التدخل في السودان .. استعمار جديد
18 شعبان 1427

لا أحد في الخرطوم يعرف على وجهة الدقة سر هذا التحول العجيب في الموقف الأمريكي والانقلاب على حكومة الرئيس البشير ، والضغط لتمرير قرار من مجلس الأمن الدولي (القرار 1706) يفرض نشر 17 ألفا من القوات الدولية في دارفور رغم علم الإدارة الأمريكية لن ينفذ عمليا على الأقل لنص قرار مجلس الأمن على ضرورة موافقة حكومة السودان – التي هي رافضة أصلا - على نشر هذه القوات !<BR>- أحد الاجتهادات ترجع هذا التحول في الموقف الأمريكي إلي أن واشنطن تسعي فقط لاستعراض أو (شو) سياسي وهي مقبلة على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس بغرض إظهار قوتها وعضلاتها أمام نواب الكونجرس ومنظمات حقوق الإنسان التي تظاهرت عدة مرات واتهمت بوش بالتخاذل لمنع ما أسمته (محرقة) دارفور !<BR>- وهناك اجتهاد أخر يقول أن ما فعله بوش ليس سوي خطوة من مسلسل أمريكي لحصار السودان وتفتيته والإجهاز على الحكم ذي الصبغة الإسلامية هناك وأن المسلسل لم يتوقف رغم التعاون الاستخباري السوداني مع أمريكا فيما يخص كشف بعض أنشطة القاعدة المضرة بالمصالح الأمريكية في أفريقيا ، وبالتالي فهو مستمر خصوصا في ظل لسعي للاستيلاء على ثروات السودان النفطية والمعدنية والاستفادة من موقعه الجغرافي الهام <BR>- أما الرأي الأخير فيقول أنه لا يوجد موقف أمريكي محدد من السودان سلبا أو إيجابا وأن الأمر لا يعدوا أن يكون محاولة لتعويض الفشل الذي يلاقيه فريق بوش في العراق وأفغانستان وغيرها ، ومحاولة السيطرة على تمدد الإسلاميين في العالم العربي بعد انتصارات المقاومة اللبنانية والفلسطينية رغم الحصار .. أي تعويض الهزائم !.<BR><BR>وأيا كانت حقيقة الموقف الأمريكي والأوروبي من السودان والسعي لفرض نشر قوات دولية هناك بديلا لقوات الاتحاد الأفريقي (7 ألاف) التي ينتهي تفويضها في 30 سبتمبر الجاري 2006 ، فالثابت أن هذا التصعيد بصدور القرار الدولي ستكون له تداعيات خطيرة منها :<BR>1- أن القرار يضرب بقوة التحالف الحاكم في السودان حاليا وخصوصا بين حزب المؤتمر (الشمالي) بزعامة البشير وحليفه في الحكم (الحركة الشعبية) الجنوبية خصوصا أن هناك تباين واضح في الآراء بين جناحي الحكم حيث يرفض الرئيس ونائبه الشمالي على عثمان نشر القوات الدولية ويعلنان الحرب عليها لو دخلت السودان ، في حين يؤيد نائب الرئيس السوداني الأخر وزعيم الحركة الجنوبية المتمردة سابقا ( سلفاكير) نشر هذه القوات الدولية ما يهدد بانهيار اتفاق سلام الجنوب .<BR>2- القرار يهدم كذلك اتفاق السلام الهش الذي وقعته الحكومة مع بعض متمردي دارفور ، لأن هذا الاتفاق يقول برعاية الاتحاد الأفريقي وقواته له ونشر قوات أفريقية في دارفور ، وهو ما يهدمه القرار الدولي 1706 الذي يطلب نشر قوات أجنبية بدل الأفريقية ، ومن ثم يعيد الحرب للإقليم مرة أخري .<BR>3- القرار يعرض علاقات السودان مع الاتحاد الأفريقي للخطر ، خصوصا أن الاتحاد يؤيد نشر قوات دولية ، وأن تتحول قواته في السودان لقوات دولية تلبس القبعات الزرقاء ، في حين يقول السودان أنه لن يسمح ببقاء جنود أفارقة في إقليم دارفور المضطرب إلا تحت مظلة الاتحاد الإفريقي ، بل وطالب هذه القوات بالانسحاب من السودان أو طردها في حالة ارتدت قبعات الأمم المتحدة الزرقاء !.<BR>4- هناك "طابور خامس " جاهز في السودان من الشماليين والجنوبيين يسعي للإجهاز على حكومة البشير من المعارضين والقوي الجنوبية والشرقية التي وجهت انتقادات للحكومة لرفضها نشر القوات وفق تصور بأن انهيار هذه الحكومة التي ظلت في السلطة منذ 1989 سيكون لصالحها ولصالح توليها الحكم .