أيتام مغنية.. على من سيفتحون النار من العرب بعد القمة؟!
4 ربيع الأول 1429

من البداية جرى تقاسم الأدوار؛ إذ كان منطقياً أن يوجه الأصدقاء في طهران فوراً تهمتهم باغتيال مغنية في قلب العاصمة السورية وفي أكثر أحيائها حصانة وحماية إلى "إسرائيل"، وبالطبع "حزب الله"، الذي بادر من جهته أيضاً بتوجيه الاتهام إلى "إسرائيل" عن قتل مغنية، لكن كان من العسير على سوريا أن تنحى المنحى ذاته؛ فالنظام السوري يدرك ما الذي يعنيه اتهام "إسرائيل" من تبعة على مصداقية حديث دمشق عن "الصمود والتصدي"؛ فلا دمشق صمدت أمام عدة اختراقات صهيونية ولا هي تصدت لقتلة مغنية، ثم هي في الأخير لن تثأر له.
ومن المثير للشفقة والطرافة في آن معاً أن الملك الأردني الراحل حسين الذي يتهمه محور إيران ـ سوريا بالتماهي مع الكيان الصهيوني كان أكثر "فاعلية" من هذا المحور حين استهدف رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في سبتمبر من العام 1997م بمحاولة اغتيال صهيونية فاشلة، وبرغم كل ما يقال عن العملية؛ فإن ثمة ما حازه "الضيف" في النهاية من عناية من الأردن، خلافاً لمغنية.
ولن نكون في الحقيقة بهذا الظلم في الخصومة؛ فأي نظام لا يستطيع توفير ضمانة كاملة تامة لضيوفه، وليس مسؤولاً عن وقوع اغتيال لحلفائه أو حتى لعناصره، وإلا صارت حماس مثلاً مسؤولة عن اغتيال الشيخ ياسين رحمه الله! غير أن من الطبيعي أن يفسح المجال للتساؤل حول جدية دمشق في الرد على العملية في حال ثبتت مسؤولية "تل أبيب" عنها، وهل ستكون سوريا في وارد رد الصاع صاعين لمن خرق حدودها وسيادتها هذه المرة أيضاً واغتال أعز ضيوفها، ولو ادعت أنها لم تكن تعلم بوجوده ابتداءً، أم "ستحتفظ بحقها في الرد بالوقت والمكان الذي تريد"، وتضم ملف الاغتيال إلى ثلاجتها الخاصة بالردود المجمدة على "إسرائيل"!!
في البداية "بشّرت" دمشق على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم بعد يومين من تصفية مغنية بأنها "ستثبت قريبا بالدليل القاطع الجهة التي تقف وراء هذا الجرم الجبان (..) نأمل قريبا أن تسمعوا النتائج"، وريثما يأتي هذا "القريب"؛ فإن مقتل مغنية سيظل نقطة سوداء في تاريخ الأمن السوري سواء أكان متورطاً في قتله أو كان قد جرى اختراق تحصيناته حول ضيفه مغنية.

الاتهامات توالت على سوريا بالضلوع في اغتيال مغنية، ففي رأي النائب اللبناني المناهض لسوريا وليد جنبلاط فإن "هناك احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تكون المخابرات الإسرائيلية استطاعت اختراق الأمن السوري، أو أن النظام السوري ضحى بمغنية كما ضحى في الماضي بأوجلان وكما ضحوا بكارلوس من اجل صفقة معينة مع إسرائيل، لأن توقيت الاغتيال يثير الاستغراب" [السياسة الكويتية 21/2/2008]، وفي يقين النائب اللبناني أكرم شهيب فـ"إن سوريا سباقة في هذا المجال، ونحن نتذكر كيف تم تسليم عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني إضافة إلى مقتل أبو قعقاع، أحد مشايخ السنة في حلب، وهو معروف بقربه من الاستخبارات السورية، وكان يسهل دخول المسلحين من سوريا إلى العراق. إذن كل الأصابع تشير في اغتيال مغنية إلى النظام السوري، أضف إلى ذلك، الهمهمة التي حصلت في ضاحية بيروت الجنوبية، تشير أيضا إلى ضلوع سوري". ["الراي" الكويتية 20/2/2008]، وفي تقدير مدير الاستخبارات الأمريكية مايك ماكونيل أن "حزب الله اتهم إسرائيل ولكن هناك دلائل تشير إلى أن هذا الأمر قد يكون مسألة داخلية في حزب الله". مضيفا: "قد تكون أيضا سوريا وراء الاغتيال" [شبكة فوكس نيوز التلفزيونية الأمريكية 17/2/2008]، ومع لوعة الموت قالت أرملة مغنية سعدي بدر الدين في تصريح لموقع البرز المقرب من طهران: "لقد سهّل السوريون الخونة قتل زوجي"، لكنها عادت فتراجعت كلياً عن اتهام "أي دولة عربية" لوكالة الأنباء الوطنية اللبنانية.

