عراق ما قبل الحرب : عشر سنوات من العقوبات
1 ربيع الأول 1425

في أغسطس 1999م، بينت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونسيف) أن معدل الوفيات بين الأطفال الذين هم دون الخامسة في جنوب ووسط العراق (موطن 85% من السكان) تضاعف أكثر من مرتين خلال مدة العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة على العراق. إذ ارتفع المعدل من 56 حالة بين كل 1000 ولادة (1984-1989م)، إلى 131 حالة بين كل 1000 ولادة (1994-1999م)، ووفيات الرضع (أطفال دون السنة الأولى) ازدادت من 47 حالة إلى 108 حالات بين كل 1000 ولادة ضمن الفترة الزمنية نفسها.<BR><BR>وأشارت (المديرة التنفيذية لليونسيف) كارول بيلامي، إلى أنه كان هناك تناقص ملحوظ في وفيات الأطفال في أنحاء العراق خلال الثمانينات، ولو استمر هذا الوضع في التسعينات، لكان عدد وفيات الأطفال دون الخامسة أقل بنصف مليون حالة في البلد ككل خلال المدة الممتدة من سنة 1991 إلى سنة 1998م. لقد مات إذن 500.000 طفل في المدة من 1991-1998م بسبب العقوبات الاقتصادية، علماً بأن هذا الرقم توصلت إليه اليونسيف من خلال مسح ديموغرافي وصحي "محترم دولياً" ودقيق ودون أي تدخل من الحكومة العراقية.<BR><BR><font color="#0000FF"> الحكم على العقوبات: </font><BR>كان مجلس الأمن قد أعاد فرض العقوبات الاقتصادية على العراق في 3 أبريل 1991م، أي بعد شهر من طرد القوات العراقية من الكويت، والطبيعة التأديبية للعقوبات كشفها غموض عنصر حاسم في القرار رقم 687، فالفقرة رقم 21 من القرار قالت: إن القيود على التصدير إلى العراق سيرفعها مجلس الأمن بعد درس "سياسات وممارسات" حكومة العراق! وكانت الفقرة رقم 22 أوضح، إذ قالت: إن القيود على صادرات العراق "والتحويلات المالية المتصلة بها" سترفع حالما يمتثل العراق لطلب نزع ما لديه من أسلحة الدمار الشامل تحت إشراف دولي، لكن بحلول سنة 1994م، نقلت الولايات المتحدة وبريطانيا قائمتي المرمى، قائلتين: إنه ينبغي الإبقاء على العقوبات حتى يتم الامتثال لقرارات أخرى غير محددة. <BR><BR>وإذا كان نظام العقوبات مركزاً على تغيير السلوك في المستقبل لا على معاقبة سلوك في الماضي، فإنه سيتيح رفع القيود بالتدريج لقاء تحركات باتجاه السلوك المرغوب فيهن وفي حالة العراق تم تخفيف القيود بدرجة ملحوظة على مر السنين، لكن ذلك كان نتيجة ضغط دولي فقط، لا من منطلق مكافأة امتثال العراق إطلاقاً.<BR><BR>يمكن الحكم على العقوبات أيضاً من ناحية أهدافها، فقد أشارت الهيئة الإنسانية التابعة لمجلس الأمن في مارس 1999م إلى أن "الوضع الإنساني في العراق سيبقى وضعاً مريعاً في غياب إنعاش مستديم للاقتصاد العراقي"، ولم يكن في إمكان برنامج مساعدة سلعية طارئة مثل برنامج "النفط مقابل الغذاء" أن يعدل التعطيل الفعلي للاقتصاد العراقي، بسبب الحرب والعقوبات. <BR><BR>ويمكن الحكم على العقوبات أيضاً من زاوية تأثيراتها على حقوق الإنسان، وقد كتب محللان أمريكيان ذوا صلات بالحكومة