<BR>5- أبرز مخاطر هذا القرار أن الخرطوم سوف تحارب معركة إسقاطه وحدها في ظل العجز العربي ، والصمت عما يجري في لبنان وفلسطين والسودان والعراق ، رغم إبلاغ (الأمين العام لجامعة الدول العربية) عمرو موسى (الأمين العام للأمم المتحدة) كوفى عنان ، أنه لا يمكن فرض وجود قوات معينه على حكومة السودان ، ما يعني أنها قد تعاني من عقوبات كثيرة وتواجه حروب داخلية وخارجية معا .<BR> <BR><font color="#ff0000">أولى خطوات المواجهة !؟ </font><BR>ولأن الخرطوم تدرك كل هذه المخاطر وتدرك أن هناك مؤامرة كبري من وراء التحرك الأمريكي –الأوروبي في مجلس الأمن خصوصا أن هناك لهجة دينية متطرفة في تصريحات بوش وأعضاء إداراته ضد الإسلام وما يسمونه (الفاشيين الإسلاميين) فقد اتخذ مجلس الوزراء السوداني في جلسته الدورية يوم الأحد الماضي 4 سبتمبر برئاسة المشير البشير رئيس الجمهورية قرارا بإنهاء مهمة القوات الأفريقية العاملة في مهمة حفظ الأمن في إقليم السودان الغربي بدارفور .<BR>القرار السوداني الذي يبدو أنه أولي خطوات المواجهة أو أنه رسالة عنيفة من الخرطوم للغرب عن طبيعة رد فعلها ، جاء في أعقاب نقاش مستفيض ودراسة وافية لمنطوق القرار الدولي 1706 ، والذي أفاض الرئيس السوداني ، في شرح ملابسات صدوره، والمعاني الماكرة المخفية في طيات عباراته، وبين سطوره .<BR>فالولايات المتحدة وبريطانيا – وفق البشير - أجريتا تعديلا على القرار، وبدلاً من أن يكون شرط موافقة الحكومة السودانية على قرار النشر واضحا ومنصوصا عليه بطريقة لا تحتمل أي تأويل آخر ، فإن التعديل ورد في جملة صغيرة تقرأ (يدعو المجلس حكومة الوحدة للموافقة على القرار)، واستنتج الرئيس البشير – وفقاً لمنطق اللغة ، وحقائق القانون، أن كلمة يدعو هذه ليست سوى كلمة تحمل أكثر من معني ، وأوجه القصد من إيرادها إيجاد منفذ لتنفذ من خلاله القوى الدولية الداعية إلى التدخل لتفسر الكلمة على هواها، كما فعلت بالفعل الولايات المتحدة على لسان (مندوبها في المنظمة الدولية) جون بولتون عندما قال: إن موافقة الحكومة السودانية ليست ضرورية !!<BR>وتقول مصادر سودانية إن تفسير الحكومة السودانية للصياغة التي خرج بها القرار وإدراكها لما هو مقصود شكل عنصرا أساسياً في إصدار قرارها بإنهاء مهمة قوات الاتحاد الإفريقي والتي تنتهي أصلا في الثلاثين من سبتمبر الجاري إذ أن الحكومة السودانية قصدت إعلام الكافة ومنذ الآن أنها في طريقها لتحمل مسئوليتها الوطنية وممارسة سيادتها كاملة على إقليمها في دارفور دون الحاجة للاستعانة بأي جهة خارجية أو أي قوات إقليمية أو دولية. <BR>فقد وضعت الخرطوم بالفعل خطة بديلة عرضتها على الأمم المتحدة وتم تجاهلها تقوم على تنفيذ خطة سودانية لتسوية الأزمة في دارفور تقوم على نشر 10500 جندي سوداني في فترة أقصاها مطلع يناير 2007 ، وإعطاءها مهلة ستة أشهر بهدف إعادة الأمن إلي الإقليم ، خصوصا بعدما أدي "كبير مساعدي رئيس الجمهورية" الجديد ، "مني اركوي" - رئيس جبهة تحرير دارفور السابق الذي وقع اتفاق سلام مع الخرطوم - القسم القانوني أمام الرئيس البشير وبدأ في تشكيل السلطة الانتقالية في دارفور .<BR>والمشكلة هنا أن الخرطوم تعتبر أن هذا حقها وبدأت بالفعل في شن حملات عسكرية ضد متمردي دارفور ، في حين يري الغرب أن هذه القوات السودانية لن تعيد الأمن للإقليم وستؤجج الحرب لأن هناك اتهامات لها بدعم ميليشيا الجنجاويد ، ما يعني أن تفسر الدول الغربية قرار الخرطوم على أنه تصعيد عسكري يبرر لها نشر القوات الدولية بالقوة وتجاهل رأي الحكومة السودانية !.