حتى طهران لم تجد نفسها سعيدة بالنفي السوري لتصريحات علي رضا عطار نائب وزير الخارجية الإيراني، باشتراك بلاده في جهود التحقيق والتي جاءت بشكل فج يتحدث ـ وفقاً للوكالة السورية للأنباء ـ عن أن هذه التصريحات "لا أساس لها من الصحة"، لكن دمشق ذاتها لم تكن لتمنح خصومها هذه الورقة ضدها؛ إذ إن "تدويل" أو "أقلمة" قضية مغنية، سيمنح هؤلاء الخصوم "شرعية" مماثلة وتبريراً منطقياً لتدويل قضية الحريري والمحاكمة الدولية كأثر مترتب على التدويل، على أن هذا قد أوجد حالة ازدواجية للحليفين قد تجعل تصوراتهما حول الاغتيال مضطربة إلى حد كبير.
والمأزق السوري هنا مع كل هذه الاتهامات والتلميحات ولو جاء بعضها مغرضاً ومتفهماً لسابق العداء، يتركز في أنها لا يمكنها في مقابله أن تتحمس بقوة للتفسير الإيراني للعملية، وأن تضع تصفية مغنية تبعاً لذلك في الملف ذاته ـ أو الثلاجة ذاتها كما تقدم ـ التي وضعت فيها ردات فعلها على عمليات الغارة الجوية على منشأة قرب دير الزور (شمال شرق سوريا) بدعوى الاشتباه بها كمنشأة نووية، واغتيال أحد قادة حركة حماس في دمشق، والتحليق فوق القصر الرئاسي في اللاذقية، والإغارة على موقع تدريب فلسطيني، وإلا قدمت مادة للاستخفاف بمفهوم "الصمود والتصدي" الذي ترفعه، وبالتالي فهي قد تركت لإيران و"حزب الله" مهمة توجيه الاتهامات إلى "إسرائيل".

يتجلى أيضاً في اضطرارها لإبعاد إيران و"حزب الله" عن التحقيق ولو ظاهرياً، وبالتالي إشاعة جو من الغموض حيال التحقيق واحتمال تورطها فيه.
ويتضح كذلك في صعوبة توجيهها الاتهام لأي دولة عربية بالضلوع في تصفية مغنية لأن ذلك سينسف أي احتمال لعقد القمة العربية في دمشق أواخر هذا الشهر، وهذا لا ينفي بالمرة إمكانية فعل ذلك بعد القمة مباشرة.
بيد أن سوريا لن تقف مكتوفة أمام هذا المأزق المؤقت، والحل جاهز في الحقيقة للخروج منه، وهو المشجب "الإرهابي" التقليدي الذي ساندته دولة عربية هي بالتأكيد مناهضة للمشروع الإيراني في المنطقة ـ وفقا للتفسير المحتمل في الحافظة السورية ـ، وقد رَشَحت تمهيدات لهذا الاتهام ابتداء؛ فقد نشرت صحيفة القدس العربي نقلا عن مصادر سورية أن التحقيق "وصل إلى نتائج مهمة، لكن النظام السوري قرر التريث بالإعلان عن النتائج إلى ما بعد انعقاد القمة العربية في دمشق"، وقالت تلك المصادر أن "نتائج التحقيقات تشير إلى تورط مخابرات عربية سيتم الكشف عنها في مرحلة لاحقة"، وسربت الدعاية السورية أن شخصيات "لبنانية وفلسطينية متورطة في العملية"، وبعض تلك المصادر تحدث عن مدينة صور اللبنانية (ويلاحظ أنها مدينة تحوي ومحيطها سنة لبنانيين ومخيمات الفلسطينيين الجاهزة في الحس الطائفي لتحمل تبعة تصفية مغنية لاعتبارها الخاصرة الرخوة في المنطقة)، وبعضها تتحدث عن فلسطينيين مقيمين في سوريا وتحديداً أحد عناصر حماس وعراقي والحاصل واحد من الاتهامين.

