الدور الصيني في الملف النووي
14 شعبان 1426

إذا ما حاولنا إيجاد مجال تلتقي فيه نقطتا المأزق النووي الذي ميز الصائفة الماضية (إيران وكوريا الشمالية) فسنجد أن هذين البلدين لا يلتقيان فقط في كونهما نقطتي ارتكاز لمثلث -بدل محور- الشر الذي ندد به الرئيس بوش، ولكنهما يمثلان -كل بطريقة مختلفة- الدور المحوري الذي تلعبه الصين في واقع العلاقات الدولية الحالية بما أن هذه الأخيرة كانت بداية قطب الانتشار النووي، بمفهومه الأمريكي، من خلال إقدامها على تلبية الطموحات النووية لكلتا الدولتين، مما يعني أن البحث عن الحل مستقبلاً لن يكون مجدياً من غير الإشراك الجاد لبكين.<BR>إننا حينما نتذكر "التواري" أو فلنقل "عدم الاكتراث" الصيني خلال الأزمات الدولية الأخيرة خصوصاً، حربي العراق، سيكون بإمكاننا قياس النفوذ المتزايد للصين في واقع القضايا العالمية، وبالتالي يتعين علينا أن نتفق أساساً أن ظل الصين صار واضحاً، وسيزداد وضوحاً مع تطور الأزمتين الحاليتين.<BR><BR>ففي الحالة الإيرانية: تمثل الصين حلقة لأزمة ليس لمجرد أن هذه الأخيرة تملك حق النقض في مجلس الأمن بما يعني قدرتها على إلغاء أي قرار أممي يدين طهران، ولن نبتعد كثيراً لنقول: إن الولايات المتحدة لن تحاول على الأقل في الظرف الحالي أن تكرر المغامرة العراقية التي اقتضت تجاوز إطار هذا المجلس، وأما في نظيرتها الكورية الشمالية فإن دور بكين يتضح بقدر لا مجال للشك فيه فهي هناك تلعب دور الوسيط بالعودة للتراكمات التاريخية التي جعلت من الصين الدولة الوحيدة التي تملك رصيداً نافذاً لدى بيونغ يانغ، وبالتالي إشرافها على المحادثات السداسية التي تضم أطراف فاعلة في الكوكب هي: الصين، روسيا، الولايات المتحدة، اليابان إلى جانب الكوريتين بصفتهما معنيتين مباشرتين بالبرنامج النووي الذي يجري العمل على تحييده وعلى الرغم من أن أربعة جولات من هذه اللقاءات تمت حد الساعة إلا أنها باءت كلها بالفشل وعدم التمكن من الوصول إلى صيغة ترضي كل الأطراف، وهذه نقطة جوهرية لا يجب المرور عليها قبل التمعن وملاحظة أن المصالح الصينية تظهر هنا بشكل مباشر وتتعاكس بصيغة تكاد تكون مطلقة مع المصالح الغربية أو الأمريكية على وجه التحديد ووفق هذا، نستطيع أن نتساءل عن جدية الصين في ممارسة الضغوط، التي سبق وقلنا: إنها الوحيدة القادرة على فعلها، على جارتها الكورية الشمالية بما أن الصين تدافع في هذه الجهة من العالم -بل وحتى في إيران التي هي أقرب إليها من أمريكا على أية حال- عن مرتكزات حيوية ليست مضطرة تحت أي طائل أن تتنازل عليها لحساب دوائر أخرى تملك معها رصيداً عدائياً غير هين.