<BR>ولهذه يقولون في السودان أن القرار 1706 ليس سوى غطاء سميك تريد القوى الدولية السيطرة من خلاله على موارد السودان واحتلال أرضه، خصوصا بعدما ظهر البترول بكميات كبيرة ، كما ظهرت معادن هامة مثل اليورانيوم غير خام البوكسيد ( الألمنيوم) المستخدم في صناعة الطائرات والسفن ، وأن السودان يوشك أن يلحق بمآسٍ أخرى عربية في العراق ولبنان وفلسطين .<BR>فليس سرا أن هناك مطامع أمريكية وغربية في بترول السودان الغزير ، وفي موارده المعدنية ، وليس سراً أن هناك بالمقابل مخاوف غربية من تحول دارفور إلي منطقة تجمع لأنصار القاعدة ومناهضي النفوذ الأمريكي المتزايد في أفريقيا ورغبات في التدخل هناك لتحقيق عدة أهداف بضربة واحدة ، دون إدراك أن أخطاءهم السابقة في العراق ولبنان وغيرها توشك أن تتكرر في دارفور ، وأن تدخله هو الذي سيسرع هذه الخطط لجذب أنصار القاعدة للمنطقة .<BR>ولهذا جدد الرئيس البشير رفضه القاطع دخول قوات دولية إلى السودان مهما كانت الظروف والمبررات و "مهما كان الثمن ، خصوصا بعدما صرح مسؤولون أمريكان أن موافقة الخرطوم على نشر القوات "ليست مهمة" ، لأن القوات المراد إدخالها إلى السودان هي "مشروع وصاية وحركة استعمارية جديدة"، وتعهد طرد أي جندي من القوات الأفريقية المنتشرة في دارفور إذا غيّر قبعته إلى "زرقاء"، في إشارة إلى "القبعات الزرقاء" التابعة للأمم المتحدة .<BR>كذلك هدد مستشار الرئيس السوداني غازي صلاح الدين باعتبار أية قوات دولية تصل إلى دارفور بدون موافقة الحكومة السودانية (قوات غازية) ، وقال ردا على دعوة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان للحكومة السودانية بقبول قرار مجلس الأمن رقم 1706 الخاص بنشر قوات أممية :" كيف يريدنا الأمين العام أن نطمئن لهذه القوات وقد اختلفت الولايات المتحدة الأمريكية في تفسيرها لقرار نشر القوات مع بقية الدول بعد ساعة واحدة من صدوره " ، داعياً الأمين العام للأمم المتحدة إلي الرد على البديل المتكامل الذي طرحه الرئيس السوداني لحفظ الأمن في دارفور. <BR>ويبدو من ردود أفعال الأطراف المختلفة أن هناك سيناريوهات كثيرة متوقعة بشأن مستقبل المواجهة بين الخرطوم والغرب أقلها سواء أن يتم فتح قنوات اتصال بين الطرفين خصوصا أن هذه رغبة روسية وصينية وتحتاج أمريكا لموقفهما قبل التصعيد مع السودان رغم أنهما اتخذا موقفا غريبا في مجلس الأمن وامتنعا عن التصويت على القرار 1706 ولم يعترضا عليه كما تصورت الخرطوم .<BR>وربما يعزز هذا السيناريو أن هناك مخاوف أمريكية وغربية حقيقية من نشر قوات بدون رغبة الخرطوم ما يشعل حرب بينها وبين قوات الحكومة السودانية ، خصوصا أن الدول التي ستنشر هذه القوات سترفض نشرها في حالة وجود قلاقل ومخاطر على جنودها ، وهذا فضلا عن أزمة توفير قوات دولية في ظل طلب قوات أخري للنشر في جنوب لبنان ومناطق عالمية أخري .<BR>ومع هذا لا يمكن استبعاد سيناريو المواجهة خصوصا أن إدارة بوش باتت ذات منهج وإستراتيجية دينية متطرفة ، وتسعي لتحقيق أي إنجاز قبل نهاية ولايتها عام 2008 ، تبرر به قرارات ومغامراتها الفاشلة حول العالم .<BR>فهل يغامر بوش وبلير باستعمار جديد للسودان ليكون هو المستنقع الأكبر لهما الذي يجلل تاريخهما بالفشل الذريعة ، أم ينجح السودان – كما نجحت المقاومة في لبنان وفلسطين – في فرض أمر واقع جديد وإفشال الخطط الأمريكية لشرق أوسط جديد خال من المقاومة ومن الدول ذات الطابع الإسلامي ؟<BR><br>