غزة بين دموع العاجزين ودماء الصامدين
4 ربيع الأول 1429

بينما تتدفق الحروف تكتب سطور هذه المقالة، تتفجر شلالات الدم من أجساد بريئة وتلف الأكفان طفولة كل جريمتها أنها فلسطينية في زمن أوشكت الكرامة العربية أن تموت لكنها للأسف لن تجد من يرثيها خوفا من إغضاب آلة الحرب الأمريكية وأذرعتها الصهيونية.

69 شهيدا، 17 منهم من الأطفال الذين زفت أصغر عروس منهم إلى السماء وهي لما تتجاوز اليومين، ابتدأتهما بصرخة فرحة بالحياة، وختمتهما بصرخة عتاب للعالم الذي يتفرج على موؤدة القرن العشرين، التي لا تدفن في الرمال هذه المرة، بل تصطلي بحمم الجحيم الذي تصبه الأباتشي الأمريكية والإف ستة عشر، وغيرهما من ترسانة قتلة الأنبياء، وأعداء البشرية من بني صهيون.

سال الدمع، وبرز العجز في أبرز صوره، فلأول مرة لا يملك الآلاف من رجال الأمتين الإسلامية والعربية سوى أن يذرفوا الدموع، ويستمطروا غيث السماء من الطير الأبابيل، على المعتدين، والشوارع العربية التي انتفضت ذات يوم لمقتل طفل واحد هو محمد الدرة، تبدو خالية وصامتة حد الموت، من أي رد فعل تجاه عدوان متواصل منذ الأربعاء الماضي حصد العشرات من الأرواح البريئة.
وبينما كانت صور القتلى من الأطفال تتصدر نشرات الأخبار، كانت عبارة لم تألفها أذن متابعي القنوات الإخبارية تتدفق على لسان مذيعي النشرة عبر الاعتذار عن تضمن المشاهد صورا لا تناسب الأطفال لفظاعتها، فهل تجرح مجرد صور مشاعر أطفال ينعمون بكل شيء وسط ذويهم، ولا تهز ضمائرنا صور اللحم البشري البريء لزهور غزة الذين لم يعد لديهم ملجأ سوى تراب فلسطين، كحبات القمح، تؤذن بالثورة حين تربي بضع سنابل؟!.

من بين مشاهد الموت اليومي في غزة التقطت العيون صورة زهرة بريئة تبكي وهي تخبر مراسل إحدى القنوات الفضائية بعفوية أنها كانت تلعب خارج البيت ككل الأطفال وفوجئت بتجمع عدد من النسوة خارج بيتها وعندما سألت عن السبب أخبروها أن شقيقها الأكبر عمر قد استشهد، وحين جاء الدور على الأم الفلسطينية الصابرة، أخبرت المراسل بعفوية أنها كانت تلح على عمر، الذي لا يهمنا بالقطع أن نعرف اسم عائلته بالكامل، بين عشرات العمريين الذين يرتقون، كانت تلح عليه أن يتزوج، فطلب منها أن تمهله أسبوعا، وبعد انتهاء المهلة صعدت روحه البريئة إلى بارئها وهو باسم الوجه مطمئن القلب لوعد الله له ولأمثاله بحور عين في جنات النعيم.
المشهد الثاني كان لأب مكلوم رزقه الله بابن وحيد بعد خمس سنوات كاملة من الصبر، ولما بلغ الرضيع (محمد البرعي) خمسة أشهر أو يزيد، عاجلته قذيفة صهيونية، وهو يرقد بجانب والده، فارتقى إلى السماء، يشكو ضعفنا وذلنا وهواننا على الناس، والغريب أن الأب المكلوم كان يقرأ قبيل استشهاد نجله وفلذة كبده الوحيد قصة أحد الصالحين الذي توقف قلبه عن العمل ومحاولة الأطباء في أحد المستشفيات إنعاشه، فلما حمل وليده إلى المستشفى وسمع صوت الأطباء يصرخون مطالبين بسرعة عمل إنعاش قلبي له أيقن أنه انضم إلى قافلة الشهداء، ونقلت عنه الفضائيات العربية قوله: "رضع ابني آخر وجبة، كنت أقرأ في كتاب، ثم سمعنا انفجاراً ضخماً، البيت تهاوى، وردم حجارة وقطع حديدية سقطت على ابني الوحيد محمد، وانقطع التيار الكهربائي، وخيم الظلام على المنزل، فقمت أتحسس أين طار طفلي الذي جاءني على عطش، وبعد خمس سنوات، ولكن ابني أطلق صرخته الأخيرة، ثم انقطعت أنفاسه". ويضيف: "ذهبت باتجاه الصوت أتحسس وسط الركام، لمست يداي طفلي، سائل دافئ لزج بلل يديّ، أيقنت حينها أن ابني مصاب، لم نسمعه يصرخ أو يناغي بعد ذلك، تلك هي المرة الأخير التي أسمع فيها صوته". وإذا كان الأب قادرا على الكلام بعد هذه الصدمة، لم فإن الأم المكلومة لم تستطع أن تتنفس من شدة الصدمة، حيث تم نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج، لترقد على بعد خطوات من رضيعها القابع في "ثلاجة الموتى" بمستشفى الشفاء بمدينة غزة، يكاد يقتلها الحنين إليه وقطرات اللبن المحبوسة في صدرها تبحث عن شفتيه الصغيرتين لتروي ظمأه ولكن هيهات، وعندما عادت في صباح اليوم التالي إلى البيت، انهارت من البكاء والعويل، عندما رأت سرير طفلها فارغاً، بجانب ألعابه التي لم تسلم هي الأخرى من القصف.