<BR><BR>هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الدبلوماسية لن تبذل أي شيء قد يسلب العلاقات الممتازة التي تحتفظ بها مع طهران قدراً منها خصوصاً إذا تذكرنا أن إيران مؤخراً صارت تعلق كل توازناتها الوطنية بالاعتماد على التلويح بسلاح النفط الذي يعرف صعوداً قياسياً خلال الأشهر الأخيرة جاعلاً من كل كواليس السياسة العالمية منشغلة به بما في ذلك الصين التي صارت ومنذ العام 1993م تدرك ما للذهب الأسود من قيمة مؤثرة على العقد الجيوسياسية بما أنها تعول على المصادر الأجنبية بنسبة ثلاثين في المئة من هذه المادة لتحرك عجلة الصناعات الضخمة لديها من غير أن ننسى أن التقديرات تقول بأن هذه النسبة سوف ترتفع إلى حدود الخمسين مئوية بحلول العام 2020م قبل أن تصل سقف الثمانين بعد ذلك بعشر سنوات وهي مدة قياساً على سلم العلاقات الدولية، كما تلحظ، قصيرة جداً ولا تعني غير الاستماتة في الدفاع على مستقبل منظور بما أنها قد تضع الصين ضمن دائرة انعدام الأمن الإستراتيجي زيادة على أن المنطقة عموماً تشهد حالة عدم استقرار بما أن ثلثي الواردات الطاقوية للصين مصدرها منطقة الشرق الأوسط - بناء على معطيات من الوكالة الدولية للطاقة- ويتعين نقلها بطرق بحرية طويلة نسبياً إذا ما عرفنا أن ميناء شنغهاي الصيني مثلاً يوجد على مسافة 4500 ميل من مضيق هرمز الذي تراقبه البحرية الأمريكية.<BR><BR> هذا يعني الحرص الصيني على الخروج من بين فكي "الكماشة" الأمريكية من خلال نسج علاقات مع دول نفطية غير متوافقة مع واشنطن والهدف يتعلق إذن بفتح آفاق مع موارد في آسيا الوسطى بما أن الوصول إليها سيكون بالضرورة أسهل من الطريق التقليدي عبر هرمز كما قلنا وهذه الصفات تتوافر في إيران بشكل أخص. في العام الماضي، أبرمت بكين وطهران عقداً تقوم الصين بمقتضاه بشراء ما قيمته 70 بليون دولار من الغاز والنفط الإيرانيين على مدة تمتد لثلاثين سنة ووفق هذا المخطط ، سيقوم الصينيون بالمساهمة في استغلال المناطق النفطية في شمال غرب إيران بمحاذاة الأراضي العراقية إلى جانب أن الصين تخطط أيضاً لتصميم أنبوب نفط يعبر إيران في اتجاه بحر قزوين حيث يمكن عندها ربطه بأنبوب آخر يربط كازاخستان بغرب الصين.<BR><BR>إن الولوج الأمريكي في آسيا بمناسبتي حربي أفغانستان والعراق الأخيرتين قد أحرج المخططات الصينية بكل تأكيد، وهو الذي أحيا، من جهة أخرى أيضاً، القلق الإستراتيجي لهذه الدولة العظمى بخصوص شرايين اقتصادياتها القارية معززاً في ذات الوقت مخاوفها من الوقوع بين مخلبين وهذه هي الدوافع الحقيقية للتقارب بينها وبين إيران بما أنهما تشتركان في القلق من هذا الحضور الأمريكي.<BR>إن هدف إيران، غير المعلن، هو الدفع بالصين لأن تصير المقتني الأول لنفطها بدلاً من اليابان بالنظر لوقوع هذه الأخيرة تحت القمقم الأمريكي منذ الحرب الكونية الثانية، وبالتالي فليس من المدهش تحت هذه الظروف أن يصرح (وزير الخارجية الصيني) لي زهاوسينغ، في السنة الفارطة أن بلاده ترفض أن يتولى مجلس الأمن الملف النووي الإيراني، ومن هنا سيكون بإمكاننا تفهم المرتكزات التي تعتمدها إيران في تصعيداتها الأخيرة عقب وصول محمود أحمدي نجاد إلى مقعد الرئاسة في طهران وجرأتها على تحدي الوساطة الأوروبية مثلما يعرف الجميع.