وأيضاً دلت مؤشرات على احتمال تصعيد الموقف في هذا الاتجاه أيضاً من خلال معطيات أخرى؛ فقد قال رئيس "تيار التوحيد اللبناني" الوزير السابق وئام وهاب والحليف اللبناني لسوريا خلال محاضرة في حسينية بلدة القليلة: "بعد القمة العربية ستظهر الكثير من الحقائق قي قضية اغتيال الشهيد عماد مغنية. وحتما هناك الكثير من الأجهزة العربية وغير العربية متورطة في هذا الأمر". [لبنان الآن 3/3/2008]
والدولة الجاهزة مبدئياً لتحمل العبء هي الأردن التي سبق لها واتهمت إيران وسوريا بالسعي لإقامة "الهلال الشيعي"، وقد بدأت أبواق إعلامية محسوبة على النظام السوري في التسويق لهذه التهمة، والعجيب أن أول من صدر عنهم هذا الاتهام هم "الإسرائيليون"؛ فبعد يومين فقط من تصفية مغنية قالت: "لا يُستبعد أن تكون أجهزة استخبارات أخرى متورّطة في عملية الاغتيال، فيما يمكن أن يكون عملية مشتركة تضُـم الأردنيين الذين لديهم حسابات خاصة يجب تصفيتها مع السيد حسن نصر الله".

الأردن إذن هو الدولة المرشحة للاتهام أو الابتزاز عربياً، وربما لاحقاً دولة خليجية، وهو ما من شأنه أن يوتر العلاقات العربية بأكثر مما تعانيه اليوم، ويفضي إلى امتياز في المحاور والأحلاف العربية بشكل أكثر وضوحاً، لاسيما والاحتقان بادٍ للعيان تأسيساً على التصلب السوري في مسألة حل قضية الرئاسة اللبنانية، ما أزعج دولاً عربية محورية كمصر والسعودية اللتين حاولتا ممارسة ضغط على سوريا من أجل حل الأزمة اللبنانية عبر الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي فشل في مهمته التي كانت تهدف إلى لمساعدة الفرقاء اللبنانيين على اختيار رئيس جديد لهم.
وحكومة السنيورة التي لم تدع للقمة العربية بعد من قبل سوريا (التي تخشى أن يتم ذلك على أنه تدخل منها في شؤون لبنان وانحيازاً إلى طرف دون آخر!!) قد تكون قابلة لتحمل جزء من كعكة الاتهامات، وهي التي لم تتم دعوتها أيضاً للمشاركة في التحقيق حول تصفية مغنية رغم كونه لبنانياً، لاسيما وأن المدمرة يو إس إس كول الأمريكية عنوان الفشل الأمريكي في اليمن قد اقتربت من السواحل اللبنانية فساندت الموقف السوري سواء أدرى الأمريكان أم لم يدروا وحشرت حكومة السنيورة في زاوية الدفاع عن نفسها ضد اتهامات "حزب الله"!

القمة العربية بعد أن شاب عقدها بعض الغموض، عاد المسؤولون العرب ليأكدوا عقدها في دمشق، لكن ذلك لن يمنع من تصعيد محتمل بقوة لدى مراقبي الوضع اللبناني، على خلفية مغنية حيناً أو انطلاقاً من تداعيات الأزمة اللبنانية، وقد بدأت بعض ملامحه مع محاضرة وئام وهاب في حسينية القليلة التي قال فيها "أن المبادرة العربية لم تصل إلى مكان والأميركي سيحاول الهجوم علينا بوسائل أخرى، والسعوديون لا يريدون المبادرة مع الأميركيين ويحاولون ابتزاز سوريا بالقمة عبر القول سهّلوا الحل في لبنان لنسهّل لكم القمة، ولكن سوريا لن تبيع حلفاءها في لبنان مقابل قمة عربية لن تخرج بشيء".
والقمة إن عُقدت الآن أسدت دعماً كبيراً للمحور الإيراني وإن لم تعقد زادت العرب تمزقاً وعززت من مخاوف اندلاع الحرب في لبنان، وهذا هو الخيار الذي وضع العرب أنفسهم فيه..