التدين في اليونان .. واقع وآفاق
12 محرم 1425

تشكل اليونان حالة متفردة في النادي الأوروبي من حيث خصوصياتها الثقافية والاجتماعية والدينية، حيث إن هذا البلد التي تختلط فيه الصفات المتوسطية والبلقانية، وأخيراً الأوروبية الغربية لا يزال إلى اليوم على مفترق الطرق يحاول أن يتلمس سيره بين تلك المؤثرات، ومما يزيد المشهد تعقيداً أن لكل وجهة أنصاراً وداعين يحاولون السير بالبلد بالاتجاه الذي يرونه الأنسب والأصلح، لكن أثينا لا تزال إلى اليوم بحاجة إلى الكثير من الوقت حتى تقرر الهوية النهائية التي ستكتسبها في القارة العجوز.<BR><BR>بالنسبة للحالة الدينية في أثينا فالمعروف عن اليونان أنها البلد الذي يعد الحصن الرئيس للديانة الأرثوذوكسية الشرقية، وأن الكنيسة الأرثوذوكسية لها كلمة الفصل في معظم القضايا التي لها علاقة بديانة البلد، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن لا يصح على إطلاقه ،فقد جرى تجاوز الكنيسة في مسائل كثيرة، خاصة تلك التي تعلقت بالإجراءات المطلوبة من اليونان كبلد عضو في الوحدة الأوربية، مثل مسألة محو الديانة عن بطاقة الهوية الفردية التي خاضت فيها الكنيسة معركة ضارية ، لكن في النهاية نفذت الدولة القرار،معللة ذلك بأن المسألة لا علاقة لها بالكنيسة من قريب ولا بعيد .<BR><BR><font color="#0000FF">واقع كنسي متفرد : </font><BR>والذي لا يعرفه الكثيرون بالنسبة للكنيسة الأرثوذوكسية هو وجود الكنيستين غير المتوائمتين : كنيسة أثينا ويرأسها اليوم بطريرك أثينا وسائر أنحاء اليونان "خريستوذولوس" والبطريركية المسكونية في اسطنبول في تركيا ويرأسها البطريرك المسكوني " فرثوماليوس"، وقد قامت بين الرجلين أو بين الكنيستين خلافات كثيرة لها جذور تاريخية قديمة.<BR>فالكنيسة المسكونية في اسطنبول كانت منذ القديم تدير مناطق اليونان كنسيا، وعند زوال الحكم العثماني عن الأجزاء الجنوبية من اليونان عقب ثورة 1823م، وتأسيس دولة اليونان ،أسست الدولة اليونانية كنيسة خاصة بها مستقلة عن بطريركية اسطنبول الأمر الذي لم تعترف به البطريركية المسكونية إلا بعد 17 عاماً .<BR><BR> وبعد حصول الحروب البلقانية عام 1912م، وعودة الأجزاء الشمالية من اليونان إلى الدولة اليونانية نشأت مسألة" البلاد الجديدة" لدى الكنيسة أي مناطق شمال اليونان التي كانت تتبع البطريرك المسكوني، و تم التوصل بين الكنيستين وبرعاية الدولة اليونانية آنذاك على أن تلك المناطق ستتبع كنسيا لاسطنبول لكنها ستدار من قبل كنيسة أثينا، وهكذا كانت الأخيرة ترشح الأساقفة المؤهلين لإدارة تلك المناطق ، ثم تأتي التعينات من البطيرك المسكوني في اسطنبول .<BR><BR> هذه النظام لم يكن الأنسب فقد نشأت عنه خلافات حادة ، فمن ناحية كانت البطريركية المسكونية ممتعضة من الاستقلال الكنسي لأثينا، وبرغم اعترافها بها فقد كانت تعد نفسها "الكنيسةالأم"، وتعد كنيسة أثينا "الكنيسة الابنة" ،ومن ناحية ثانية كانت كنيسة أثينا تتوق للتخلص من ارتباط مناطق من اليونان بالبطريركية المسكونية في اسطنبول الأمر الذي أعربت عنه مراراً خاصة في المدة الأخيرة .<BR><BR> وهكذا تعرف اليونان نظاماً كنسياً عجيباً ،إذ تتجاور مناطق كنسية تابعة لكنيسة أثينا مع أخرى تابعة للبطريركية المسكونية، ولا يحق لرجال كنيسة أثينا القيام بزيارات كنسية للمناطق الأخرى دون إذن من اسطنبول ،الأمر الذي يسري على رجال البطريركية المسكونية كذلك .