<BR><BR>في حالة شبه الجزيرة الكورية يختلف الأمر اختلافاً واضحاً. لا يتعلق الأمر في هذه المرة بقضية النفط وإنما الإشكال هنا يجد تفسيراً له في مبدأ السيادة الصينية نفسه وحرصها في الحفاظ على إشرافها على الأسواق التي ظلت دائماً تدور في فلكها، ومن هنا سجل الملف النووي الكوري منعطفاً حاسماً في خط سيره من خلال السرعة التي أبدتها الصين في العمل على إحداث آلية للأمن الجهوي على شكل تلك المحادثات السداسية، والتي تنظمها باستمرار، ولعل هدفين هامين كانا السبب الرئيس في هذا الدور الصيني الذي ظل قبل ذلك محبذاً للتنسيق الثنائي مع الجارة الشمالية لها.<BR>الأول يتعلق بمحاولة الصين توجيه "رسالة حسن نية" باتجاه الأمريكيين -التواقين دوماً لرؤية دور صيني جاد في القضية- على أمل توقع تطور أمريكي قريب فيما يخص مشكلة تايوان، وهذا يتوضح جلياً في حرص بكين دائماً على ربط وساطتها بتوقف الأمريكيين عن إمداد تايبه بالأسلحة، وهذا التوقع بدأ يؤتي ثماره من خلال البرودة التي ظهرت على تصريحات الرئيس بوش مؤخراً فيما يتعلق بالنزعة الاستقلالية لجزيرة تايوان.<BR><BR>وأما الثاني فيتعلق بالمخاوف الحقيقية لبكين من امتلاك بيونغ يانغ لقدرات نووية وهذا ما قد يعني حرصاً يابانياً وآخر تايوانياً على تجاوز السقف النووي في هذا المكان من العالم وما يعنيه هذا من تهديد مباشر لها بما أنه يجب عيناً أن نتذكر أن تنميتها أساساً تتوقف على حد أدنى ضروري من الاستقرار الإقليمي.<BR>في الحقيقة، لا تهدف الصين إلا إلى الحفاظ على الحالة الراهنة في شبه الجزيرة الكورية؛ لأن التطورات التي قد تخرج عن نطاقها قد تؤدي إلى انهيار نظام كيم يونغ إيل ومن ثم، توحد شطري الكوريتين لحساب الجزء الجنوبي حتماً، وهذا في غير صالح الصين؛ لأنه لا يعني غير تعاظم للوجود الأمريكي بواسطة تحويل كل منطقة الشرق الأقصى إلى منطقة تبادلات حرة لن تختلف كثيراً عن تلك التي تعطي المظهر العام في أوروبا وأمريكا الشمالية الحالية.<BR><BR>إن الهدف الصيني هو تحويل النظام الحاكم في كوريا الشمالية إلى قدر أدنى من الانفتاح على الشكل الذي عمدت الصين إليه، وهذا لن يتحقق قبل خلق إرادة سياسية جادة هناك في مقابل ذلك الجمود الثقافي الذي لا يرغب في التطور ويصر على الحفاظ على نمطية وَلائية تعيش في معزل عن التحولات العميقة التي تعرفها العلاقات الدولية.<BR>في مثل هذه الظروف يمكننا فهم أسباب التورع الكوري عن التسامح في هذا الشأن؛ لأنه لا يعول في الحقيقة سوى على الموقف الحاسم الذي ستلعبه الأخت الكبرى له.<BR> إن إيران وكوريا الشمالية، كلتاهما في الواقع، ليستا لاعبتين محورتين في التجاذبات السياسية الدولية الأخيرة؛ لأنهما في الحقيقة لا تعدوان أن تكونا مجرد بيدقين على رقعة "اللعبة الكبرى" لمخططات النفوذ بين القوى المتقابلة وهي ما يجعل في مقدورنا بواسطته توقع مستقبل العلاقة بين أمريكا والصين. ببساطة: إن الصين لن تتنازل عن ورقتيها هاتين بسهولة.<BR><br>