المشهد الثالث كان لفتية فلسطينين لا يجاوز أكبرهم السابعة عشرة، عاجلتهم قذيفة صهيونية فبعثرت دماء وأشلاء معظمهم على ثرى فلسطين الطاهر، لكن أحدهم بقي فيه رمق من الحياة، ورجت صرخة أحد الشباب المشهد وهو يوصيه بترديد الشهادتين، ويساعده على التلفظ بهما، ثم لا يلبث الشاب الصغير أن يفارق الحياة وسط تكبير أقرانه الذين تجمعوا حوله، وهم يرددون عبارات "قسامية" تتوعد بالثأر له والسير على دربه.

المشهد الرابع كان لمسيرة جديدة من مسيرات أطفال فلسطين، لكنها لم تحمل الشموع هذه المرة مطالبة برفع الحصار الصهيوني الظالم المستمر على قطاع غزة، بل ارتدى المشاركون فيها الأكفان في مسيرات غضب عارمة جابت شوارع محافظات قطاع غزة، مستخفة بالمجازر الصهيونية المتواصلة، ومرسلة برسالة تحد للعدو الصهيوني، مفادها أنّ الأطفال الفلسطينيين مستعدون للموت بطائرات وصواريخ الاحتلال، وصامدون في وجه آلة الحرب الصهيونية الهمجية كما واجهوا من قبل بصدور عارية وبأحجار صغيرة دبابات الاحتلال "الإسرائيلي" وأجبروها على التقهقر أمامهم، لينتصر حجر الأطفال على قذيفة الدبابة.

وسط شلال الدم المتدفق في غزة تبرز تساؤلات لا تنتظر إجابات فلا الوضع العربي يسمح بشفاء الغليل حولها ولا الوضع العالمي يتيح بصيص نور لأقل منها.

التساؤل الأول: ما الرابط بين كل دعوة من دعوات السلطة الفلسطينية القابعة في رام الله لإيقاف إطلاق الصواريخ وبين مجزرة صهيونية جديدة كأنما تنتظر الضوء الأخضر العباسي لتدك بيوت الأبرياء من سكان غزة الذين لا ذنب لهم سوى أنهم دعموا "حماس" في صمودها ورفضها الركوع للاحتلال الصهيوني على الرغم من الضغوط الهائلة التي تتعرض لها من أطراف متعددة على رأسها دول عربية نافذة.

التساؤل الثاني، تضمن الإجابة بين سطوره، فهل يمكن أن تتمادى "إسرائيل" في عدوانها إلى هذا الحد الهمجي، من غير ضوء أخضر من بعض الأطراف الدولية والعربية؟ وهل وصل الوضع الصادم إلى الحد الذي يخرج فيه رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية إسماعيل هنية عن تعبيراته الدبلوماسية المهذبة، ويعلن بصراحة أن ما يحدث في غزة "حرب مجنونة" على الشعب الفلسطيني، تجري "بغطاء أمريكي"، و"تشجيع من الصمت العربي"، مؤكدا بكل وضوح أنهم في غزة "لا يطلبون النصرة من بعض أشقائهم العرب الرسميين، الذين يصمتون، بل يطلبونه من الله عز وجل وحده ثم من الشعب الفلسطيني ومجاهديه". بينما تضمن بيانا رسميا لحركة "حماس" عبارات أشد صراحة حين أكدت على لسان المتحدث باسمها سامي أبي زهري "أن ما يجري في قطاع غزة من مجازر "إسرائيلية" وقتل وتدمير للبنى التحتية ما هو إلا مؤامرة دولية و"إسرائيلية"، وبتواطؤ عربي وفلسطيني ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وبخاصة في قطاع غزة".

