روسيا والتهديد بالضربات الاستباقية
18 شعبان 1425

روسيا والتهديد بالضربات الاستباقية<BR>علي محمد مطر – إسلام أباد <BR>لم يكن من المفاجئ أن أحداً لم يأخذ على محمل الجد ما صدر عن قائد أركان الجيش الروسي من تصريحات بأن موسكو ستشن هجمات استباقية ضد مخابئ من وصفهم الجنرال يوري بالوييفسكي بالإرهابيين، وأن تكون هذه الضربات "في أي مكان بالعالم"، ولكنه استدرك بعد ذلك قائلاً "في أي مكان بالمنطقة" في محاولة منه لتقليص نطاق الهجمات الاستباقية.<BR><BR>وشرح موقف بلاده هذا بأنه يهدف إلى القضاء بصورة مسبقة على أي محاولة تهدف إلى تعكير صفو الأمن في روسيا الاتحادية والأقاليم الخاضعة لسيطرتها، وربما لم يؤخذ تصريحه بقدر كاف من الاهتمام؛ لأنه لم يصدر من قوة عظمى رئيسة يرهبها الكثيرون.<BR>كما أن تصريح الجنرال يوري بالوييفسكي بأن روسيا لا تنوي استخدام ترسانتها النووية في هذه الهجمات الاستباقية التي هدد بها لم تؤدِّ إلى إثارة موجات من الذعر لدى من استمع إليها؛ إلا أنه من المؤكد أنها زادت من تعقيدات الموقف بسبب عدم وضوح المغزى من الإشارة إلى القدرات النووية الروسية في سياق الإعلان عن الضربات الاستباقية الموجهة ضد الإرهاب.<BR><BR>ومما لا شك فيه أن مأساة مدرسة بيسلان كبيرة، ولكنها لن ترقى بحال من الأحوال إلى الحديث عن أسلحة نووية في نطاق الحديث عن ردود الفعل الروسية المتعلقة بها، ويمكن في أفضل الأحوال اعتبار أن هذه الإشارة جاءت بمثابة اجترار للذاكرة السوفييتية السابقة وتأكيداً لرغبة القيادة الروسية الحالية في استعادة المجد السالف والمفقود معاً، ويمكن اعتبارها في أسوأ الأحوال نوعاً من الطيش السياسي الذي يصدر عن قيادة لا زالت تعيش في ظل أمجاد القوة العظمى السابقة.<BR><BR>الرئيس بوتين هو الآخر حاول أن يعزز من تصريحات قائد أركانه عندما صرح بعد 10 أيام من تصريحات الجنرال بالوفيسكي بأن موسكو جادة في توجيه ضربات استباقية لضرب الإرهاب في مخابئه ومعسكرات تدريبه؛ ومرة أخرى أخفقت تصريحاته تلك في اجتذاب الزخم المرجو منها؛ وحرص الرئيس بوتين على تجنب استخدام تعبير ينم عن أن هذه الضربات الاستباقية ستشمل العالم بأسره أو أنها ستكون مقتصرة على المنطقة المحيطة بروسيا، وفضل أن يترك الأمر مفتوحاً لتكهنات مراقبي السياسات الروسية لكي يتخيلوا بأنفسهم إلى أي مدى يمكن أن تصل إليه العصا الروسية الغليظة؛ وبعد ذلك تناول الرئيس بوتين في تصريح آخر منطقة شمال القوقاز بالحديث قائلاً بأنها تعد ضحية ومعقلاً للإرهاب في وقت واحد، وعزا ذلك إلى المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية المتدنية في أنغوشيا والشيشان وداغستان ؛ أي ارتفاع معدلات الأمية وزيادة نسبة البطالة وانخفاض مستويات الرعاية الصحية. هذه الأوضاع كانت سبباً في تحول هذه المنطقة إلى ضحية وقاعدة للإرهاب حسب تصريحه. هذه الإشارة من الرئيس بوتين توضح أن شمال القوقاز سيكون هدف الضربات الاستباقية الروسية إذا ما قرر الرئيس الروسى في وقت ما أن يشن هذه الهجمات.