لبنان :الهروب من وإلى الحرب الأهلية ؟
13 محرم 1428

رصد المعالم الراهنة لأوضاع الصراع في لبنان ، يشير إلى أن الأمور باتت في انتظار التفجير الكبير (المجهول أو الحرب الأهلية) .أحداث بيروت الأخيرة لم يكن الأخطر فيها هو أن الصراع المفتوح قد أصبح سمة التعامل بين الأطراف اللبنانية ،ولا أن الصراع في الشارع شهد استخدام السلاح من قبل المتصارعين،خلال أحداث عنف "جماهيري " بما يهدد بالانفلات الشامل (مع ملاحظة أن ظهور مسلحين على أسطح البنايات كان مؤشرا خطيرا وفعلا من أفعال الحرب الأهلية) ،ولكن الأخطر هو أن هذه الأحداث في يوميها –يوم الإضراب ويوم أحداث جامعة بيروت العربية-قد أظهرت أن الأوضاع قد دخلت مرحلة التوازن بين المتصارعين على المستوى الاستراتيجي للفعل والقدرات ،بما يعنى تصاعد احتمالات أن يسعى احد الأطراف إلى تغييرها بفعل القوة باعتبار أن كل الأدوات الجماهيرية وصلت إلى حالة التوازن في الصراع بين الطرفين ،وبما يعنى أيضا أن الفرصة باتت مهيأة أمام أطراف متعددة في داخل اللعبة الجارية على الأرض اللبنانية –من الداخل أو الخارج ومن الأطراف الهامشية أو من الأطراف صاحبة المصلحة في التفجير الشامل-لإشعال الحرب ،حتى ولو تكن تلك هي إرادة الطرفين الرئيسيين المنغمسين في الأحداث الجارية.<BR>وفى ذلك ،فإن من يطلق رصاصة إشعال الحرب الأهلية باتت الظروف وأرضية الصراع تسمح له بالفعل ،كما أن تعدد الجهات التي تقف على حافة الحرب وتعدد مناطق ومجالات صراعاتها وصداماتها ،إنما يزيد احتمالات إشعالها من طرف يدخل على الخطوط والتقاطعات دون تمييزه أو معرفته أو مواجهته،وفق نفس النظرية التي جرى بها العمل خلال مرحلة الاغتيالات التي قامت على توجيه عملية الاغتيال إلى أشخاص غير متوقع اغتيالهم وفى توقيتات تختلط فيها الأوراق ،بما يصعب على الجميع الجزم بالجهة التي تقف خلف الحادث.<BR><font color="#0000FF">طرفي الصراع وتحديدهما </font><BR>في مرحلة التوازن الحالية ،فإن معطى فهمها الرئيس يأتي من أمرين ،أولهما تحول حالتي التحالف عند طرفي الصراع من حالة اصطفاف بين قوى متعددة وبعضها البعض في مواجهة قوى أخرى ،إلى حالة تتمحور فيها القوى في كل فريق حول طرف واحد في كلا الاتجاهين .وبمعنى أدق فان حالة التوازن المقصودة هنا يعتبر أهم مؤشراتها وضوح طرفي الصراع الرئيسيين في مواجهة بعضها البعض ،وفى ذلك فان الظهور الواضح للصراعات التي جرت خلال يومي الإضراب وأحداث الجامعة ،لطرفين هما السنة والشيعة في مواجهة بعضهما البعض بات يمثل احد اخطر مؤشرات الوصول إلى حالة التوازن واهم دلالات تصاعد الصراع إلى درجة الانكشاف في المواجهة .لقد بدأت الأحداث في كلا اليومين –يوم الإضراب ويوم أحداث الجامعة-وفق صيغة الحدث والإشكال بين أنصار للمعارضة –حزب الله وأمل والتيار العوني وتيار المردة -ضد الموالاة المشكلة من تيار المستقبل والقوات اللبنانية وأنصار الحزب الاشتراكي ،ولكن الأحداث سرعان ما تحولت إلى بوادر صراع سني شيعي ،عزز وضوحه من بعد أن من طالب المشاركين في الأحداث العودة وإخلاء الشوارع هما أمين حزب الله ورئيس تيار كتلة المستقبل .