<BR><BR><font color="#0000FF">محاولات للسيطرة في الخارج: </font><BR>على أن للأمر أبعاداً أخرى تتعلق بالسيطرة على الجالية اليونانية خارج اليونان ،حيث إن الشعب اليونان يبلغ حوالي 15 مليون شخص، منهم 10 مليون داخل اليونان والآخرون يتوزعون على مختلف دول العالم، وهؤلاء يتبعون البطريرك المسكوني ،ومع الحديث عن انضمام تركيا إلى الوحدة الأوروبية وقفت الكنيستان موقفين متناقضين ،فكنيسة أثينا لم تؤيد؛ لأن ذلك سيؤدي في مجمل نتائجه إلى تعزيز مكانة البطيرك المسكوني في اسطنبول، وفي هذا الإطار يمكن فهم تصريحات "خريستوذولوس" ووصفه الأتراك بالبرابرة الذين يحاولون الدخول إلى الحظيرة المسيحية،بينما كانت مواقف البطريركية المسكونية مرحبة إلى أبعد الحدود .<BR><BR>ويحاول البطريرك المسكوني أن يرسخ أقدام كنيسته في أنحاء العالم كله ،حيث افتتح منذ مدة كنيسة أرثوذوكسية في هافانا عاصمة كوبا البلد الذي لا يقيم فيه أكثر من خمسين مواطناً يونانياً ،وقد حظي باستقبال رسمي وشعبي حافل وباهتمام من وسائل الإعلام .<BR><BR>وتحاول الكنيسة اليونانية في أثينا أن تمسك بأوراق المسألة الدينية في اليونان، وقد حاربت الكثير من الظواهر الوافدة من خارج اليونان، ودفعت باتجاه عدم الاعتراف بها ،مثل: جمعيات شهود يهوه وعباد الشيطان، وفرق أخرى تظهر حيناً وتختفي عن الساحة حيناً أو تعود بأسماء ولافتات جديدة، ولكن الثابت أنها ستجد نفسها دائماً في مواجهة الكنيسة الرسمية .<BR><BR>أما رواد الكنائس فهم بشكل رئيس من كبار السن، وتعول الكنيسة على استقطاب فئات معينة من المواطنين والتركيز على النساء، ولا تتردد في ضم أعداد من الوافدين على البلد -خاصة من الجالية اللبنانية-إلى حظيرتها وتعميد أبنائهم كمسيحيين أرثوذوكسييين بالرغم من أن الدستور اليوناني يحظر الدعوات الهادفة إلى تغيير ديانة ومعتقدات الأفراد .<BR><BR><font color="#0000FF">الشباب والمثقفون يصنعون قناعاتهم بأيديهم : </font><BR>الخلفية التاريخية للشعب اليوناني كشعب عاشق للفلسفة لا تزال واضحة المظاهر خصوصاً في فئات الشباب والمثقفين،فهؤلاء يذهبون مذاهب متباينة جداً في قناعاتهم وعقائدهم،ويبدو أنهم أصعب وأعند من أن يقتنعوا بأي عقيدة أو فكرة ما لم تكن مقنعة تماماً وموافقة للمنطق الذي صاغوه ،على أن الكثير منهم يتمتع بالكثير من المنطق والعقل وعند مواجهته بالبراهين العقلية لا يتردد التسليم والقبول.<BR><BR>والشباب كانوا أكثر الفئات تعرضاً للدعاية الوافدة من الخارج وأكثرها تأثراً بها ، وكثيراً ما تعرض القنوات التلفزيونية قصصاً لشباب من الجنسين تركوا أسرهم والتحقوا بالفرق الجديدة ،آملين أن يجدوا فيها ما لم يجدوه في معتقداتهم الأصلية .<BR><BR>وهكذا انتشرت في اليونان ظاهرة جديدة، وهي الديانات والأفكار الوافدة من عبادة الشيطان والبوذية وشهود يهوه ،بينما عادت إلى الساحة أفكار قديمة كانت قد اختفت طويلاً، مثل: الديانة اليونانية السابقة للمسيحية "عبادة الآلهة الاثني عشر" وهذه كذلك تنتشر بسرعة في أوساط الشباب وتكسب أنصاراً جدداً؛ لأنها ديانة يمكن أن يتحكم بها أصحابها ويصوغها كل منهم حسب رغباته ولا تتعارض أو تتوافق مع أي مبدأ آخر ولا يفهم منها غير سوى تقديس الحرية الشخصية والتمرد على الأعراف ورفض الخضوع للمعتقدات المعروفة وتقديس الحياة الجنسية وحب الانفلات من كل القيود .