العلاقات التركية الأمريكية على صفيح ساخن
9 ربيع الثاني 1426

الكثير من علامات الاستفهام بدأت تطرأ حول مستقبل العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة التي أخذت في التوتر الجدي منذ رفض البرلمان التركي في أوائل مارس عام 2003م طلب نشر قوات أمريكية في تركيا لفتح جبهة بشمال العراق قبيل بدء غزو العراق، فيما ازدادت الخطوات التراجعية بين أنقرة وواشنطن مؤخراً في أعقاب الانتقادات التي وجهها إردوغان للولايات المتحدة حين اتهمها بالفشل في تهدئة المخاوف التركية إزاء تصاعد التوتر في مدينة كركوك (شمال العراق) الغنية بالنفط. <BR><BR>تبدو العلاقات التركية الأمريكية اليوم وكأنها دخلت في منعطف خطير ومرحلة حرجة من التوتر تجاوزت بكثير ما كانت عليه بعد رفض البرلمان التركي لمذكرة الواحد من مارس عام 2003م، وهو الأمر الذي يثير استغراب الخبراء الاستراتيجيين الذين قالوا بأنه أثناء تلك الأزمة، كان لدى واشنطن الذريعة والحجة للاختلاف مع أنقرة.<BR>أما اليوم فلا يوجد هناك أي حوادث بين البلدين من نوع المذكرة أو غيرها!!.. ومع ذلك فإن المقالة التي كتبتها (وزيرة الخارجية الأمريكية) كوندليزا رايس عقب زيارتها لأنقرة بيوم واحد لرأب الصدع بين الدولتين الحليفتين نسفت كل ما قالته إيجابياً بشأن العلاقات مع تركيا. <BR><BR>ولكن من ناحية أنقرة فهي تعتقد بأن السياسة الأمريكية في العراق تهدد الأمن التركي وبأن واشنطن تتصرف هناك دوما بعكس ما تتعهد بفعله. <BR>مثلا؛ (الرئيس الأمريكي) جورج بوش بعث برسالة إلى (رئيس الوزراء) رجب طيب إردوغان في 13 مارس عام 2003 يقول فيها: " إن الإرهابيين في شمال العراق يعتزمون شن هجوم جديد على تركيا، وبأن بلاده ستتعاون مع تركيا لمحاربتهم".. رغم ذلك فإن هؤلاء المسلحين من أتباع منظمة حزب العمال الكردستاني لا زالوا يتخذون من شمال العراق ملاذاً آمناً لهم يدخلون منه إلى تركيا كما أن عملياتهم الإرهابية شهدت العام الماضي ارتفاعاً ملحوظاً في جنوب شرق الأناضول.<BR><BR>بالنسبة للقيادة السياسية والعسكرية في تركيا، فإن الموقف غير المبالي الذي تتبناه الولايات المتحدة إزاء المسلحين في شمال العراق هو السبب وراء تفاقم الهجمات ضد تركيا بيد أن واشنطن لم تقوم لحد الآن بأي عمل فعلي يعزز الثقة التركية فيها ويزيل القلق والمخاوف تجاهها. <BR>كما تأخذ أنقرة على الولايات المتحدة أيضاً تجاهلها لمساعي الأكراد في تغيير البنية الديموغرافية في كركوك، وبالتالي فإنها مقتنعة بأن الولايات المتحدة لا تعير لتحفظاتها ومخاوفها وأمنها أي اهتمام، مقابل ذلك فإن إدارة بوش التي تنظر إلى العالم من نافذة واحدة أخفقت في التجاوب مع تطلعات تركيا مما تسبب في دخول علاقات البلدين في منعطف عقيم يصعب تجاوزه بسهولة.<BR><BR>الحذر التركي من الولايات المتحدة _إن جاز القول_ له أيضاً دوافعه الخاصة، فالعلاقات التركية العربية تشهد تطوراً نوعياً منذ عامين، وأي حديث عن قيام تركيا بلعب دور معين لمصلحة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة من شأنه أن يعيد هذه العلاقات إلى مربع التوتر والشك المتبادل. <BR>وهناك في الأفق قضايا كبرى مشتركة بين العرب وبين تركيا، وأبرزها الوضع في العراق وانعكاساته على القضية الكردية في سائر البلدان المحيطة التي فيها تجمعات كردية كبيرة تتراوح بين 10 إلى 22% من حجم السكان تبعاً لحال كل بلد ، الأمر الذي يجعل تركيا بحاجة إلى تعاون شفاف مع دول الجوار العربية وأبرزها سوريا لوضع القضية الكردية في إطارها الوطني المحلي لكل بلد، وعدم السماح بنفاذ التأثيرات المقبلة من العراق إلى الداخل المحلي بأية صورة كانت. <BR><BR><font color="#0000FF"> هل تخلت الولايات المتحدة عن إردوغان؟ </font><BR>عندما ننظر بشكل عام إلى الأعداد اليومية التي صدرت من الصحف التركية في المدة الأخيرة نرى بأن هناك تطوراً مهماً طغى على مجرى الأحداث في البلاد اندرج تحت سؤال واحد، وهو "هل تخلت أمريكا عن إردوغان"؟. لقد لاحظنا في هذه الصحف أن واشنطن تخلت عن تحفظاتها، وبدأت تطلق التهديدات العلنية ضد تركيا دون الحاجة للمواربة أو التضليل.. كما لاحظنا أيضاً أن هناك تغيراً واضحاً في المواقف الأمريكية ضد الصحف التركية الداعمة لحكومة حزب العدالة والتنمية أيضاً، وكمثال على ذلك تصريحات (السفير الأمريكي لدى أنقرة) إيريك إيدلمان، الذي قال: "إن الصحافة التركية تبالغ جداً في انتقاد الولايات المتحدة". <BR>القاعدة السياسية الحاكمة في تركيا تقول (بأن موالاة أمريكا تحقق لك السلطنة السياسية بينما عداؤك لها سيكون بمثابة مقبرة السياسيين). لهذا السبب يمكن القول بأن تركيا حددت مكانها في العالم الجديد منذ التصريح الذي أدلى به (رئيس الوزراء الراحل) عصمت إنونو عام 1964م، وقال فيه بأن (هناك نظام جديد سيتأسس في العالم وتركيا سوف تأخذ مكانها فيه).. <BR><BR><font color="#0000FF"> واشنطن تحاسب إردوغان: </font><BR>اليوم يبدو واضحاً أن واشنطن تحاسب أردوغان على مذكرة الواحد من مارس (دون أن يكون له ذنب في ذلك).. ونقول "بدون ذنب"؛ لأن الجميع يعلم جيداً مدى الجهود الحثيثة التي بذلها أردوغان لإقناع حزبه بالموافقة على المذكرة وتمريرها من البرلمان ولكن بدون جدوى، وبطبيعة الحال فإنه انجرف سياسياً مع أزمة العراق، وبالتالي فإن أمريكا ستحاول استخدام عدة أوراق لترويض تركيا، ومنها شمال العراق وجنوب شرق الأناضول والمحادثات التركية مع الاتحاد الأوروبي. <BR><BR>ولكن يجدر الإشارة إلى أمر هام وهو أن تحويل رجب طيب إردوغان لرجل ضد أمريكا مما يخاطب مودة الشعب التركي المعادي للولايات المتحدة قد يجعل منه "بطلاً في أنقرة" لكن هذا قد لا يمنع احتمال إجراء انتخابات مبكرة نتيجة الغضب الأمريكي عليه. نعم، يمكن القول بأن أياماً صعبة تنتظر أنقرة، ولكن مقابل ذلك فإن هذه الأجواء السياسة المشحونة بالتوتر سوف يكون لها تأثير سلبي أيضاً على الولايات المتحدة، خصوصاً أن الشعب التركي يكن الحقد والكراهية ضدها بسبب احتلالها للعراق ووحشيتها في قتل أبناؤه، وهو يدرك جيداً أن هذا الاحتلال لا علاقة له أبداً بالديمقراطية التي تدعي بجلبها إلى العراق. هذه الكره الذي ينمو بشكل كبير وينتشر بسرعة النار في الهشيم بين صفوف الشعب التركي بدأ يقلق أمريكا بشكل كبير.. كما أن موقف حزب العدالة والتنمية من الوضع في العراق بدأ يزعج الشعب وحتى النواب فيه بشكل لا يوصف لدرجة أن النواب بدؤوا يستنكرون علناً انصياعها المخجل للرغبات الأمريكية، مما أدى إلى سحب دعمهم للحكومة مما يهدد الحزب بالانقسام.