الإعلام السوري ومشكلات الإرث القديم
28 ذو الحجه 1424

لا شيء يختلف كثيراً عن الدول التي تمتلك إرثاً أجنبياً (اشتراكياً أو رأسمالي ..) فالإعلام ليس إلا سلاحاً بيد الدولة، تحركه كيفما شاءت، لضمان السلطة وبقاء الشعارات والقوانين، على الرغم من النتائج العكسية التي تحصدها أحياناً.<BR>منذ عشرات السنين كان لدى الاتحاد السوفيتي السابق صحيفتين رئيستين، هما: صحيفة (البرافدا)، وتعني في اللغة الروسية: (الحقيقة)، وصحيفة (ايزفيستا)، وتعني: (الأخبار).<BR>واعتاد السوفييت التهكم على تلك الصحف الرتيبة والمسيّسة بالقول: " لا يوجد أخبار في الحقيقة، ولا حقيقة في الأخبار".<BR>وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفيتي ذهب منذ نحو 12 عاماً إلى غير رجعة مأمولة، إلا أن الكثير من الدول لا تزال تجتر السياسة الإعلامية القديمة لتلك الدولة، أملاً في حصد ثمار زرعها رواد الفكر الاشتراكي العالمي، وربما كسلاً عن تغيير أنظمة موروثة باتت بحكم القوانين العرفية.<BR><BR><font color="#0000FF">الهيمنة الحكومية على الإعلام: </font><BR>( تشرين ) و ( البعث ) و( الثورة ) ثلاثية صحفية يومية تنشر معظم الأخبار المحلية والعربية والعالمية في سورية بتشابه كبير، فيما تبقى مجالات الاختلاف في الزوايا وأسماء الصحفيين والتحقيقات التي لا تذهب أبعد من كشف تسريبات في خزانات المياه في إحدى المناطق، أو شكاوى المزارعين ضد (الآفات الزراعية)، أو بعض المشاكل الفنية في مستشفى تغص أسرّته بكثرة المرضى هرباً من القطاع الصحي الخاص، والذي تزيد تكلفة النوم في إحدى غرفه (دون إجراء عملية واحدة) عن راتب موظف لشهر كامل،<BR>وتسيطر وكالة الأنباء السورية (سانا) على معظم الأخبار الواردة إلى الصحف اليومية، عدا التحقيقات واستطلاعات الرأي التي يجريها صحفيو المؤسسات الإعلامية، حيث تعد وكالة (سانا) المزود الرئيس للأخبار، والتي تستقيها من وكالات الأنباء العالمية، مع إجراء التعديلات الضرورية في سياق الصياغة، تناسباً مع السياسة العامة حصرياً.<BR>وعلى الرغم من أن السنوات الثلاث الماضية التي مرت على سورية، شهدت محاولات انفتاح إعلامية، وإصلاحات سياسية واقتصادية عديدة، إلا أن الواقع لا يزال بعيداً عن الطموحات، ذلك أن التجربة الوحيدة التي نجحت، وأفشلتها السلطات السورية، قد وأدت من جديد آمال التطور والإصلاح.. وإليكم الحكاية :<BR>حصل أحد الإعلاميين السوريين وأحد أشهر رسامي الكاريكاتور (علي فرزات) على ترخيص لإصدار صحيفة أسبوعية أطلق عليها اسم (الدومري) ، وبعد مرور نحو عامين على عملها، وحصولها على انتشار واسع وكبير بين مختلف الطبقات السورية، عادت الحكومة لإغلاق الصحيفة، مدعية أنها تحتاج لتجديد الترخيص.<BR>ورغم مرور نحو عام على إغلاقها، لم يستطع القائمون عليها الحصول على تجديد لترخيصها.<BR>يشير بعض المواطنين إلى أن تجربة صحيفة (الدومري) على الرغم من بساطتها، لاقت قبولاً واسعاً بين أوساط السوريين، بسبب الحاجة الماسة التي يحس بها المواطنون إلى إعلام غير حكومي وغير مسيس، لا يخضع للرقابة المباشرة ( رغم خضوع الدومري للرقابة بشكل مستمر).