قصة معركة ( مدونة الأسرة ) في المغرب
21 ذو القعدة 1424

تحتل مدونة الأسرة صدارة جدول أعمال البرلمان المغربي بمجلسيه (مجلس النواب ومجلس المستشارين)، وتأتي هذه الصدارة من المخاض الطويل والعسير الذي سارت فيه معركة قضية المرأة بين الجبهة الدينية والجبهة اللادينية، والذي اشتعل يوم الجمعة فاتح ذي الحجة 1419 هجري الموافق 19 مارس 1999 ميلادي، أي يوم ألقى الوزير الأول الأسبق الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي (الكاتب العام السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي، وقائد أول حكومة تناوب توافقي) خطاباً في فندق هيلتون بالرباط قدم فيه "خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية أمام الرئيس العام المساعد للبنك الدولي ووفد غفير من الصحافيين. <BR>وذلك في الوقت الذي كان فيه حزب العدالة والتنمية (الحديث عهد بالبرلمان) يطالب الحكومة بمنع مسابقة "ملكة جمال الرباط"، ويستعد لتنظيم وقفة احتجاجية أمام فندق هيلتون نفسه في شهر أبريل من العام نفسه، ولم تهدأ المعركة نسبياً إلا يوم نصب الملك محمد السادس "اللجنة الملكية الاستشارية لمراجعة مدونة الأسرة" في شهر شتنبر 2001م، ويوم العاشر من شهر أكتوبر 2003 م سكت الجميع بعد الخطاب الملكي الحاسم أمام البرلمان، حيث عرض ملك المغرب الخطوط الكبرى لمشروع المدونة الجديدة، داعياً أعضاء المؤسسة التشريعية إلى النظر والمداولة في الجوانب التنظيمية والشكلية دون الجوانب الشرعية التي حسمتها اللجنة المختصة ووافق عليها الملك بوصفه "أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين" كما ينص على ذلك الفصل التاسع عشر من دستور المملكة المغربية.<BR><BR>شرارة ومعركة طويلة<BR><BR>ترجع بدايات المعركة حول مدونة الأحوال الشخصية إلى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، على عهد الملك الراحل الحسن الثاني ، حيث نشب خلاف حاد بين هيئات إسلامية وهيئات يسارية لم يعمر طويلاً -كما حدث مع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية- طالبت فيه الهيئات الثانية بتعديل أحكام المدونة والقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، خاصة في الولاية وسن الزواج والطلاق والإرث، فتصدت لها الهيئات الأولى، وقامت بجمع التوقيعات ضد تلك المطالب، ليتدخل الملك بصفته الدينية مصراً على أنه لن يحل ما حرم الله ولن يحرم ما أحل الله، ويعين لجنة علمية أدخلت بعض التعديلات عام 1993م وطوي الموضوع إلى حين.<BR>لكن القضية عادت لتنبعث بقوة من جديد بعد تنصيب أول حكومة للتناوب التوافقي تحت رئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، ومضيها في تنزيل برامجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، ومن تحت عباءة الوزير اليساري سعيد السعدي (من حزب التقدم والاشتراكية ذي الماضي الشيوعي) أخرجت "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية". <BR><BR>وإلى الآن لا يعلم أحد _إلا الراسخون في الاطلاع_ على خفايا الأمور من هي الجهات التي كانت وراء إعداد تلك الخطة في جنح الظلام، ولحساب من كانت تشتغل، غير أن قرائن الأحداث أظهرت أن الذين ساندوا الخطة بخيرها وشرها كانوا جمعيات نسائية يسارية استغلت صعود الأحزاب اليسارية إلى الحكومة وإمساكها بمقاليد الأمور، فأدرجت هذا المشروع ضمن المشاريع الاجتماعية للحكومة الجديدة، بتعاون وإشراف البنك الدولي.