<BR><BR>ولا يبدو أن الكنيسة قادرة على كسب معركتها في مواجهة المبادئ الوافدة خصوصاً مع غرقها في الخلافات الداخلية ،وانتشار قصص الفضائح المالية والأخلاقية التي تورط فيها بعض رجالها ،إضافة إلى عدم امتلاكها للإجابات على التساؤلات الكثيرة التي يطرحها الشباب في كل شأن من شؤون الحياة.<BR><BR><font color="#0000FF">المسلمون في اليونان والحضور غير المستقر بعد : </font><BR>المسلمون في اليونان هم فئتان رئيستان : المواطنون الأصليون الذين يسكن معظمهم في مناطق ثراكي شمال البلاد، وهؤلاء تتحكم الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في مصيرهم ،لكنهم بشكل عام عرفوا في المدة الأخيرة انفتاحاً على المجتمع اليوناني تحلى في دخولهم إلى الجامعات والجيش،ونزوح قسم منهم إلى العاصمة للعمل والإقامة، لكن هذا الانفتاح لم يكن يعني بالضرورة المزيد من تمسكهم بالدين لأسباب، منها :<BR>- أنهم لك يكونوا مهيئين لهذا الانفتاح، والذي كان يقصد منه فيما يبدو أن يذوبوا في المجتمع المحيط بهم .<BR>- تَدَخلُ الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية في أمورهم وتشتتهم إلى فئات عديدة لا تتفق حول معظم الأمور .<BR>- الخلط بين العوامل الدينية والقومية والوطنية عندهم بحيث ترتبط ببعضها أو تتعارض أحياناً بشكل غير مفهوم .<BR>- ندرة الدعاة المؤثرين فالأقلية المسلمة لا تعرف الكثير من الدعاة الذين يعرفون كيف يحركون الأمور بحكمة وروية ،وزاد من سوء الأمور عدم وجود أوقاف تدعم مشروعاتهم الدعوية ،ثم تعيين مفتين لهم من قبل الدولة اليونانية الأمر الذي لم يقبلوا به ولا تزال المسألة إلى اليوم عالقة في المحاكم اليونانية.<BR><BR>أما المسلمون الوافدون فلا يزالون إلى اليوم تحت رحمة الأجهزة الحكومية التي لم تعط إلى اليوم أي نوع من أوراق الإقامة الثابتة للمهاجرين ،وهذا الأمر أثر على كل الوافدين حيث لا يشعر أحد منهم بالاستقرار في البلد ،مما جعل الآمال والطموحات باستقرار المشروعات الدعوية بعيدة في الأمد المنظور.<BR>ولا يمكن إلى اليوم الحديث عن جالية مهاجرة كاملة، حيث ما زالت الإجراءات البيروقراطية تحول دون لم شمل الكثير من الأسر، ومن المعروف أن أثينا إلى اليوم لا يوجد بها أي مسجد رسمي ،ولا يعرف إن كان سيبنى أصلاً ،فالانتخابات التي يحين موعدها في شهر مارس أجلت إلى أمد بعيد أي موضوع آخر .<BR><BR>ويعد الإسلام من أكثر الديانات حيوية في البلد حيث يستقطب الكثيرين من الشباب والمثقفين،الذين <BR>يترددون على الأماكن البسيطة التي تستأجر لأداء الشعائر والمناسبات. <BR><BR><font color="#0000FF">مسلمون جدد : </font><BR>وفي المدة الأخيرة بدأت ظاهرة جديدة تظهر ولو بشكل فردي وضعيف وهي اعتناق أفراد من المجتمع اليوناني الإسلام باجتهاد فردي وبحث شخصي، وهؤلاء معظمهم من الشباب والمثقفين الذين قضوا أعواماً طويلة في البحث والتقصي في المبادئ والديانات والأفكار .<BR><BR>مستقبل الإسلام في البلد رهن بنشاط أبنائه في كل مجال، لكنهم لا يزالون بعيدين عن التأثير في سياسة البلد العامة، وحتى تلك الموجهة إليهم.<BR><br>