<BR>واستطاعت الصحيفة أن تحاكي مشاكل معظم الناس الذين يعانون من جور بعض الأنظمة القديمة، وتسلط الكثير من المسؤولين وأبناء المسؤولين النافذين، والفقر والبطالة وقلة الدخل وغيرها من المشاكل الكثيرة التي يعاني منها المواطنون السوريون .<BR><BR><font color="#0000FF">آليات عمل الإعلام السوري الحكومي: </font><BR>من المعروف لدى معظم السوريين أن صحيفة (البعث) ناطقة باسم الحزب الحاكم (حزب البعث العربي الاشتراكي)، وصحيفة (الثورة) ناطقة باسم الحكومة، وصحيفة (تشرين) ناطقة باسم الشعب – أو هكذا يفترض - .<BR>إلا أنهم يعرفون أيضاًَ أن الصحف الثلاثة، فضلاً عن التلفزيون السوري بقنواته الأولى والثانية والفضائية، والإذاعة العامة وإذاعة صوت الشعب، تخضع لنفس الصرامة والأنظمة والقوانين والسياسة الحكومية ذاتها .<BR><BR>وتندرج كل تلك الوسائل الإعلام تحت سياسة السير باتجاه تحقيق الأفكار والأهداف العامة للسياسة السورية، كغيرها من الوسائل الإعلامية التي توجد في معظم الدول العربية (كمصر، والأردن، وليبيا، والمغرب، ودول الخليج ...)<BR>على سبيل المثال، تجاهد كل تلك الوسائل الإعلامية في تسليط الضوء على أي كلمة ثناء أو وصف إيجابي للسياسة السورية الخارجية، ما يخلق حالة لدى المواطن الذي يتابع الإعلام السوري فقط بأن كل دول العالم تعد سورية (قدوة عليا في سياستها).<BR>وهو تماماً ما ينطبق على معظم السياسات الإعلامية العربية.<BR>الحالة المصرية - على سبيل المثال - في التعاطي مع خطابات ( الرئيس ) من ترديد خطاباته عدة مرات، وإعادة طباعته ونشره مرة بعد أخرى، ودراسة الخصائص اللغوية والإيديولوجية والمنظورة واللامنظورة فيه على مدة عدة أيام، والإشادة بعمق وسعة أفق الرئيس وشموليته للمرحلة الراهنة، وتخطيطه لمستقبل أكثر إشراقاً (!!!) رغم كل الأزمات التي يمر بها المواطن المصري ، هي ما يحدث في سوريا دون كبير اختلاف. <BR><BR><font color="#0000FF">الشائعات والتكتم الحكومي: </font><BR>سمحت تلك الآليات القديمة التي تمسك بزمام الإعلام بيد من حديد إلى ظهور إعلام ليس أقل تأثيراً من الإعلام الحكومي، وهو إعلام الأخبار الشفهية والشائعات، والتي تنتشر بسرعة مضاعفة عن أي خبر مبثوث في وسائل الإعلام الحكومية.<BR>ويساهم تكتم وسائل الإعلام في انتشار تلك الشائعات ورواجها، رغم تدني مصداقيتها وغموض مصدرها .<BR>على سبيل المثال يورد أحد صحفيي صحيفة (الغارديان) البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 28 أكتوبر 2003م نموذجاً لهذه الشائعات، فيقول: " في إحدى المرات، قابلت صديقاً سورياً، والذي سألني بحماس: هل سمعت عن الانقلاب المدبر للجنرال كنعان الذي اعتقل هو وأبناؤه، إنهم يقولون: إنهم أحياء حتى الآن، لكن لا أحد يعرف أين هم الآن".