<BR><BR>ولما وضع المشروع على طاولة المجلس الحكومي، كان (وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق) الدكتور عبد الكبير المدغري أول من تصدى له، بحجة أنه مشروع يحمل في طياته مطالب وقوانين تخالف الشريعة الإسلامية وتنصر القوانين الدولية رغم أن المغرب أبدى تحفظاته عليها، خاصة الاتفاقية الدولية لرفع كافة أشكال التمييز ضد المرأة (1989م)، واتفاقية حقوق الطفل (1979م)، على إثر ذلك بدأت الحرارة تتزايد في النقاش، فأصدرت رابطة علماء المغرب بياناً ضد المشروع يوم 12 صفر الخير 1420 هجري الموافق 27 مايو 1999 ميلادي،حيث أكدت فيه أنها لم تستشر في الموضوع، وأن الخطة أعدتها جهات غير مختصة في غياب العلماء وفقهاء الشريعة، ما أصدر العلماء خريجو دار الحديث الحسنية بياناً يوم سادس ربيع الأول 1420 هجري الموافق 20 يونيو 1999 ميلادي وصفت فيه مسلك العمل المتبع في إخراج المشروع بأنه غير سليم ولا يرتكز على منهج قويم "من ثم وجب التنبيه عليه وتوضيح مراميه وتحذير المؤمنين والمؤمنات من غوائله وسيئ عواقبه"، وجاء بيان الهيئة الوطنية لعدول المغرب يوم 8 ربيع الثاني من السنة نفسها الموافق 22 يوليو، باعتبارها من أكثر الهيئات احتكاكاً يومياً بقضايا المواطنين في الأسرة" فرفضت ما في الخطة، ودعت إلى تشكيل لجنة وطنية يكون على رأسها علماء متخصصون في الشريعة والقانون، وتضم كل الفعاليات الوطنية ذات المروءة.. يكون الهدف منها تتبع حركات هذا المخطط ومتابعة التصدي له بكل الوسائل الممكنة".<BR>ثم توالت بالعشرات والمئات بيانات الجمعيات النسائية والمدنية الرافضة المنددة لتجتمع أخيراً في "الهيئة الوطنية لحماية الأسرة المغربية"، وتنزل المعركة إلى الشارع المغربي عبر عريضة شعبية وزعت على أوسع نطاق بالمغرب وأرسلت الآلاف من التوقيعات إلى الوزير الأول حتى تجاوزت المليون ونصف، وعلى الجهة الأخرى اصطفت الهيئات المؤيدة في شبكة وطنية لمساندة الخطة تكونت من جمعيات الأحزاب اليسارية المشاركة وغير المشاركة في الحكومة، ومضت تستعدي الهيئات الدولية الأجنبية ضد المغرب وتحفظاته على القوانين الدولية، وبلغت الجرأة بكاتب الدولة الذي ظل يرعى المشروع أن أرسل تقريراً إلى منظمة دولية يعرض فيها بالنظام الملكي المغربي، واحتكار ذكرانه لوراثة الملك من دون إناثه معتبراً ذلك شكلاً من أشكال التمييز ضد المرأة.