هذا الفرز في الصراع هو احد مظاهر حالة التوازن كما هو في تحديده لقوى الصراع على هذا المستوى من الوضوح يمثل رافعة خطيرة للصراع ،إذ هو يضع طرفين في المواجهة وفى حالة العداء والاستعداء كما هو يمكن القوى الأخرى (المتحالفة) من صب الزيت على النار باعتبار أن المعركة ستجرى بين طرفين محددين وان القوى الطرفية فيها ستكون هي المستفيدة من ضعف الطرفين الأصليين –بغض النظر عن لعبة التحالفات حيث كل تحالف هو في حد ذاته احتفاظ بمسافة داخل العلاقات بين المتحالفين وبعضهم البعض،أو أن مسافة الخلاف هي أضيق بين المتحالفين وأوسع بين المتحالفين والمختلفين ولا تعنى التوحد والاندماج –ولان كل اقتتال إنما يرتب تحالفاته من داخله وربما بعكس التحالفات السياسية السابقة عليه ،وأمثلة التاريخ زاخرة .<BR>وفى مرحلة التوازن فان مظهرها الثاني ،هو أن تحرك المعارضة في الشارع والذي كان حلقة رئيسية في خطة الضغط على الطرف الآخر ،لم يجر وفق منظومة التحركات التي جرت في ساحة الشهداء –متظاهرين ومعتصمين تحرسهم قوى الجيش –بل انتهى إلى مواجهة جماهيرية /جماهيرية ،والمعنى هنا كان أن تطوير المواجهة من قبل المعارضة ضد الحكومة قد ووجه بأنصار الحكومة وليس بأدوات الدولة وانتهى بيد المعارضة وبإعلان منها ،دون قدرة على تطويره إلى العصيان المدني كما قيل من قبل،بل هو تحول بعد يوم واحد إلى حالة أخرى أظهرت مجددا أن التوازن هو سيد الموقف وان المعارضة التي قررت النزول إلى الشارع لجعل قواعد اللعبة تمر عبر الأطر السياسية –حتى لو كان أنصارها في الشارع –بات الحل أمامها مسدودا من خلال الشارع ،وان الأمور في الشارع تعطى للطرف الآخر استخدام عوامل قوته وان الأوضاع في الشارع ليست لمصلحة المعارضة بصفة مطلقة .<BR>التوازن حدث بظهور قوتي الصراع –بغض النظر عن الدوافع أو الدافعين –والتوازن حدث في النمط الجوهري لممارسة الصراع الذى اختارته المعارضة لإحداث التغيير الذي استهدفته –أي الفعل الجماهيري-كما أن كلا نمطي التحرك جاء ممهورا بدماء مشاركين في الأحداث وباستخدام السلاح ،بما يجعل التوازن والشارع طريقا مفتوحا لاندلاع الحرب الأهلية .<BR><font color="#0000FF">التوازن وعوامله </font><BR>هنا يبدو مهما أن نشير إلى أن التوازن هو معطى متعدد المجالات ولا يقتصر على مكون القدرة العسكرية كما يتصور .في التوازن فان كل معالم قوة احد الأطراف بصفة شاملة ،تحسب في مقابل العوامل الشاملة التي لدى الطرف الآخر بما فيها العوامل السياسية وعوامل التركز السكاني والعلاقات في الإقليم وطبيعة استراتيجيات الصراع التي تفرضها رؤى ومفاهيم كل طرف ..الخ .وفى النظرة إلى عوامل التوازن الراهنة في الصراع ،فان الأمر المؤكد هو أن حزب الله وحركة أمل يمتلكان من القدرة العسكرية ما يسمح لهم بتحقيق حالة "انتصار" في أي صراع داخلي –لا قدر الله –كما هما يتمتعان بدرجة تحالف مع بعضهما البعض اعلي من أية تحالفات بين أية أطراف أخرى في المعارضة والموالاة ،كما الحزب يملك عوامل قوة في الإقليم ليس فقط بحكم التحالف الذي يتمتع به وإنما باعتباره على تماس حدودي مع أطراف داعمة له(سوريا مثالا)،على خلاف الطرف الآخر.لكن القوى الأخرى تملك بالمقابل عوامل قوة تعطيها القدرة على إحداث حالة التوازن ،إذ هي تمسك بقرار الحكومة وليس أقلية في داخلها كما هي تتمتع بغطاء دولي اعلي من الغطاء الذي هو متحقق للمعارضة .