مراجعات ( الجماعة ) في مصر .. مقاربة واقعية
23 رمضان 1424

في أواسط تسعينات القرن الماضي .. عندما أطلق فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي ، وفضيلة الشيخ محمد الغزالي _رحمهما الله_ و الأستاذ فهمي هويدي مبادرتهم الطموحة لوقف الجرح النازف في مصر, اشتعل الجدل في صفوف جميع أطياف العمل السياسي والأمني في مصر .<BR><BR> وانطلقت الأسئلة تترى في أعقاب بعضها محذرة من التعاطي مع المبادرة أو مرحبة بها , فكانت جبهة الرفض الرسمية والإعلامية تتساءل من جهتها : <BR>لماذا يتحرك العلماء الآن ؟ هل يجدي مع الإرهاب حوار ؟ هل يذعن هؤلاء المأجورين لأقوال العلماء , وأي مرجعية لهؤلاء العلماء عند الإرهابيين ؟ هل نكافئ المجرمين على جرائمهم ؟ وهل نأبى على العدالة أن تأخذ مجراها ؟ لن تفلح مع هذه الشرذمة سوى سياسة "الضرب في سويداء القلب" التي أطلقها وزير الداخلية المصري الراحل زكي بدر ؟ إن لهؤلاء الإرهابيين مطالب يستحيل التجاوب معها , فهل تغير مصر أكبر الدول العربية سياستها من أجل عيون أغرار ؟ <BR><BR>وتمنطق الرافضون من حملة السلاح , بأيديولوجيا عدم الالتقاء مع "الكفر" في منتصف الطريق , وظلت تساؤلاتهم تنطلق من نوعية : <BR>لماذا نعطي الدنية في ديننا ؟ هل نبادر إلى التخلي عن مشروعنا "الجهادي" لأجل سلامة أجسادنا , هل نملك تعطيل "الجهاد" ؟ <BR><BR>ولم يستمر الجدل طويلاً , إذ سرعان ما طويت صفحة الجدل حولها في أعقاب إقالة وزير الداخلية المصري الراحل عبد الحليم موسى الذي كان ترحيبه المبدئي بالمبادرة سبباً في إقالته .. <BR>وبدا من الأحداث التي تلت إحباط المبادرة أن العالمين الجليلين كانا يسبقان التاريخ ويستشرفان المستقبل ؛ إذ حالت ضبابية الرؤية الأمنية دون تجنيب مصر سنوات من العنف والعنف المضاد خسرت مصر بسببه مئات من شبابها من الشرطة والجماعات، إضافة إلى أكثر من ملياري دولار خسائر في قطاع السياحة وحده الذي تأثر بحادثة الأقصر الرهيبة التي نفذها شباب من الجيل الثالث من الجماعة الإسلامية يئسوا من انسداد أفق الحل الأمني.<BR><BR>نعم في الأخير نجحت الدولة في حل المعضلة الأمنية لديها وفق معطيات ليست بالضرورة قابلة للاستنساخ , فقد مارست "الجماعة الإسلامية" المصرية وأجهزة الأمن سياسة عض الأصابع كلاهما ضد الآخر , ولم تكن أصابع الجماعة قوية تتحمل ضغط الدولة المصرية . كان يتوافر للجماعة آلاف من الأعضاء في مقابل نحو مليون من عناصر الأمن المركزي المصري ، بالإضافة إلى عدد مماثل من الجيش لم يكن قد استدعته الأحداث للتحرك علاوة على رصيد عريق في التصدي لأحلام الجماعات , وكان الدعم اللوجيستي لـ"المقاتلين" ضعيفاً للغاية لا ينتصب لمقاومة عنيفة ذات نفس طويل، بعكس ما هو الكائن اليوم لدى تنظيمات دولية أشد مراساً بكثير من الجماعة الإسلامية .<BR><BR> بيد أن نجاح الدولة هذا لا يمكن مقارنته بما جرى على الجانب الآخر , فأهم من ذلك كله أن الجماعة كانت قد بدأت تفقد إيمانها بجدوى ما تفعل , حين ارتأى منظروها وقاعدتها الشبابية أنها باتت تحرث في البحر وتبني قصورها فوق الرمال ؛ حين استحالت الوسائل أهدافاً ، فإذا الثأر هو الفاعل الرئيس في الأحداث ( كما هو متجذر في بنية التركيبة الثقافية لأبناء الصعيد )، وإذا الشرخ يأتي في الفكر قبل العمل المسلح ذاته، فالحق أن الجماعة الإسلامية المصرية قد خسرت معركتها فقط حينما أحس مقاتلوها أنهم يصوبون بنادقهم لأفراد الشرطة من أجل الثأر الشخصي فيما الدعوة الإسلامية تنتقص من أطرافها بسبب هذا العنف الأرعن .<BR><BR>وبالتالي فإن تراجع الجماعة كان بالأساس فكرياً قبل أن يكون عسكرياً , وهذا التراجع الفكري بدوره تأخر كثيراً، واستدعى مقتل 93 وإصابة 68 من السياح الأجانب , ومقتل 42 وإصابة 45 من النصارى , ومقتل 382 وإصابة 400 من ضباط وجنود الشرطة , إضافة إلى مقتل عدد من المسؤولين والصحفيين أبرزهم رفعت المحجوب (رئيس مجلس الشعب السابق) ، و(الصحفي العلماني) فرج فودة ، إضافة إلى إصابة صفوت الشريف (وزير الإعلام) , علاوة على مقتل وإصابة المئات من أفراد الجماعة الإسلامية ، قبل أن تبدأ الدولة في تهيئة الظروف المناسبة للمراجعات , وتفسح المجال لأن يواجه الفكر نظيره . <BR><BR>كان الشيخان الشعراوي والغزالي يريدان أن يحدثا هذا الشرخ في منظومة الأفكار التي تسيطر على عقول قيادات الجماعة الإسلامية , قبل أن تجنح الجماعة إلى الاستسلام قهراً؛ لأن هذا الأخير من شأنه أن يبقي الأمل "الجهادي" مخبوءاً في صدور الأغرار لا يقتلعه ألف مدفع وألف كتاب.