جبل الجليد الروسي يذوب في الشيشان
29 ربيع الثاني 1424

<BR>ربما تتفرد الجمهورية الشيشانية من بين دول العالم في السهولة النسبية لغزوها مقارنة بجغرافية أرض الاحتلال المضنية التي ينوء بها كاهل دولة الاحتلال , فهذه الدولة الصغيرة "المشاكسة" أثبتت دوما بما يتوافر لشعبها من قوة الإرادة ورصيد الإيمان أنها دولة عصية على التطويع , وأن شعبها تتأبى عليه نفسه أن يرضى بتذويب هويته وطمس حضارته الإسلامية العريقة .<BR> <BR>المسلم القوقازي لا يستحيل أرثوذكسيا سلافيا ؛ ولو كان من دون ذلك مصرعه , هذه الحقيقة هي أول بديهيات فهم الصمود البطولي للشعب الشيشاني المجاهد في وجه الغزاة السلاف , فمحاولات تركيع هذا الشعب المسلم ـ لغير مولاه ـ جميعها تكسرت على صخرة إبائه وإيمانه . <BR><BR><BR>كان بإمكان روسيا أن تغزو جمهورية الشيشان الإسلامية قبل أكثر من ثلاث سنوات (في العام 1999 ) ويستغرق غزوها للشيشان وسيطرتها على البلدات الكبرى والمحاور الرئيسية في الجمهورية تسعة أشهر إلى أن تعلن في الخامس والعشرين من شهر يونيو 2000 وعلى لسان قائد القوات الروسية في الشيشان والحاكم المدني للجمهورية أن الحرب انتهت في الشيشان وأن القوات الروسية لن تشن بعد الآن هجمات جوية أو بالمدفعية في "الإقليم" , كان بإمكان روسيا أن تفعل ذلك , مستفيدة من تواطؤ الغرب كله معها , لكنها أبدا لم تهنأ يوما ما باحتلالها لهذه الجمهورية الأبية . <BR><BR><BR>ففي شهر مايو الماضي , وحين كانت أنظار العالم كله متجهة للعاصمة السعودية الرياض التي كانت شهدت تفجيرات عنيفة استهدفت نزل يقطنها غربيون , كانت موسكو وبلدتان شيشانيتان تشهدان عمليات فدائية جريئة لم ينصفها الإعلام العالمي على الرغم من ضخامتها وتسببها في مقتل وإصابة أكثر من مائة روسي وشيشاني موال لموسكو . <BR>هذه التفجيرات لا يمكن عزلها عن نضال الشعب الشيشاني من أجل نيل حريته واستقلاله والذي عبر عنه القائد الشيشاني الشهير شامل باساييف حين أعلن في تصريح أدلى به عبر موقع قفقاس ـ سنتر (مركز القفقاس) الشيشاني و حمل توقيع عبد الله شامل أبوإدريس عن أنه هو المسؤول عن العمليتين الفدائيتين اللتان وقعتا في قرية زنامينسكوية شمالي الشيشان و إيليسخان ـ يورت , قائلا :"بعون الله و حمده تمكنت وحدة رياض الصالحين الاستشهادية الأسبوع الماضي من تنفيذ عمليتين ناجحتين استهدفتا المحتلين الروس و الخونة" .<BR><BR><BR>مشددا على الهدف الأهم للعمليتين :"إن هدف العمليتين لم يكن إخافة الشعب الشيشاني و إفزاعه كما يقول البعض اليوم لأنه من غير الممكن إثارة فزع الشيشانيين و ذعرهم أكثر من الآن. كما لم يكن هدفهما زيادة الوضع الراهن سوءا لأنه من غير الممكن زيادته سوءا بأكثر مما هو عليه الآن، بل كان هدفهما تصفية المحتلين الروس و متملقيهم جسديا".<BR>مستطردا في تصريحه قائلا :"إن هدف الهجوم (الفدائي) في زنامينسكوية كان القضاء على الـ إف. إس. بي المشهورة بسياساتها القمعية التي تستهدف الجميع في الشيشان، المشهورة بالظلم و التعذيب الذي تمارسه في السجون و الإعدامات اللاقانونية. <BR>أما هدف الهجوم (الفدائي) الثاني الذي نفذته وحدة الاستشهاديين في إيليسخان ـ يورت فهو كافيروف الذي كان يحضر اجتماعا يُحاول إظهاره بمظهر الاحتفال الديني و ما هو في الحقيقة سوى دعاية انتخابية لحزب "يدينايا روسيّا". أجل، لقد تمكن أحمد قاديروف اليوم من الإفلات من العقاب، لكن و بعون الله عاجلا أم آجلا سيلقى هو و جميع خونة الوطن الذين يمارسون الظلم و الوحشية على أراضينا و أيضا جميع المحتلين الروس، سيلقون كلهم جزائهم. و ستنفذ بإذن الله القرارات التي أصدرتها المحكمة بحقهم مهما كلفنا ذلك. <BR>إن هذين الهجومين (الفدائيين) ما هما بأكثر من جزء صغير من العمليات التي نعتزم تنفيذها ضمن خطتنا التي أعددناها لهذا العام و أطلقنا عليها اسم "عاصفة مكافحة الإرهاب". سيشعر الجميع بهذه العاصفة بإذن الله. أختتم كلامي بحكمة شيشانية تقول: من لا ينشد السلام يقع في الحرب". <BR><BR><BR>باسييف ورفاقه بهذه العملية ومثيلاتها في قلب موسكو وفي جروزني وجوديرمس وفيدنو وأرجون وغيرها يريدون أن يؤكدوا حقيقة لا ينكرها إلا مكابرو الكرملين وجنرالاته , وهي أن الحرب مستمرة في الشيشان بأقوى مما كان متوقعا لها , فالواقع يشهد أن القوات الروسية تواجه اليوم مأزقا حقيقيا بعد العديد من العمليات الناجحة لقوات "المجاهدين" خلال الأيام الماضية في المناطق الجبلية، والتي أودت بحياة عشرات الجنود الروس حسب اعتراف المصادر الرسمية الروسية، والمعروف أن موسكو غالبًا ما تخفي خسائرها الحقيقية وتقلل من أهميتها.<BR><BR><BR>أتى بوتين إلى الحكم قبل سنوات ثلاث لائذا بعزيمة لا تلين ومصمما على قهر الكرامة الشيشانية ورافضا أيا من الحلول التفاوضية مع الاستقلاليين الشيشانيين باعتبار أن القضية الشيشانية هي قضية داخلية لا تحل في الخارج ؛ بل في الداخل الروسي , وبكل قسوة وعنفوان لاعب الجودو فلاديمير بوتين وجيشه العتيد ظن أنه اللاعب الوحيد الذي بإمكانه أن يصرع شامل وفدائييه , وأن يكسر أنف الشيشانيين , فعمل على قمع الشعب الشيشاني بكل قوة ونفذ بحقه حملته البشعة لـ"التطهير العرقي" حتى قتل من الشعب الصغير الذي يجاوز المليون بقليل أكثر من مائة وخمسين ألفا وشرد وهجر ما بين 200 و500 ألف مسلم شيشاني بحسب المصادر القوقازية الرسمية وغير الرسمية (أي نحو نصف عدد سكان الجمهورية على حد قول بعض المصادر الإنسانية) لا يجدون مأوى لهم , ويعانون من قلة الطعام وأحوال الطقس الشديدة وندرة الرعاية الصحية. وحسب بوتين أن الأمور تسير دوما لصالحه لكن الرياح لم تأت بما يشتهيه البحار الروسي , فالملاحظ خلال الأشهر القليلة الماضية أن كثرة رماح الروس لم تلن قناة الشيشانيين "المجاهدين" ولم تحن جباههم , فقد شرعوا في تنفيذ عمليات فدائية ضخمة أسفرت عن مقتل المئات من الجنود الروس وأعوانهم خلال الأشهر القليلة الماضية , وساهموا في تأكيد الاعتقاد بأن القضية الشيشانية لا يمكن للروس "حلها" عسكريا , وهذا ما كان حذر منه جهاز الاستخبارات الألماني، إذ أنه مع اخضرار المناطق الجبلية في الجنوب الشيشاني وحلول فصل الصيف تشتد العمليات الفدائية للمجاهدين التي يستخدمون فيها أساليب مختلفة في حرب العصابات في مناطق يعرفون تركيبتها الجغرافية بكل دقة . <BR><BR><BR>عملية المسرح وتفجيرات مقار الحكومة الشيشانية الموالية لموسكو وإسقاط الطائرات الروسية وتفجير المدرعات والكمائن الأخيرة كلها خير شاهد على نجاح المقاومة وإتقانها لخوض حرب العصابات , وهذا كله دفع روسيا في الأشهر الأخيرة إلى السير في اتجاهين معا : ـ<BR>الأول : تصعيد حملتها العسكرية على المقاتلين الشيشان , وفي هذا الصدد تذكر المصادر الإخبارية الروسية استنادا إلى الأركان العامة للقوات الجوية الروسية (27/5/2003) أن الطائرات والمروحيات الحربية قامت بـ 1268 طلعة على الأقل فوق الشيشان في غضون أسبوعين , كما وأنها استغلت الحرب العراقية في تصعيد هجماتها ضد المقاتلين المسلمين في الشيشان . <BR>الثاني : سبر طريق التفاوض غير المهين مع الرئيس الشيشاني المنتخب أصلان مسخادوف , حيث تتلخص الشروط الروسية لحل مشكلة الشيشان في تسليم شامل باساييف لموسكو، وإيقاف عمليات المقاومة ونزع سلاح الفصائل الشيشانية , والنكوص عن معاهدة 12 مايو 1997م والتي تتحدث عن استعداد روسيا لتقبل استقلال الشيشان. وتعطي روسيا التي