وفى ذلك فان الأهم في ما تمتلكه القوى الحاكمة –ليس في عوامل قوتها بل عوامل ضعف الطرف الآخر –إذ أن الطرف الآخر بنى إستراتيجيته ومعالم قوته من الصراع مع الكيان الصهيوني وليس من خلال استخدام السلاح في الداخل ،ومن ثم يمثل الانجرار إلى ما هو ابعد في الصراع الداخلى انهيارا شاملا لإستراتيجيته التي أسست لوجوده ولعوامل قوته الداخلية والخارجية ،وهو ما يعطى الطرف الآخر عامل قوة ،وما يجعله دوما في موقع المهدد بالحرب الأهلية ،بحكم انه يدرك أن خصمه عند هذه النقطة سيقفل عائدا من المواجهة.<BR>وهنا فان وصول الأحداث يوم الإضراب ويوم أحداث الجامعة إلى حد الاقتتال ،مثل خطا احمر لا يمكن لحزب الله تجاوزه ،بما أحدث حالة التوازن بين القوى المتصارعة وحدد آفاق لا يمكن الولوج إليها ،وبهذا المعنى أيضا حدث التوازن ،بما فتح الطريق إما إلى العودة إلى فكرة الحوار أو الانزلاق إلى الحرب الأهلية.<BR><font color="#0000FF">نقل المعركة من الجنوب إلى بيروت</font><BR>هنا فان ثمة عاملين جوهريين يدفعان الأحداث إلى الانفجار،بغض النظر عن إرادة الأطراف الرئيسية الفاعلة حاليا .الأول هو أن أهم واخطر نتائج العدوان الصهيوني على لبنان ،قد تمثل بالأساس في نقل المعركة من الجنوب إلى بيروت ،بما حشر حزب الله في زاوية الصراع الداخلي ودون غيره ،وفى المكان الذي يتحول فيه الصراع بسرعة إلى حالة الفتنة والاقتتال .لقد كانت قدرة حزب الله على ممارسة استراتيجيته تعتمد بالأساس على وجوده وسيطرته في الجنوب في تبادلية مهمة ،إذ هو من ناحية كان يمارس استراتيجيه في المواجهة مع إسرائيل –كأداة لتحقيق كل أهدافه وفى كل الاتجاهات الداخلية والخارجية-كما هو في ذلك قد سيطر على مقاليد الأمور في الجنوب ،بما جعل تنامي عوامل القوة في الصراع مع الكيان الصهيوني معادلة متناغمة مع عوامل السيطرة في الجنوب.لكن حزب الله وبعد ما جرى في المواجهة الأخيرة مع الكيان الصهيوني ،بات محشورا في حالة صراع ليس داخليا فقط ،بل بيروتي أيضا ،وهو ما يدفع الأمر دفعا نحو التصعيد من قبل الآخرين ، ومن قبل حزب الله نحو إحداث الانقلاب في بيروت بعد التدهور في أوضاع السيطرة في لجنوب .<BR>وثانيا :أن العوامل الدافعة للصدام باتت متعددة في اتجاهاتها وعواملها وذات تشكيلة صلبة .لقد جرى إنضاج تلك الحالة على مدار وقت طويل شهد عمليات اغتيال لم يكشف الفاعل فيها بما يقوى الشكوك ويعززها بين أطراف الصراع ،كما الفترة الماضية شهدت خلافات وصراعات واتهامات باتت تجعل منها حالة يصعب حلحلتها باتجاه التوافق تداخل فيها ما هو محلى مع ما هو اقليمى ودولى .كما الحلول من خلال الحوار وطاولته قد أنتجت فشلا ،زاد من خطورة نتائج فشلها أن كل طرف أفشى واستخدم ما جرى في تلك الحوارات خلال معارك التلاسن الكلامي الذي تلا فشل الحوار. وكذا الأمور باتت متصلبة بعد ما فشلت محاولة الجامعة العربية في إيجاد حلول أو تلطيف أجواء الحوار ..الخ .<BR><font color="#0000FF">حرب أهلية ..إذن؟</font><BR>كل العوامل الموضوعية متوفرة إذن لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان ،إلا إرادة الذهاب إليها بشكل اختياري من قبل الأطراف الرئيسية .وفى ذلك فان العوامل التي ما تزال حاكمة للأطراف في عدم الذهاب إلى الحرب الأهلية ،منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي .وفى الأخيرة فان الأطراف الإقليمية والدولية ما تزال حتى الآن ،غير راغبة في التحول إلى هذا النمط من الصراع .<BR>أي أننا أمام حالة معقدة من التشابك والتضارب بين عوامل تدفع إلى الحرب الأهلية وأخرى كابحة ومانعة لها .بما يجعل التنبؤ بالأحداث المستقبلية حالة مغلقة من الألغاز السياسية .<BR>وتتحدد العناصر المكونة للمشهد الحالي ،في أننا أمام حالة توازن تمنع أي طرف من تحقيق أهدافه مما هو جار حاليا إلا بتعديل التوازنات القائمة ،وبالحرب الأهلية تحديدا بعد فشل المفاوضات وفشل الوساطات وعجز التحرك في الشارع عن تحقيق الأهداف.وأننا في ذات الوقت أمام تكلس الخلافات وتعدد مجالاتها مع صعوبة تراجع كل طرف عن مواقفه ،بحكم ارتباطها بقضايا بعضها يخرج حتى أيدي القوى الداخلية كما هو الحال في قضية المحكمة الدولية .كما نحن من جانب ثالث أمام إحجام عن الدخول في أتون الحرب الأهلية من أطراف داخلية وخارجية ،لكننا أيضا أمام ظرف مهيأ لاحتمالات أن تنقلب الأوضاع بقرار مفاجئ من احد الأطراف.<BR>والأغلب أننا أمام عدة احتمالات :<BR>الأول :أن يحدث تجميد للأوضاع ولو لفترة حتى تندمل الجراحات التي خلفتها الأحداث (وقد يكون هناك تحول بأنظار أن ينفتح أفق الأحداث بعد 6 أشهر حين تنتهي المدة الدستورية للرئيس اللبناني الحالي إميل لحود ) وحتى لا تتهم أطراف المعارضة بالسعي لحشر لبنان في زاوية الحرب الأهلية دون غيرها .وهى حالة يمكن أن تحدث وفق آليات متعددة ،منها العودة إلى حالة حوار وتفاوض الأغلب أنها ستجرى بين أطراف عربية وإيران في الواقع العملي ،وربما ينتج عنها أو خلال حواراتها حالة صمت داخلي أو حالة تخفيف للاحتقان ،كما يمكن أن تؤدى تلك الحالة إلى سيناريو داخلي يتعلق بعودة مجلس النواب اللبناني للانعقاد أو تحدث موافقة من مختلف الأطراف على حضور وفود للوساطة أو غيرها .وهى حالة في الأغلب ستكون مؤقتة حتى وان طالت .<BR>الثاني :أن يوجه حزب الله جهوده باتجاه صراع خارجي –أمريكا في الأغلب وربما يصل الأمر إلى إسرائيل أيضا-وفى ذلك هو بدء فعليا هذا التوجه في تعليقات نصر الله على الاتجاه الأمريكي المتحدث عن ملاحقة حزب الله ،كما حزب الله يبدو أن لديه تقدير بان الأوضاع مع الكيان الصهيوني ذاهبة لا محالة باتجاه جولة جديدة من الصراع مع الكيان الصهيوني –الذي هو بدوره لا شك يستعد ويرغب في حدوث تلك المواجهة في اقرب وقت يكون فيها جيشه جاهزا لها-كما لا يمكن استبعاد أن يقوم حزب الله بعملية نوعية ضد الجيش الإسرائيلي وفق نمط معقد من العمل العسكري ،وهنا وفى كل هذه الأحوال والاحتمالات ،فان الحزب سيعود إلى ممارسة إستراتيجيته القديمة ويعيد إرباك كل الأطراف الأخرى التي ستجد نفسها منصاعة إلى فكرة الوحدة الوطنية والى تقليل الخلافات الداخلية لتركيز المواجهة على الخارج ومعه ،كما الحزب سيعيد ترميم صورته الداخلية والخارجية أيضا.<BR>الثالث :أن تقوم الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أو أية أطراف أخرى من خارج لبنان أو من داخله –أو حتى أن يقوم مهووس أو مجنون-بعملية اغتيال كبرى تهز لبنان وتدفع ببعض الأطراف إلى الانفلات المفاجئ أو المقصود ،فتندلع الحرب الأهلية اللبنانية لا قدر الله .أو أن تشهد المنطقة في إحدى ساحاتها سخونة في أحداثها باندلاع إحداث فتنة هنا أو هناك ، فينجر لبنان إلى داخل دوامتها .<BR><br>