التساؤل الثالث عن موقف المنظمات الإنسانية والحقوقية وبخاصة النسائية، التي صدعت رؤوسنا بالحديث عن حقوق مسلوبة لفتاة عربية هنا أو هناك، أو بانتقاد لأوضاع المرأة عموما في عدد من الدول العربية من بينها السعودية لمجرد منعها من قيادة السيارات لخصوصية تتعلق بالمجتمع هناك، فأين ذهبت هذه المنظمات مما يحدث على مدار الساعة للنساء في غزة، ولماذا خفت صوتها العالي في مواجهة الجريمة الصهيونية التي تستهدف الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، من الفلسطينيين.

التساؤل الرابع: هل بات اجتياح غزة على الأبواب، لا سيما مع التصريحات التي أدلى بها جنرالات الحرب في الكيان الصهيوني والتي توعدوا بها غزة بـ "محرقة"، واعتبار رئيس وزراء الكيان ايهود أولمرت أن ما يحدث في غزة "حرب" حقيقية لن تستثني أحدا، ودعوة وزير الداخلية الصهيوني مير شيتريط إلى شن عملية عسكرية واسعة النطاق على غزة، مضيفا لإذاعة جيش الاحتلال "الإسرائيلي": "لو كان الأمر يعود لي، لاستهدفت كل شيء يتحرك بالأسلحة والذخائر، لأنني أعتقد بأنه لا يتعين علينا إظهار الرأفة بمن يريدون قتلنا"، على حد قوله. ويقول المراقبون المتوقعون لاجتياح صهيوني وشيك لغزة إن "إسرائيل" رفعت درجة استعدادها إلى أقصى حد، وحشدت قواتها ومدفعياتها شمال القطاع، ونصبت بطاريات مدفعية، وأعلن جيش الاحتلال جهوزيته بانتظار قرار المجلس الوزاري الصهيوني المصغر حول موعد الاجتياح، ويؤكدون أن وزير الحرب الصهيوني إيهود باراك شرع بحملة دولية لتهيئة الأجواء لعملية الاجتياح المرتقبة، واتصل بنظرائه في بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا، وتحدث إلى مبعوث الرباعية الدولية توني بلير أيضا لإقناعهم بضرورة الاجتياح، وضمان صمتهم بل وتواطؤهم مع العدوان الوشيك حال حدوثه.

ويؤيد ما سبق، ما قاله "تساحي هنجبي"، وهو عضو كبير في حزب "كديما" الصهيوني من أن جيش الاحتلال الصهيوني أعد خطة لإسقاط "حماس"، وإعادة احتلال المناطق التي تنطلق منها الصواريخ. والتساؤل الأهم هو: إذا اجتاحت "إسرائيل" غزة ـ لا قدر الله ـ ونجحت ولو بشكل مؤقت في الإطاحة بحركة "حماس" هل يقبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأركان حكمه في رام الله أن يدخلوا غزة على الدبابات الصهيونية؟ وهل حدث فعلا اتفاق بينه وبين الاحتلال "الإسرائيلي" في مؤتمر "أنابوليس" على تفاصيل هذا الاجتياح؟ وما موقف الدول العربية في جانبها الرسمي من هذا التطور في حال حدوثه، وهل ستعتبره عودة للشرعية التي فقدت على يد من دأبت على تسميتهم بـ "الانقلابيين"، بعد أن فرت فلول أشاوس عباس الأربعين ألفا المدججين بالسلاح والدعم الأمريكي أمام قلة قليلة من أتباع "حماس" ذات صباح من صباحات غزة الصابرة في يونيو الماضي؟ وأيضا أين تندرج الملايين المائة والأربعين من الدولارات التي أعلنت الإدارة الأمريكية تحويلها لعباس الخميس الماضي بعد ساعات من بدء العدوان الصهيوني على غزة الذي انطلقت أولى قذائفه صباح الأربعاء؟

لسنا في وارد الإجابة كما ذكرت على هذه التساؤلات وغيرها لما أسلفناه، لكننا لا نملك إزاء ما يحدث للأبرياء في غزة إلا أن نذرف دمعات خجولة من عيون تحجرت من كثرة الألم وتوالي البكاء، ونواري وجوهنا خجلا من أطفال غزة الذين أعلنوا بمسيرة أكفانهم أنهم أقوى من الجبروت الصهيوني، وأقدر منا على الفعل في زمن العجز العربي والصمت الإسلامي، وسط همس يتسرب في خلفية المشهد يتساءل: ترى ماذا سيقول التاريخ عنا بعد أن تمر الأيام ويطوينا النسيان؟