الأمريكية أن "سكان العراق يدمرون اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً"، فهناك "ارتفاع حاد في مستوى الفساد والارتشاء في حكومة طالما تباهت بأنها الأقل فساداً في المنطقة"، كما أن "الآفات الاجتماعية مثل: السرقة والتسول والبغاء والسطو أصبحت واسعة الانتشار، بعد أن كان مسيطراً عليها "بفعالية" في هذه الدولة الاستبدادية". ولاحظ العالم الأمريكي ريتشارد غارفيلد على نحو خاص تراجع مستوى التعليم عند البالغين من 80% إلى 58%.<BR>إن نظام العقوبات كان تأديبياً للغاية، وجزافي إلى أقصى حد، وله تأثير مدمر على حقوق سكان العراق المدنيين وعلى الأطفال تحديداً.<BR><BR><font color="#0000FF"> البنية التحتية للصحة العامة: </font><BR>في سبتمبر 2000م قدرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن 800.000 طفل عراقي دون الخامسة يعانون سوء تغذية على نحو مزمن، ويمكن أن يؤدي سوء التغذية المزمن إلى إعاقة جسدية وعقلية دائمة، وقبل ذلك بستة أشهر، اعتبرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن "انهيار نظام الصحة العامة ومشكلة نقص المياه هما الخطران الرئيسان اللذان يهددان صحة السكان العراقيين". <BR> <BR>ومشكلة المياه هي فقط الجانب الأشد حدة من انهيار عام في البنية التحتية للصحة العامة، وقد قدر صندوق النقد العربي قيمة البنية التحتية والأصول الاقتصادية المدمرة خلال حرب 1991م بـ232 مليار دولار (مقارنة مع 67 مليار دولار قيمة الأضرار الاقتصادية للحرب مع إيران التي دامت عقداً من الزمن)، ولأكثر من خمس سنوات، منع العراق كلياً من تصدير نفطه، فحرم من عوائد تقدر بعشرات مليارات الدولارات، الأمر الذي أدى إلى انكماش الاقتصاد وحال دون إعادة الإعمار.<BR><BR>وليس تأثير العقوبات على إمداد السكان بمياه الشرب النظيفة ناجماً فحسب عن عرقلة استيراد معدات تنقية المياه وضخها، وعرقلة استيراد مادة الكلور، بل هناك أيضاً مشكلة الطاقة الكهربائية، وقد كتبت جريدة "الإندبندنت" البريطانية في 6 مارس 1998م: "عندما يقطع التيار الكهربائي كل ثلاث ساعات في البصرة مثلاً، تتوقف المضخات وينخفض الضغط في أنابيب المياه الراشحة، وتحل في الفراغ مياه مبتذلة تخرج من الصنابير، وحتى المورد الأساسي للمياه ملوث الآن في العراق"، ولنتذكر أن شبكة الطاقة الكهربائية في حالة يرثى لها؛ لأن الولايات المتحدة استهدفتها عمداً في سنة 1991م.<BR> <BR>ويعلق مستشار اليونسيف الدكتور إريك هوسكينز بقوله: "إن الإمداد بمياه ملوثة وتردي حال النظافة أوجدا أوضاعاً صحية مواتية لظهور الإسهال كقاتل رئيس للأطفال خلال مدة ما بعد الحرب، فخلال كل من سنتي 1991و1992م، قدرت الوفيات بسبب الإسهال بأكثر من ثلاثة أضعاف مستويات سنة 1990م". <BR><BR>وإضافة إلى ذلك فقد ساهمت العقوبات في الحد من الموارد الطبية والأدوية التي أصبحت هي الأخرى "مقننة"، وقد علقت مجلة "الإيكونومست" البريطانية في عددها الصادر في 24 فبراير 2001م على ما يسمى "العقوبات الذكية" قائلة: "إن العقوبات الذكية المقترحة من بريطانيا تقدم حبة أسبرين حيث الحاجة ماسة إلى عملية جراحية!".