أنهكتها الحرب إشارات بشأن استعدادها للتفاوض عن طريق وسطاء ؛ منهم رئيس البرلمان الشيشاني المنتخب عام 1997 عيسى تيموروف المقرب من موسكو والذي أكد في الثلاثين من شهر مايو الماضي أن مجلس النواب الروسي (دوما) ينظر في مشروع عفو مشروط قدمه الكرملين , معتبرا انه "من المحتمل" إجراء مفاوضات مع الرئيس الانفصالي الشيشاني أصلان مسخادوف" <BR><BR><BR>وعلى الجانب الآخر , فإن الشيشانيين الذين أنهكتهم الحرب أيضا إلا أنهم لا يبدون مستعدين للتفريط في دماء الشهداء وتحمل فاتورة الحرب الروسية العدوانية عليهم وحدهم من دون أن يثأروا من الغزاة ويدحروهم , مازالوا مصرين على تنفيذ شرطهم الوحيد لتحقيق السلام وإيقاف العمليات الحربية والذي طالما عبر عنه القادة الشيشانيون بمن فيهم شامل باساييف وهو أن تكون المفاوضات على أساس معاهدة 12 مايو 1997م التي وقعها الرئيسان مسخادوف ويلتسين، وأدت إلى خروج القوات الروسية من جمهورية الشيشان، كما أن الرئيس مسخادوف يطالب بحضور مراقبين دوليين من الاتحاد الأوربي ومنظمة الأمن والتعاون الأوربية وغيرهما من الهيئات الدولية.<BR><BR><BR>وغنى عن البيان أن الشيشانيين استقبلوا مشروع قرار العفو الروسي بقدر كبير من الفتور لاعتباره لديهم نوعا من الخداع الذي مردت موسكو عليه طوال تعاملها مع القضية الشيشانية , فقد وصف الممثل الخاص للرئيس الشيشاني و نائب رئيس الوزراء أحمد زاكاييف يوم20/5/2003 مشروع قرار العفو عن الشيشانيين الذي قدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمجلس الدوما الروسي بأنه "خدعة" .<BR><BR>و أضاف زاكاييف أن هذا المشروع هو "كذبة معتادة" تهدف لخداع الرأي العام العالمي و الروسي و تحدث قائلا:"إن المناضلين الشيشانيين ينظرون لهذا العفو كما نظروا في السابق للاستفتاء المزيف" مردفا :"إن أي عرض دعائي تعده موسكو لن يتمكن من منع الشعب الشيشاني عن النضال المقدس الذي يخوضه من أجل أطفاله و طرد المحتلين تماما من وطننا" .<BR><BR><BR>فبكل مرارة يتذكر زاكاييف جرائم الروس في الشيشان التي لا تجعل لعاب الشيشانيين يسيل لأي عرض مغر تقدمه روسيا للسلام فضلا عن كون عرضها هذه المرة شديد الإجحاف ـ يتذكر ذلك ـ قائلا : " الشيشانيون لن يسامحوا أبدا روسيا المجرمة التي تبيد الشعب الشيشاني" مضيفا :"إنهم سوف يحاسبون على موت مئات الألوف من الأطفال و النساء الشيشانيات المسنات، على التعذيب الوحشي و المعاملة المهينة التي يعاملون بها المعتقلين في مخيمات الاعتقال الجماعي، على المقابر الجماعية التي يعثر فيها على جثث أشخاص قضوا نحبهم من جراء التعذيب، على دموع أطفالنا الذين تيتموا، على آلام الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن أغلى ما لديهن في الدنيا. في الجرائم المرتكبة ضد الله و الإنسانية لا وجود للزمان و لا يُعفى عنها" .<BR><BR><BR>الروس الذين لاقى منهم 11500 من الجنود الروس وغيرهم (حسب جمعية أمهات الجنود الروس وأكثر من ذلك بكثير حسب أحد السياسيين الروس) حتفهم على أيدي الأبطال الشيشانيين , ما يزالون يعتبرون أن هذا ثمن بخس لتطويع الجمهورية المسلمة الأبية الغنية بالنفط , ويحتاجون إلى سنوات أخرى لإقناعهم بعبثية ما يصنعون .. هذه السنوات لا يتعجلها الشيشانيون أيضا , فأحد القادة الشيشانيين تحدث عن هذه السنوات قائلا : "مضت عشر سنوات وبقيت أربعون على الاستقلال" في إشارة إلى قول الرئيس الشيشاني الراحل جوهر دوداييف "إن المعركة الحالية مع روسيا ستستمر 50 سنة لتحقيق الاستقلال الكامل"<BR>بدأت روسيا طريق الاندحار في الشيشان رغم كل مكابرتها وهي في الأخير ستذعن , فسخونة معارك الصيف الحالي تؤذن بذوبان جليد الثلج الروسي .. <BR><BR><br>