<BR><BR><font color="#0000FF"> الإعلام التركي يأخذ بنصائح البنتاغون: </font><BR>المقالة التي كتبها الكاتب روبرت بولوك في صحيفة "ذا وول ستريت جورنال" الأمريكية، والتي هدد فيها تركيا كانت توجه في مضمونها رسائل هامة إلى الإعلام التركي، وذلك حينما ذكر فيها اسم صحيفتين تركيتين في إشارة منه إلى الدور الذي يلعبه الإعلام في تشويه الصورة الأمريكية وضخ الحقد ضد أمريكا موجهاً نداء صريحاً إلى ممثلي الصحافة التركية لوضع حد لمثل هذه الأخبار التي وصفها "بالمغرضة" ضد بلاده. <BR><BR>في الواقع هذه الرسالة وصلت في اليوم التالي إلى العنوان المطلوب.. حيث قامت الصحف التركية الموالية لأمريكا بممثليها وكتابها وصحفييها بتغيير طريقتهم في الكتابة والدخول في الخط الجديد الذي رسمه بولوك لهم، وأول تحول جاء من شبكة الإعلام الضخمة التابعة لأيدن دوغان، وهي تضم في بنتيها العلمانية ثلث الصحف التي تصدر في تركيا والأوسع انتشاراً مثل "حرييت" "مللييت" "راديكال" "وترجمان" إلخ.. لقد كان هناك تغيير واضح، بل اتجاه معاكس في أسلوب الواقفين على كتابة ونشر الأخبار في هذه الصحف التي بدؤوا من خلالها يحذرون ويعددون الأضرار الكبيرة التي ستلحق بتركيا في حال معاداة أمريكا.. مثلا؛ لقد بدأ أرتغول أوزكوك مدير عام صحيفة "حرييت" أولاً بمحاولات لتنقية وجه صحيفته التي ذكرها "بولوك" بالاسم، فقال (بأنهم لم يقصدون هذا المعنى في أخبارهم) ومن ثم بدأ يقوم بوظيفته التي حددها له مقر الحرب النفسية (البنتاغون) على أكمل وجه.. ويفرغ أرتغول أوزكوك أحشائه أو بالأحرى يكتب الجمل التي أملاها عليه "البنتاغون" فيقول في مقالته:" إذا كنتم أنتم كدولة تبنون أرائكم على مجرد ادعاءات ونظريات لا وزن لها ولا صحة فإنه سيصبح من حق الغير أن يسألكم ويحاسبكم عليها.. بعض الأشخاص الذين يتجولون تحت اسم "المهندسين الدبلوماسيين" يقودون رئيس الوزراء ووزير الخارجية إلى جهة خاطئة.." ومن ثم يلقي أرتغول أوزكوك بتحذير تاريخي :"إذا استمر الوضع على هذا الحال، فإنهم سيأخذون عنكم انطباعاً بأنكم مشابهون لمعمر القذافي". <BR><BR>ومن عجائب الصدف أن تلتقي مقالة أوزكوك بمضمونها (المدافع عن أمريكا) مع خطوط مقالة (مدير عام صحيفة "مللييت") محمد يلماز الذي انتقد تصريحات رجب طيب إردوغان ومن حوله ضد أمريكا، وقال بأن هذه التصريحات تسببت في إزعاج الولايات المتحدة، متهماً تركيا بأنها "عربية أكثر من العرب أنفسهم" وأضاف: "أنا أعتقد شخصياً بأن إقامة علاقات طيبة مع الولايات المتحدة هو أمر حياتي لا مفر منه لكي تتمكن تركيا من لعب دور مهم في النظام العالمي الجديد، وأيضاً من أجل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وأؤمن بأن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المفكرين الأتراك لتبني مواقف جدية ومنطقية بدلاً من استخدام شعارات رخيصة وسهلة". <BR><BR>أما المفاجأة الأخيرة فكانت في اللقاء السري الذي عقده (السفير الأمريكي) إيريك إيدلمان في فندق "بيبيك" باسطنبول مع حسن جمال من صحيفة "مللييت" وجنكيز شاندار من صحيفة "ترجمان" و(مستشار المخابرات التركية) شنغال أتاسغون... رغم أن اللقاء كان سرياً إلا أنه لن يكون من الصعب أبداً التكهن بمضمونه، وبالتالي المصدر الذي بدأت تستسقي منه (أكبر وأوسع الصحف التركية انتشارا) أخبارها لتنقلها إلى قرائها.