<BR>وبحكمتهما , كان يدركان أن الإقناع قمين بأن يحل القضية إلى الأبد فلا تكون عرضة لتغير موازين القوى من جديد . <BR>وما كان يدركه الشيخان , بدا صحيحاً بعد مرور سنوات عديدة وإن تبدى للجوقة العلمانية نقيضه ؛ إذ أدت عملية 11 سبتمبر إلى إحياء نزعة قتالية في غير ما بلد إسلامي ترتكن إلى استراتيجية لم تكن في يوم من الأيام تدور في مخيلة الحالمين من الجماعة الإسلامية المصرية تلك الاستراتيجية التي اصطلح في مراكز صنع القرار الأمريكية على تسميتها "الحرب غير المتوازية" والتي تقوم على أن التهديد الذي تواجهه الولايات المتحدة ـ أو غيرها ـ لا يأتي بالضرورة من قبل دول أخرى تملك ترسانة أسلحة موازية للترسانة الأمريكية ، بل يقوم بمقدار ما يمكن أن تلحقه تنظيمات تستطيع أن تسدد ضربات موجعة لدول كبرى بها من أضرار، وبمقدار ما تنجح تلك التنظيمات من تحقيق أجندتها الخاصة من خلال أدوات "الحرب غير المتوازية" أو غير "المتوازنة" . <BR><BR>وهذا بدوره ينقلنا إلى نقطة خطيرة , وهي أن العمل العنيف قابل لأن ينحى مناحي مختلفة , ويأخذ أطواراً يمكن أن تمثل تهديداً حتى للدولة العظمى لا يمكن لجمها بسهولة في ظل معطيات فكرية ثورية، وهذا يعني تهافت الرأي القائل بإمكانية مواجهة العنف السياسي عبر الحلول الأمنية فقط , فما فشلت فيه الجماعة الإسلامية المصرية عسكريا لا يعني أن الفشل ذاته سيحيق بكل من يتخذ العنف وسيلة للتغيير أو المواجهة مع مشاريع تتصادم مع رؤيته ؛ فقد تنجح جماعات مسلحة أخرى يتوافر لها من الدعم اللوجيستي والمعنوي القوي ما لم يتوافر للجماعة المذكورة في تحقيق بعض مآربها وفقا لنظرية "الحرب غير المتوازية" الأمريكية .<BR><BR>لذا كان من الضروري أن يلتفت الساسة إلى مبادرة الشيخين الجليلين في حينه , قبل أن يستفحل الخطر , ولعل الذين راهنوا على الحلول الأمنية وحدها قد آبوا الآن إلى حقيقة مفادها أن معضلة الجماعة الإسلامية المصرية لم تستطع الدولة حلها في الأخير إلا عبر إطلاق الهواء ليتنسمه قادة الجماعة وإن في غياهب السجون , حتى يتسنى لهم مراجعة مفاهيمهم وأفكارهم . <BR><BR>ومن هنا أزعم أن أكبر ضربة وجهت لمشروع الجماعة الإسلامية المسلح لم يكن من خلال المحاكمات العسكرية المتوالية وتدمير حقول القصب بمن فيها بصعيد مصر , وإنما كان من خلال المراجعات الفكرية التي نزعت غطاء المشروعية عن أفعال المقاتلين بنظر قادتهم أنفسهم ، وقد كان العلماء وقت أن أطلقوا مبادرتهم بعيدي النظر وأكثر حرصًا على الدولة من جنرالاتها ؛ فالعنف الذي ينطلق من أيديولوجية يراها أصحابها "جهادية" غير قابل للتوجيه الصحيح إلا عبر حوار مع علماء صادقين يفهمون ما يدور بعقول الصغار من هذا التيار؛ ومن ثم يبينوا لهم خطأهم فيما هم فيه مخطئين ويسعون معهم لتحقيق الصواب من أجندتهم ؛ فإن الله لم يخلق شراً محضاً كما هو معلوم , ولعل من أظهر ما ورد في كتب المراجعات الخاصة بالجماعة الإسلامية المصرية هو التشديد على أن غياب التوجيه من قبل العلماء في تبصير الشباب الثائر بآليات التغير الجائزة شرعاً كان سبباً رئيساً في سفك كثير من الدماء بغير وجه حق .<BR><BR>ولقد كان من أهم دروس حقبة العنف والعنف المضاد المصرية هو أن ممارسة حوار الطرشان بين قيادات الحركات المسلحة ووجهات أمنية وعلماء يسميهم الشباب علماء السلطة لم يكن ليجدي ولو استمر لقرون من دون تدخل علماء لهم حضور وتقدير واستقلالية بل ومعاناة أحياناً لدى الشباب الثائر , وبالتالي فإن كتب المراجعات لم ولن تكن مقنعة لقواعد تيار الجماعة الإسلامية المصرية لو كانت صدرت من قبل علماء لا يتمتعون بالاستقلالية المطلوبة ، وهو ما وفر لها المصداقية والقبول لدى قطاع عريض من أعضاء الجماعة سئم طول الطريق الضبابي برغم ما اعترى الكتب ذاتها من أخطاء كونها غير صادرة عن علماء أصلاً . <BR><BR><br>