<BR><BR><font color="#0000FF"> صفقة صيغت كي ترفض: </font><BR>إن المستوى الأخلاقي للدول التي فرضت العقوبات الاقتصادية لا يمكن فهمه تماماً دون استحضار بداية صفقة "النفط مقابل الغذاء"، فلسنوات عديدة، حملت لندن وواشنطن الحكومة العراقية مسؤولية المعاناة في بلدها، مشيرتين إلى أن بغداد رفضت صفة النفط مقابل الغداء لمدة أربع سنوات في النصف الأول من التسعينات. إلا أن الولايات المتحدة وبريطانيا حريصتان على إخفاء نصيبهما من المسؤولية عن هذا الرفض، فالعرض الذي كان لهما دور فعال في إنشائه، صيغ على نحو يدفع إلى رفضه.<BR><BR>فقيمة مبيعات النفط كانت جزءاً صغيراً من الموارد التي كان العراق بأمس الحاجة إليها، وصفقة "النفط مقابل الغداء" الإنسانية ربطت بدفع رواتب مفتشي الأسلحة "الممقوتين" وتعويضات الحرب، وكانت لهجة القرار مهينة من دون داع، والقرار كان صارما في تحديد الأنبوب الذي يجب استخدامه لنقل النفط العراقي، وفتح حساب مصرفي جديد تحت إشراف الأمم المتحدة لمراقبة تحويلات أموال النفط مقابل الغذاء كان مذلاً وغير ضروري. لم يكن هذا عرضا إنسانيا، بل كان سلاحاً دعائياً، وسلاحاً ناجحاً جداً.<BR><BR><font color="#0000FF"> تقديم جزء من المطلوب : </font><BR>عقب إقرار القرار رقم 687 الذي أعاد فرض العقوبات الاقتصادية على العراق، أرسل الأمين العام للأمم المتحدة "موفداً تنفيذياً" هو الأمير صدر الدين آغا خان، لزيارة العراق ووضع تقرير بشأن الظروف الإنسانية، ورفع الأمير خان تقريره في يوليو 1991م، مقدراً أن عودة قطاعات الطاقة والنفط والمياه والنظافة والأغذية والزراعة والصحة إلى مستويات ما قبل الحرب ستكلف 22 مليار دولار (وطبعاً ازدادت التكاليف بفعل تدهور الأوضاع على امتداد 12 سنة أخرى)، وأوصى بوجوب السماح للعراق ببيع ما قيمته 6.9 مليار دولار في مدى سنة واحدة لإعادة الخدمات الصحية إلى طاقتها الكاملة، وإعادة قطاع الكهرباء إلى نصف طاقته، وتشغيل خدمات المياه والنظافة بنسبة 40%، وتشغيل منشآت النفط الشمالية حتى مدى محدد، وستكون هذه الأموال مطلوبة أيضاً لإعادة تأهيل قطاع الزراعة، وتوفير الحصص الغذائية للسكان جميعاً.<BR><BR>وكإجراء قصير الأجل، اقترح الأمير خان بيع نفط بما تصل قيمته إلى 2.65 مليار دولار في الأشهر الأربعة الأولى (ثلث الكمية الإجمالية إضافة إلى مبلغ صغير من أجل تكاليف الشروع في العمل)، على أن يجدد الإجراء إذا كانت الترتيبات مرضية. <BR><BR>وخلال مناقشات في مجلس الأمن، مددت مدة بيع النفط لمرة واحدة إلى ستة أشهر، الأمر الذي كان سيتطلب مبيعات نفط بقيمة 3.8 مليار دولار (نصف الكمية السنوية إضافة إلى 350 مليون دولار كتكلفة للشروع في العمل)، وحين رأى كوفي عنان الطريق التي كان الجدل ينساق إليها، طرح أن يسمح للعراق ببيع نفط بقيمة 2.4 مليار دولار، وهذا أقل من ثلث قيمة