<BR><BR>ويبقى القول بأنه رغم الانتقادات الشديدة التي وجهها إردوغان لواشنطن إلا أن بعض المحللين يؤكدون بأن ذلك كان من لوازم السياسة لإرضاء الرأي العام التركي بينما هم لا يتوقعون أبداً أن تطرأ تغيرات ملموسة على علاقات البلدين،وخصوصاً أن المؤسسة العسكرية التركية العلمانية تولي أهمية خاصة للإبقاء على هذه العلاقات وتنظر بعين الارتياب لميول حزب إردوغان.. كما ترتبط تركيا والولايات المتحدة الأمريكية بشبكة من العلاقات المختلفة، حيث تتمثل أهم دوافع تركيا لتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى اعتبارات أمنية ولاسيما ما يتعلق بالمسألة الكردية ورغبة أنقرة في الحصول على مساعدات اقتصادية وعسكرية غربية بشروط تفضيلية ومحاولة تأمين الدعم الأمريكي المتواصل لإنجاح مساعيها الرامية إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي والمحافظة على التوازن إزاء حل مشكلاتها مع اليونان... <BR><BR><font color="#0000FF"> نظرة على العلاقات التركية الأمريكية: </font><BR>اتسمت العلاقات بين واشنطن وأنقرة في السنوات الأخيرة بدرجة عالية من الثبات والاستقرار، واتخذت نمطاً هيكلياً محدود التأثر بالتحولات والتغيرات الآنية، وشمل هذا النمط الروابط السياسية والعسكرية خاصة فيما يتعلق بمجال عمل حلف الأطلنطي الذي تعد تركيا إحدى الدول الرئيسة فيه لا سيما في المنطقة الجنوبية وخارج نطاق الأطلنطي فإن وثوقية العلاقات بين واشنطن وأنقرة تظهر وفقاً لموضع الحدث وأهمية القضية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد وبناء على التقييم الأمريكي يتم تحديد حجم نوعية المشاركة التركية والدور الذي يمكن أن تلعبه. <BR>ويسري هذا أيضاً على الموضوعات ذات الأهمية بالنسبة لتركيا، مثل: الملف العراقي أو الصراع العربي- الإسرائيلي مع الأخذ في الاعتبار أن واشنطن من جانبها تراعي إلى حد ما المصالح التركية في هذه القضايا.<BR><BR>ومن اللافت أن توافقاً كبيراً يمكن رصده في المواقف والمصالح بين الدولتين في الملفات ذات الاهتمام المشترك، سواء بالنسبة للعراق أو المنطقة العربية إجمالاً، وكذلك بالنسبة لأفغانستان وآسيا الوسطى وهو ما يقلل كثيراً من فرص الاختلاف والتباين في الرؤى والمواقف، لا سيما في الموضوعات السياسية الإقليمية فيما يتعلق بالحد من النفوذ الإيراني في آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين، فضلا بالطبع عن مواجهة أي احتمال لاستعادة روسيا النفوذ السوفيتي القديم في هذه المنطقة الحيوية بالنسبة لأنقرة وواشنطن على حد سواء. <BR><BR>ولكن مع وصول حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعتدل إلى السلطة في الثالث من نوفمبر الماضي والسياسية الحكيمة التي سلكتها خصوصاً بتعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية بخلاف الحكومة الائتلافية السابقة التي كان يرأسها (رئيس الوزراء التركي الأسبق) بولنت أجاويد، وزاد الطين بله والأمور أكثر تعسيراً قرار البرلمان التركي الذي رفض في الأول من مارس الماضي السماح بنشر 62 ألف جندي أمريكي على الأراضي التركية.<BR>وتبدو تركيا راغبة في إعادة ترميم العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة ومتحمسة جداً التعود إلى المعادلة الداخلية الإقليمية العراقية والتي بقيت خارجها بعد قرار البرلمان التركي عدم المشاركة في الحرب<BR><BR>وأخيراً.. العلاقات التركية - الأمريكية تدخل في نطاق التحالفات الاستراتيجية، لكن في ضوء الثوابت والمتغيرات المحيطة بهذا التحالف يمكن القول بأنه تحالف غير متوازن يميل دائماً لصالح واشنطن، ومع ذلك فلدى الطرفين حرص على استمراريته وثباته بما أن مصلحتهما تقتضي الإبقاء على هذه العلاقات خيراً من قطعها.<BR><br>