بوتين في الجزائر:أبعد من صفقات السلاح وإسقاط الديون
23 صفر 1427

ظلت العلاقات الخارجية للدولة الجزائرية أهم ثقوب سنوات حكم بوتفليقة، فرغم أن مجيئه كان في أحد أوجهه تعبيرا عن رغبة في إحداث تحولات عميقة في نمط السياسة الخارجية الجزائرية ومحاولات بلد يتعافى من آثار حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس أن يخرج من أزمته, مع ما صاحب تلك التغيرات من مستجدات على المستويات الإقليمية والدولية جميعها بالإضافة إلى ما شهدته تلك البلد - بحكم السن والتقاعد – من تحولات هامة في هرم النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة في الجزائر وهو ما يشي بتحويل دفة السياسة الجزائرية من التوجهات الفرنسية الخالصة إلى توجهات تشارك في صياغتها الولايات المتحدة في مرحلة أولى، ثم إلى محاولات أمركة كاملة وإن كانت الشخصية الجزائرية بحكم النشأة والتكوين ومقدرات التاريخ والجغرافيا تظل عصية على التطويع <BR>وفي هذا الإطار تأتي زيارة (الرئيس الروسي) بوتين للجزائر، وهي زيارة تأتي تتويجا لمسيرة طويلة من التعاون بين الدولتين في شتى المجالات وهي في جوهرها تدشين – أو إن شئنا الدقة – إعادة تأسيس لنمط تحالفات يرقى في العلاقات الدولية إلى "التحالف الاستراتيجي" وهو ما عبر عنه (الرئيس) بوتين بقوله: "إن روسيا قد أبرمت اتفاقية شراكة إستراتيجية، وأن المصالح والاهتمامات المشتركة هي الأساس في تطوير العلاقات الثنائية"، وهو يشير إلى "بيان حول الشراكة الإستراتيجية بين البلدين" وذلك أثناء زيارة بوتفليقة لروسيا في شهر أبريل من عام 2001، ولعل فهم تلك المقولة يوضح إلى حد كبير جوانب سياسات الكرملين وتوجاهتها الاستراتيجية، ويمكن القول أن هذا المسعى الحثيث لتمتين أواصر العلاقة قد حرصت عليه كل من الدولتين لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى تصب في صالح الأمن القومي لكليهما <BR>فإذا كانت روسيا تسعى إلى محاولات إحياء دورها في "الشرق الأوسط" ومواجهة الاستفراد الأمريكي بالمنطقة دولا وشعوبا وثروات ، حيث زار الجزائر في الفترة الماضية كل من روبرت موللر (مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية) ، ثم كانت زيارة (وزير الدفاع الأمريكي) دونالد رامسفيلد ، وتأتي مجمل تلك الزيارات لتضع مزيداً من علامات الاستفهام حول مستقبل المغرب العربي الذي بات محلَّ صراع بين كثير من الأطراف الدولية، فضلا عن ذلك فقد فهمت موسكو تلك الزيارات المتوالية على فترات قصيرة باعتبارها تسللا أمريكيا واختراقا لحلفائها التاريخيين، ولعل استقبال موسكو لوفد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مطلع الشهر الحالي لا يفهم إلا في هذا الإطار <BR>فزيارة بوتين إذا تأتي في إطار سعي حثيث لاستعادة بعض مناطق النفوذ المفقودة حيث تلعب الجزائر ـ بالنسبة لسياسة موسكو الخارجية ـ دور نافذة مطلة على "العالم الثالث" بشكل عام وعلى إفريقيا بشكل خاص <BR>ولعل نظرة على الفريق المرافق للرئيس بوتين يوضح عمق المعنى الاستراتيجي في الزيارة حيث رافقه كل من إيجور إيفانوف (سكرتير مجلس الأمن الروسي)، و(وزير الخارجية) سيرغي لافروف، و(مساعد الرئيس) سيرغي بريخودكو، و(وزير التنمية الإقليمية) فلاديمير ياكوفليف، وميخائيل مارغيلوف (رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الفيدرالية) و(رئيسا