<BR><BR>نقاط الخلاف<BR><BR>لم تكن نقاط الخلاف بالهينة بين الجبهتين، إذ إن الخطة كانت محاولة تنزيل مغربي لقرارات وتوصيات المؤتمرات الدولية الخاصة بالمرأة والأسرة والإسكان، والساعية إلى فرض وجهة نظرها على الدول المستضعفة، ابتداء من مؤتمر نيروبي سنة 1985م إلى مؤتمر بيكين 1995م، وتقف على رأس النقاط قضية المرجعية، فأصحاب المشروع جعلوا الكلمة العليا للمرجعية الدولية وإن تناقضت مع المرجعية الإسلامية، وإذا حدث هذا فعلى المجتهدين أن يبذلوا وسعهم لجعل الشريعة الإسلامية متطابقة مع القوانين الدولية، في حين أن المناهضين لتلك الخطة ظلوا دائماً مصرين على جعل الكلمة العليا للشريعة الإسلامية، خاصة وأن قوانين الأسرة هي الحصن الأخير الذي بقيت فيه الأحكام الشرعية من دون باقي المجالات، وليس غريباً أن يشهد المراقب استماتة كبيرة من الإسلاميين شعبيين ورسميين في الدفاع عن "الحصن الأخير".<BR>وإذا كانت قضية المرجعية هي النقطة الجوهرية في الخلاف، فإن ما تبقى تحصيل حاصل، فقضايا حذف الولاية نهائياً، ورفع سن الزواج، وجعل الطلاق بيد المرأة أو القاضي، والمساواة في الإرث، واقتسام الممتلكات بعد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات، والحرية الجنسية للمراهقين، وتقنين الدعارة، وغيرها من القضايا كانت هي الأخرى موضع مواجهات إعلامية وسياسية وشعبية بين الفريقين.<BR>ومن أسباب التوتر والمواجهات قضية التمويل الأجنبي المشروط الواضح، فتلك الخطة مولها البنك الدولي ووثق ذلك في الصفحة الأولى للمشروع: بتمويل من البنك الدولي، ومن المعلوم أن البرامج المتعلقة بقضايا التعليم والمرأة والإسكان وتنظيم النسل أصبحت هي المفضلة عند البنك الدولي، ولم يعد البنك يكتفي برهن السياسات الرسمية لمشاريعه ومخططاته، ولكنه انتقل بعد ذلك على التحكم في مؤسسات المجتمع الأهلي وتحويلها إلى مؤسسات للضغط على الحكومات من أجل فرض قيم العولمة الغربية، ولقد علم أن دول الاتحاد الأوروبي منحت لوحدها أربعة مليارات سنتيم لجمعيات مدنية مغربية، دون الحديث عن الهيئات الأمريكية والكندية، لذلك لم يكن غريباً أن تصر الجهات المؤيدة للخطة على ضرورة وفاء المغرب لتعهداته فيما يتعلق بخطة بيكين، ولا غرابة أن يظهروا تأففهم وتضايقهم من التحفظات التي سجلتها الحكومة المغربية على المشروع الدولي، وإذا ظهر السبب بطل العجب.<BR><BR>مسيرتان في يوم واحد<BR><BR>كان يوم 12 مارس 2000 م حاسماً قاطعاً في تاريخ "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، ففي هذا اليوم نظمت مسيرتان في كل من الدار البيضاء والرباط ، ففي العاصمة الاقتصادية للمغرب تجمع أكثر من مليونين من المناهضين لتلك الخطة في مسيرة حاشدة أثارت الانتباه الدولي، وسارعت الهيئات الإعلامية والاستخباراتية إلى مراقبتها عن كثب، وتداعت إلى مراقبتها وتحليلها لقياس قوة الجبهة الدينية بالمغرب، وفي الرباط تجمع المؤيدون للخطة فلم يتجاوزوا رقم 100 ألف، وبالنظر للمسيرتين قوة وتنظيماً وحماساً ودلالة أيقن المراقبون أن غالبية الشعب المغربي لا يريد بديلاً عن الأحكام الشرعية الإسلامية، وأنه راغب في التعديل والتطوير لكن تحت الراية الإسلامية، فقال الشعب كلمته، واختار وجهته.