<BR><BR>وروسيا موقنة أنها تستطيع أن تفلت من ردود الفعل إذا ما قررت أن تعرض بعض المناطق المتاخمة لأطرافها الجنوبية لقصف جوي عشوائي، تماماً كما فعلت في وقت سابق عندما قصفت طائراتها منطقة بانسكيسني جورجي بجورجيا ظناً منها أنها تأوي مقاتلين شيشان، وتقدم لهم التدريب العسكرى. كل ما فعلته جورجيا حينها هو التفوه ببعض الاحتجاجات المتناثرة، بينما أدار العالم ظهره وعالج الموضوع بأذن صماء. <BR><BR>إلا أن قيام روسيا باستهداف مواقع خارج المنطقة سيكون له آثار أكثر حدة من مهاجمة المناطق القريبة منها وستنشأ عنه أوضاع جد خطيرة ترى المجموعة الدولية أنها بغنى عنها؛ لعدم رغبتها في ظهور بؤر توتر جديدة.<BR>فالنتيجة الحتمية لأي تحرك هجومي يتخذ طابعاً عسكرياً تقدم عليه موسكو خارج المنطقة سيكون ظهور أوضاع من الصعوبة على روسيا احتوائها، حيث إن كلاً من واشنطن ولندن لا تدعمان سياسات موسكو في الشيشان، بل إنهما تحبذان بقاء الكرملين تحت الضغوط ليمكنهما ذلك من الاستمرار في منح حق اللجوء السياسي لاثنين من القادة السياسيين الشيشان، فبريطانيا تمنح حق اللجوء السياسي لأحمد زكاييف الذي كان في يوم ما مبعوثاً لأرسلان مسخادوف؛ وواشنطن اختارت منح حق اللجوء السياسي إلى إلياس أحمدوف الذي شغل منصب وزير الخارجة إبان حكم مسخادوف، و لا يخفي بوتين استياءه من موقف الدول الغربية التي لا يهمها سوى مصالحها عندما يقول: إنه في الوقت الذي تنهمك فيه موسكو في الحرب ضد الإرهاب فإن واشنطن تدعوها للحوار مع مسخادوف، وهو أمر يرى فيه بوتين أنه يشبه قيام الولايات المتحدة بالحوار مع أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة. (موسكو وضعت جائزة قدرها 10 مليون دولار على رأس مسخادوف وأخرى على رأس شامل باسييف؛ ومقاتلو الشيشان قابلوا ذلك بدورهم بتخصيص مبلغ 20 مليون دولار لمن يأتيهم برأس الرئيس بوتين).<BR><BR>موقف واشنطن ولندن من وجهة النظر الروسية لا يمكن إلا أن يكون دليلاً صارخاً على سياسة الكيل بمكيالين التي تعد منهجاً متبعاً لدى الغرب. (وزير الخارجية) سيرجي لافروف يوضح ذلك من خلال الإشارة إلى اعتقاده بأن واشنطن ولندن مصابتان بأعراض سنوات الحرب الباردة، ويرى أنه طالما أن إدارة الرئيس بوش مليئة بالموظفين المرتبطين بسنوات الحرب الباردة في وقت السبعينات والثمانينات، فإنها ليست قادرة على التخلي عن التفكير بالأساليب القديمة.<BR><BR>تهديدات الروس بالضربات الاستباقية فاتها أن تتعلم الدرس الذي واجهته الآلة العسكرية الأمريكية التي تعرضت للصدمة في كابل وبغداد كما كان متوقعاً، وقيام هذه الصدمة بنقل رسالة واضحة إلى البنتاجون فحواها المدى الكبير للقيود التي فرضت على عظمة القوة العسكرية وضخامتها في مواجهة المقاومة المصممة على الاستمرار، ومرد ذلك إلى رؤية الولايات المتحدة غير الواضحة، والتي لم تفرق بين المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الأجنبي وبين الأعمال الإرهابية الموجهة ضد الأبرياء، فالاتجاه العام الذي اتجه المحافظون الجدد نحوه هو غزو الدول ذات السيادة من أجل تعزيز ثروات بلدهم ومنح عقود إعادة الإعمار للشركات المتعددة الجنسيات التي يمتلكونها، ولكن كل ما كسبوه هو خسارة الكثير من الأرواح وجلب صورة قاتمة لإدارتهم. <BR><BR>هذه الصورة القاتمة والدروس المهينة في كابل وبغداد ، والتي كانت نتيجة حتمية للاعتقاد الخاطئ لدى المحافظين الجدد بأن الولايات المتحدة القوة الأعظم في التاريخ، والتي لا يمكن تحديها، هذه الدروس لم تنفع غيرها من القوى الأقل شأناً من الولايات المتحدة، والتي لا زالت تحلم بسالف عهدها من القوة والعظمة المفقودة.