إنغوشيتيا والشيشان) مراد زيازيكوف وعلي ألخانوف، ورؤساء بعض الشركات الروسية، فضلاً عن كثير من رجال الأعمال الروس. <BR>ومن ناحية الجزائر فهي أيضا تسعى لمحاولة اللعب على بعض التناقضات الدولية وبقايا الصراع الروسي الأمريكي على الشمال الأفريقي لتستعيد عافيتها على صعيد السياسة الخارجية للدولة وإعادة بناء الصورة الذهنية للجزائر التي ضعضعتها سنوات الحرب الأهلية <BR>ولقد شهدت السنوات الماضية منذ توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية الجزائرية الروسية إحياء تلك الشبكة العميقة من العلاقات من فترة الرئيس بومدين ، ذلك أن التسليح الجزائري هو في مجمله تسليحا روسيا حيث الأسلحة الجزائرية هي بنسبة 90 بالمئة أسلحة سوفييتية وروسية الصنع، ففي العام 2002 اتفقت كل من الجزائر وروسيا على تحديث أسلحة الجيش الجزائري بالإضافة إلى تطوير التعاون العسكري بين البلدين بصورة أكبر في المستقبل. <BR><font color="#0000ff">المحاور الثلاثة للتعاون الجزائري - الروسي </font><BR><font color="#ff0000">1- زيادة حجم التبادل التجاري </font><BR>رغم أن حجم التبادل التجاري بين البلدين يبلغ حاليا حوالي 364 مليون دولار في العام 2005, إلا أن استعدادات البلدين قوية في رفع مستوى حجم التبادل، حيث عبر الرئيس بوتين عن استعداد شركات بلاده للعمل في السوق الجزائرية ، وأنه تنوي الكثير من تلك الشركات توسيع حضورها في هذا البلد" مشيرا إلى أنها الجهة المفضلة لها حاليا وفي هذا الإطار ثمن للرئيس الجزائري "الدعم الذي قدمه للشركات الروسية في السوق الجزائري"<BR>ولعل معرفة الحجم الكبير المتوقع للتبادل التجاري بين روسيا والجزائر يوضح إستراتيجية العلاقة لكلا الدولتين وأهميتها على مختلف الصعد، حيث تم التوقيع على أكثر من 14 اتفاقاً وصفقات استراتيجية في عدة مجالات.<BR><font color="#ff0000">2- إلغاء ديون الجزائر </font><BR>تبلغ ديون الجزائر لروسيا وفقا للتقارير الروسية حوالي 4.7 مليار دولار، تعود في معظمها إلى فترة الستينات والسبعينات، وهي تمثل حوالي 29% من ديون الجزائر الخارجية البالغة قيمتها قرابة الـ 16مليار دولار في مطلع العام، بحسب وثيقة وقعها وزيرا خارجية البلدين الروسي سيرغي لافروف والجزائري محمد بجاوي. <BR>وقد كان موضوع الديون أحد المواضيع الشائكة التي عالجتها زيارة الرئيس بوتين. وقد تم خلال الزيارة الاتفاق على أن تقوم روسيا بإعفاء الجزائر من هذه الديون التي عليها مقابل أن تقوم الجزائر بشراء سلع وخدمات ومنتجات صناعية ومعدات حربية من روسيا بقيمة مماثلة أو أكثر منها. <BR>وبهذه الطريقة تسعى روسيا إلى تحويل الأعباء التي تحملها دول العالم الثالث تجاهها إلى استثمارات لمصلحتها, ويبدو أن هذه الإستراتيجية الروسية يجري تطبيقها على نطاق واسع, فقد سبق لروسيا أن أعلنت العام الفائت عن إعفائها للديون المترتبة على عدد كبير من دول إفريقيا تجاهها, ومن شأن هذه الطريقة أن تعزز من نفوذ روسيا الاقتصادي والسياسي في المنطقة في ظل التوحش الأمريكي وسيف القوة الذي تسلطه على جميع الدول.