<BR>وفي أعقاب المسيرتين أنشأ الملك محمد السادس، وكان قد اعتلى العرش بعد وفاة والده الحسن الثاني يوم الجمعة 23 يوليوز 1999م، اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل مدونة الأسرة برئاسة إدريس الضحاك، ثم استبدل بالأستاذ محمد بوستة (الزعيم السياسي في حزب الاستقلال)، وقد استطاع هذا الأخير السير باللجنة إلى نهاية أشغالها مستمعة إلى جميع الهيئات والمنظمات والتيارات السياسية، متلقية وثائق ومذكرات تفصيلية فيها اقتراحات تعديلية.<BR><BR>الأسرة بديلاً عن الأحوال الشخصية<BR><BR>بتقديم الملك لمشروع مدونة الأسرة انتقل المغرب من "قانون الأحوال الشخصية" إلى "مدونة الأسرة"، فلم يعد الاهتمام منصباً على حقوق الأشخاص وواجباتهم في معزل عن الآخرين كما يفعل الغرب، بل أصبحت الأسرة حاضرة بجميع مكوناتها في القوانين الجديدة، وبذلك نسخت المدونة الجديدة القوانين القديمة جملة وتفصيلاً، وشكلاً ومضموناً.<BR>وهي تختلف عن الخطة المرفوضة اختلافاً كبيراً، فإذا كانت الخطة مستوردة من الخارج، فإن المدونة الجديدة إبداع مغربي صرف، وإذا كانت الخطة قد أخرجت في جنح الظلام كما سلف، فإن المدونة الجديدة ظهرت في وضح النهار وتابع أشغالها الخاص والعام، ونشرت وقائع أعمالها في وسائل الإعلام، وإذا كانت الخطة قد جعلت القوانين الدولية فوق المرجعية الإسلامية، فإن المدونة الجديدة قد صححت الوضع فجعلت كلمة الشريعة هي العليا، واجتهدت اجتهاداً جماعياً داخل الحقل الفقهي الإسلامي الواسع دون أن تتقيد بأي مذهب من المذاهب على الرغم من اعتصام المغرب بالمذهب المالكي. <BR>المدونة الجديدة تضم 400 مادة، تتناول أحكام الأسرة زواجاً وطلاقاً وما قبلهما وما بعدهما، ويمكن تحديد الجديد فيها فيما يلي:<BR><BR>1- رفع سن الزواج إلى 18 سنة عند الذكور والإناث معاً، مع فتح الباب لاستثناءات يقدرها القاضي بعد طلب المعنيين بالأمر.<BR>2- تقييد تعدد الزواج وتحميل القاضي مسؤولية مراقبته.<BR>3- الاختيارية في ولاية الزواج، فإن شاءت الراغبة في الزواج أن تتزوج بغير ولي فلها ذلك.<BR>4- إعطاء القاضي سلطة في مراقبة الطلاق وإجراءاته وضمان حقوق المطلقة.<BR>5- تحميل الزوجين مسؤولية رعاية الأسرة والأطفال.<BR>6- اقتسام الثروة المشتركة بين الزوجين في حالة الفراق أو الوفاة،<BR>وعلى العموم فإن المدونة الجديدة لم تخرج فيما جاءت به عن دائرة الشرع الإسلامي حسب كثير من العلماء والفقهاء والهيئات والجمعيات، وعلى رأسهم الدكتور أحمد الريسوني (أستاذ قاصد الشريعة وأصول الفقه الإسلامي بجامعة محمد الخامس بالرباط)، والرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، ورئيس اللجنة العلمية حالياً به، وقد أجمعت كل الهيئات السياسية والعلمية على الترحيب بالمدونة الجديدة، واعتبارها منعطفاً تاريخياً في تاريخ المغرب ونساء المغرب وأسره، وعبرت عن ذلك بالانخراط في حملة تحسيسية واسعة النطاق في وسط فئات الشعب المغربي. <BR>ومع كل هذا ما تزال بعض الجمعيات النسائية الصغيرة تحاول الضغط على نواب البرلمان من أجل الحصول على بعض المكاسب، وتحقيق بعض التعديلات المرغوب فيها، ولكن ذلك لن يجدي فتيلاً بعد أن أكد الملك غير ما مرة أن الجانب الشرعي غير خاضع للنقاش، وأن الجهد ينبغي أن يتوجه صوب التفصيلات الجزئية التنظيمية الخاصة بتنفيذ القوانين الجديدة.<BR><br>