا فقط قبل مارس 2003 مع أن هذا ’الأمل‘ الأخير أيضا على تواضعه، مطلب مستحيل !<BR><br>