<BR><font color="#ff0000">3- صفقات التسليح </font><BR>كانت موسكو تحاول دائما إلغاء ديون الجزائر عبر عرض صفقة تقتضي، منها شراء الأسلحة بقيمة حوالي 4 مليارات دولار, لكن حل مسألة الديون كما سبق وأشرنا فتح الباب أمام استثمار روسي آخر في المجال العسكري. إذ شهدت زيارة بوتين للجزائر أيضاً توقيع عقود لتسليم طائرات قتالية للجزائر تفوق قيمتها 3.5 مليارات دولار، كما أعلن "الكسي فيدوروف" (المدير العام) للصناعات الجوية الروسية "ميج", في حديث أدلى به في الجزائر للتلفزيون الروسي "روسيا"، حيث قال: "لن أكشف سراً إذا قلت: إننا وقعنا رزمة مهمة من العقود لبيع طائرات من طراز سو-30 أم كي وميج 29 إس إم تي وياك-130"، مضيفا "أن هذه العقود تتناول الأشهر الثلاثة الأخيرة، وإن أول طائرات مطاردة ميج-29 إس إم تي ستسلم اعتبارا من هذا العام إلى الجزائر التي تبلغ نسبة أسلحتها السوفيتية أو الروسية 85%".<BR>هذا وتؤكد جهات روسية داخلية أن الجزائر قامت بإبرام صفقات سلاح ضخمة جدا مؤخرا تضم كافة أنواع الأسلحة وتبلغ قيمتها حوالي 7.5 مليارات دولار, أي أكثر بمرتين تقريبا من ديون الجزائر للاتحاد السوفيتي السابق.<BR>فيما أشارت جهات أخرى إلى أنه سيصار فيما بعد إلى أن توقع الجزائر على عقد لشراء طائرة تدريبية وقتالية من طراز "ياك-130" بقيمة غير محددة و36 طائرة مطاردة من طراز "ميج-29" مرفقا بخيار شراء 20 طائرة أخرى، وهو عقد تصل قيمته إلى 5.1 مليار دولار. ولعل هذا الحجم الهائل من هذه الصفقات هو الذي يدفع الحكومة الجزائرية إلى الإحجام عن الإعلان عنها وعن تفاصيلها.<BR>ومن المنتظر أن تكون هذه الزيارة حاسمة لتأكيد الاتفاقيات الثنائية بين البلدين وفي مقدمتها اتفاقية تزويد روسيا للجزائر بأسلحة، خاصة 70 طائرة مقاتلة من صنف ميج 29 بمبلغ 1.5 مليار دولار، والتي من المتوقع تسليمها ابتداء من الأسابيع القليلة القادمة للجيش الجزائري عبر مراحل تنتهي سنة 2008 .<BR>وبحسب صحيفة "الوطن" الجزائرية، فان المشروع الذي تريد منه موسكو تدعيم موقعها في الجزائر قد يواجه الطموحات الجديدة لواشنطن التي تسعى منذ وقت قريب إلى توسيع نفوذها في وسط المغرب العربي <BR>وفي هذا الإطار تفهم محاولات واشنطن للحد من تحركات موسكو والحيلولة دون تنفيذ ما يطرحه بوتين من شعارات حول توطيد أركان الدولة الروسية واستعادتها لمواقعها كدولة عظمى وعلاقتها مع أصدقائها التقليديين في الشرق والبحث عن لغة مشتركة تسمح بعلاقات جيدة نوعياً مع بلدان الغرب. <BR>وتشير تعليقات العارفين بالملف الجزائري الروسي أن أي تقارب جزائري روسي في مجال التعاون العسكري بالرغم من كون الجزائر أقدم شركاء روسيا في مجال التسليح منذ أيام الاتحاد السوفييتي لن يتم بعيدا عن منظار الإدارة الأمريكية واعتباراتها الجيوستراتيجية الساعية حاليا إلى ربط التعاون الأمني والعسكري مع دول الشمال الإفريقي والتموقع من جديد في حوض المتوسط لإيجاد موضع قدم في المنطقة والبحث عن نفوذ في هذه السوق التي تعد بوابة رئيسية لبلدان إفريقيا الفرنكفونية وبوابة الصحراء الكبرى الخزان الرئيسي للنفط مستقبلا ويدخل برنامج الشراكة الأمريكية المغاربية المعروفة باسم برنامج "إيزنستات" أو "برنامج الولايات المتحدة الأمريكية وإفريقيا الشمالية للشراكة الاقتصادية" ضمن هذا السعي الذي لا ينظر بعين الاطمئنان لأي تقارب بين بلدان هذه المنطقة والمحور الروسي.<BR>وهو ما يجعلنا نؤكد أن تلك الزيارة هي أبعد من إجراء بعض صفقات السلاح أو إسقاط الديون ولعلها بداية تحويل مجرى العلاقات الجزائرية الروسية من الإطار الدبلوماسي إلى عمق الإبعاد الاستراتيجية.<BR><br>