<BR><BR>إن الحرب التي تشنها روسيا على الشيشان من أجل الاستقلال منذ خمسة أعوام تمثل استمراراً لمقاومتهم التي مضى عليها عدة قرون ضد الاستعمار واستغلال مواردهم منذ مدة روسيا القيصرية؛ وتستمد روسيا مبرراتها لشن هذه الحرب من القرارات الأمريكية المتعجلة دائماً لتلوين المقاومة المسلحة بفرشاة الصبغة الإرهابية، وأن روسيا لا زالت تشعر أنها قوة عظمى وترى في نفسها القدرة على أن تكون قوة منافسة للولايات المتحدة أو على الأقل تستطيع القيام بما تضعه الولايات المتحدة من سياسات مثل سياسة الضربات الاستباقية، ولكن الدول الكبرى لا تحتاج عادة إلى مبررات قوية لغزو الدول الأقل منها قوة.<BR><BR>وتاريخ معاناة الشيشان طويل على أيدي الغزاة الأجانب، والذي يعود إلى أيام تيمور لنك، الذي غزا أراضيهم قادماً من آسيا الوسطى في القرن الرابع عشر الميلادي، وظل أحفاد الشيشان يلعبون دوراً بارزاً في مقاومة الغزاة والدفاع عن أراضيهم وأعراضهم منذ ذلك التاريخ، وبعد خمسة قرون جاء قياصرة روسيا ليغزو الشيشان، ووقف في وجههم الإمام شامل الذي تمكن من صد هجوم القياصرة لأربعة عقود متتالية. هذا الشعب الصغير عانى الأمرّين على أيدي زبانية ستالين عندما اضطر 800000 منهم إلى الرحيل عن بلادهم في عربات نقل الماشية إلى كازاخستان وسيبيريا ومَن ظل منهم على قيد الحياة بعد هذه الهجرة القسرية فإنه قد فقد مجرد الرغبة في الحلم بالعودة إلى بلاده أو أن ينعم بالحرية بسبب قسوة المعاناة.<BR><BR>كما أخفقت أحلامهم بالحرية والاستقلال بعد تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال بعض جمهوريات آسيا الوسطى وخروج أوروبا الشرقية من بوتقة السيطرة السوفييتية، فقد أقدم الجيش الروسي على محو العديد من القرى الشيشانية من الوجود وقتل كل من اعترض طريقه أو كان أمامه واغتصب النساء، وارتكب كل ما حرمته القوانين الدولية من أشكال تجاوزات حقوق الإنسان. هذا كله أدى إلى محاولة الشيشان للوقوف أمام هذه التجاوزات من خلال احتجاز الرهائن والعمليات الاستشهادية، وتفجير الطائرات وتعريض الكثير من الأبرياء للقتل في خضم هذا الصراع غير المتكافئ بين صاحب الحق والقوة الجائرة.<BR><BR>إن المسألة برمتها بحاجة إلى نظرة أخلاقية وإنسانية، فبدلاً من أن يهدد الروس بشن ضربات استباقية؛ فإن عليهم أن يتابعوا الكفاح التاريخي للشيشان من أجل الحرية على مر العصور والمعاناة التي لحقت بهم من الغزاة الأجانب، وأن يدرك الكرملين أن عدم الخروج من أرض الشيشان بسلام سيؤدي حسب أفضل التكهنات إلى بقاء الأمن الروسي سراباً لا يدرك، وأن الضربات الاستباقية لن تزيد الأمر إلا تعقيداً.<BR><br>