مبيعات النفط، وكان سيتاح جزء قليل فقط من هذا المبلغ للسلع الأساسية، علماً بأن مجلس الأمن كان قد قرر آنذاك وجوب الاحتفاظ بـ30% من جميع عائدات النفط العراقي من أجل مدفوعات تعويضات الحرب، كما اقتطع جزءاً بسيطاً لتغطية تكاليف الأمم المتحدة ومفتشي الأسلحة. <BR><BR>بمقتضى اقتراح الأمين العام للأمم المتحدة، وبدلاً من أن يتلقى العراق 3.8 مليار دولار لينفقها على حاجاته الإنسانية طوال الأشهر الستة، كما اقترح الموفد الخاص للأمين العام، فإنه سيتلقى 1.6 مليار دولار فقط للمساعدة الإنسانية، أي أكثر قليلاً من 40% من حاجاته المقدرة. <BR><BR>وقد رفض هذا الاقتراح من مجلس الأمن، أو من الولايات المتحدة تحديداً، بحجة أنه سخي جداً! وعرض القراران رقم 706 ورقم 712 على العراق 1.6 مليار دولار فقط هي قيمة إجمالي مبيعات النفط على امتداد الأشهر الستة، وقلص المبلغ المخصص للمساعدة الإنسانية إلى 930 مليون دولار تقريباً على مدى ستة أشهر، أي أقل من تقديرات خبراء الأمم المتحدة للحاجات الإنسانية بـ25%،<BR>وفي أواخر يوليو 1991م أضحى مسؤولو الأمم المتحدة مقتنعين أن نية الولايات المتحدة كانت "تقديم صفقة غير مغرية إلى صدام حسين، بحيث يرفضها العراق فيلام، من الغرب على الأقل، على استمرار معاناة المدنيين". وتحقق هذا الهدف، إذ رفض العراق فعلاً العرض الذي ورد في القرارين رقم 706 ورقم 712، وحمل مسؤولية الأزمة الإنسانية. <BR><BR><font color="#0000FF"> انتهاك السيادة: </font><BR>بالإضافة إلى قيمة العرض المالية، كان هناك أيضاً الطريقة الغريبة التي وضع بها القرار تمويل البرنامج الإنساني وتعويضات الحرب وتمويل المفتشين في حزمة واحدة، وقد قال مراقبو الشؤون الإنسانية: "إنه كان ينبغي فصل الحاجات الإنسانية تماماً عن مسائل التعويضات وأجور عمل مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة". فالمسائل الأخيرة متعلقة بالدولة العراقية وحدها، وما كان ينبغي السماح لرفض الحكومة دفع أموال خاصة بهذه المسائل أن تؤثر على أوضاع السكان المدنيين، وقد كان هناك الكثير من مراقبي الشؤون الإنسانية الذين شعروا بأن الصفقة التي قدمت بموجب القرارين رقم 706 ورقم 712 كانت "من النوع الذي حسب مسبقاً أن العراق سيرفضه"، وقد رفض العراق الصفقة، كما رغبت الولايات المتحدة، وجمدت المفاوضات على امتداد أربع سنوات من المعاناة. <BR><BR><font color="#0000FF"> الهدف: </font><BR>في 24 يوليو 1991م نقلت جريدة "الإندبندنت" عن مسؤول أمريكي قوله: إن العرض الأول للنفط مقابل الغذاء كان "طريقة جيدة لإدامة الجزء الأكبر من العقوبات وعدم الوقوف في الجانب الخطأ من مسألة يمكن أن تكون مثيرة للانفعال"، وكانت كل الإصلاحات التي أدخلت على الصفقة (النفط مقابل الغذاء) فيما بعد، تهدف إلى "تغيير القيادة" مهما يكن الثمن البشري، وهذا ما نراه جميعاً حتى اليوم، فرغم احتلال العراق، وزوال القيادة العراقية السابقة، ما زال الشعب العراقي يعاني ويتألم ويقتل.<BR><br>