<BR><BR>ويتابع الصحفي البريطاني الذي كان في زيارة عمل لدمشق في تلك المدة: " كرئيس المخابرات السورية في لبنان أثناء الثمانينيات و التسعينيّات، كان الجنرال غازي كنعان مسئولاً كبيراً عن الجيش السوري المنتشر في لبنان، وقد اشتبك مع الرئيس السوري بشار الأسد في أواخر التسعينيات خلال تدريبات بشار الأسد على الرئاسة قبل وفاة والده، وقد أكد لي صديقي السوري أحداث الانقلاب الفاشل الذي قال بأنه أصبح حديث المجتمع الدبلوماسي في دمشق"<BR>الإعلام السوري لم يتحدث أبداً عن تلك الحادثة التي انتشرت كإشاعة، ولاقت قبولاً ومصداقية مع اختفاء أخبار كنعان وعدم إيراد الوسائل الإعلامية أي شيء عنه.<BR><BR>وإذا ما أراد أي شخص أن يضع المزيد من التفاصيل المثيرة والكاذبة للإشاعة، فإنه يستطيع تسويقها بسهولة ويسر لغياب الحرية والشفافية الإعلامية .<BR><BR>ولعل أبرز مثال لما يتم تجاهله في الإعلام السوري، وما يؤكد على وحدة السلطة في جميع الوسائل الإعلامية على اختلاف مسمياتها، ما شهدته سورية من تعتيم على الغارة الإسرائيلية التي استهدفت إحدى مراكز التدريب العسكرية القديمة قرب العاصمة دمشق منذ أشهر قليلة.<BR>وفاجأت الصحف السورية معظم المتابعين لهذا الحدث بنشرها افتتاحيات تتعلق بوضع العراق أو بالسياسة الخارجية الأمريكية، دون التعرض بأي شكل من الأشكال لهذا الحدث الذي يعد الأخطر عسكرياً في سورية منذ سنوات طويلة.<BR><BR><font color="#0000FF">الرأي والرأي الآخر في الإعلام السوري: </font><BR>ككل وسائل الإعلام العالمية، تبدو قضية الرأي والرأي الآخر في سورية ضرورية وحيوية ومسموح بها دون أدنى مسؤولية، مع فارق بسيط وشرط أساسي، هو أن يكون الرأي والرأي الآخر متوافقين مع رأي الحكومة دائماً.<BR>وعلى الرغم من عدم وجود قانون دستوري أو إعلامي ينص على ذلك، إلا أن العرف والتقاليد والتجارب جعلته قانونياً أساسياً لا يتعدى هامشه الكلام عن أحد الوزراء في أفضل الأحوال.<BR>وإن حدث ذلك، فإن رد الوزارة يبقى هو الأولى بالنشر والأصدق بالتوجيه، مع عدم السماح للصحفي بالرد أو التعقيب على كلام الوزارة.<BR>والأمثلة على ذلك كثيرة، اعتاد عليها القارئ.<BR><BR>وحقيقة الرأي الآخر في سورية -إعلامياً- لا تأتي بسبب تطابق وجهات النظر في الرأيين، بل بسبب أحادية التوجه والحكم، حيث الحزب الحاكم واحد، والتعددية ملغاة ولا تعدوا أن تكون مجموعة أفراد تخدم الحزب الواحد.<BR>عليه فإن الرأي الآخر إما أن يكون (مع) أو لا يكون.<BR><BR>أما الصحفي الذي يعمل داخل المؤسسات الإعلامية السورية فإنه لا يعدو أن يكون (متكأً) للمسؤول، يستند إليه عند الحاجة، لذلك فمن غير المنطقي أن يشكل الإعلاميون (خرقاً) لقانون الإعلام السوري، وليس هناك حاجة أبداً لأن يكون لهم رأي آخر يناقض رأي المسؤولين.<BR>فالقلم مسخر بكل طاقاته لرصد كل الحركات الإيجابية و(الإيجابية)، وحتى إن تصادف وجود شيء ما سلبي، فإن القلم سيؤكد بعد نظر المسؤول ورؤيته البعيدة نحو مستقبل مشرق يجني ثماره المواطن ولو بعد حين .<BR><br>